موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

إلى يسوع من خلالِ مريم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
في عيد مريم العذراء سيّدة الورديّة المقدّسة

في عيد مريم العذراء سيّدة الورديّة المقدّسة

 

في كلِّ عام، وتحديدًا في السّابعِ من شهرِ تشرين الأوّل، تحتفلُ الكنيسةُ الكَاثوليكية، بعيدِ العذراءِ سَيّدةِ الوردية، معونةِ المسيحيّين وسيدةِ الانتصار. هو عيدٌ هامٌّ لَيسَ فَقط لأصلِه الدّينيّ، وارتباطِه المباشِر بالسّيدةِ العَذراء وَبِمسبَحتِها المباركة، إنّما أيضًا لِدَورِه الْمِحوري في مَنعِ حُدوثِ تحوّلٍ جَذري في تَركيبةِ القارّةِ الأوربيّة وَهُويّتِها آنذاك. فما هو أَصلُ هذا العيد، وَمَاذا يعني لنا، خصوصًا نحن أبناءَ الورديّة وبناتِها؟

 

بدايةً، دعونا نَتَحَدّث عن كيفيّةِ نَشأةِ صلاةِ المسبحة الوردية. كانَ المسيحيونَ يَعدّونَ أَعمالَهم التَّقوية وصلواتِهم، مُستخدمينَ طَريقَتَين في العَد: الأولى بِوَضعِهم كمّيةً من الحبوبِ أو الحجارةِ الصّغيرة في جيبٍ، وعند كلِّ عملٍ أو تَعبُّد، يَنقلونَ حجرًا أو حبّةَ حبوبٍ إلى جيبٍ آخر. والثّانية كانَت بأن يمسكوا حبلًا معقودًا بعددٍ من العُقَد، فينقلونَ إبهامَهُم بينَ العُقدةِ والأخرى. وعندَ قيامِ الأديرة ونشأةِ الأنظمةِ الرّهبانية مع القرنِ الرّابع، كان الرّهبانُ يُصَلّون المزاميرَ المائة والخمسين مجتمعين.

 

ومع مَطلعِ القَرنِ الثّالثِ عَشر، عَرَفَت الكَنيسةُ قديساً من إسبانيا، يُدعى دومنيك أو عبد الأحد. وهو مُؤسِّسُ رهبانيّةِ الدومنيكان. وقَد عُرِفَ عنه إكرامُه الشّديد للعذراءِ مَريم. وحدثَ في تلكَ الأيام أن جماعةً في جنوب فَرنسا، قد اِنحرَفت إلى طريقِ الهرطقة، وَخَرَجت عن مسارِ الإيمان. فَأَرسَلت الكنيسةُ إليهم الرّاهبَ دومنيك، لإرشادِهم وَرَدِّهم إلى جادّةِ الإيمانِ القويم. وَيُحكى أنّ العذراءَ مريم قد ظَهَرَت للقدّيسِ دومنيك، وبيدها مسبحة، قائلةً له: (لَن تَنجحَ بِبراعةِ الكلام، بل بهذهِ الْمَسبحةِ التي بِيَدِكَ! فأنا مَعَكَ، وَمتى هَديتَهم، علِّمهم أنْ يُصلُّوها). وكان ذلك سنة 1213 م.

 

حينَها كانت الوردية (السّلامُ عليكِ) تتألّفُ من المقطعِ الأوّل الْمُستَنِدِ على كلماتِ الإنجيل، أي الكلماتِ الّتي بها حَيّا الملاكُ جبرائيل مريمَ يومَ بشارتِه لها، والكلماتِ الّتي بها حَيّت أليصاباتُ مريمَ يومَ زيارتِها لها (راجِع لوقا 26:1-45). ومع القرنِ الرّابع عشر، تم إضافة المقطع الثّاني إلى صلاةِ الورديّة، وهو الجزءُ الّذي يستنِدُ على إيمانِ الكنيسة بأمومةِ مريم والدة الإله، كما أُقرَّ مجمع أفسس سنة 431.

 

وعندما انعقدَ مجمع ترانت (1545-1563) أعلنَ في دستورِه التّعليمي، قائِلًا: ((لِقد أضافَت الكنيسةُ المقدّسة، إلى صلاةِ الحَمدِ هذه، هذا الالتماس (يا قدّيسة مريم...)، إلى والدةِ الله القدّيسة مريم. ولذلِكَ يَنبَغي أن نلتَجِئَ إليها، بتقوى وتضرُّع. فَبِفضلِ دورِها تصالحَ اللهُ مَعَنا، نحن الخطأة، في المسيح. وَبِشفاعتِها ننالُ البركة الّتي نحتاجُها لهذهِ الحياةِ الآنيّة، وللحياةِ الأبدية الّتي نرجوها)).

 

ومنذ ذلكَ الحين، أَخَذَت صلاة المسبحة بالانتشارِ، كصلاةٍ من خلالِها نتأمّلُ في الأحداثِ الرّئيسة من حياةِ يسوع، وأيضًا كوسيلةٍ فَعّالة لاستمطارِ النّعم، بشفاعةِ العذراءِ مَريم. تَألَّفَت المسبحة من ثلاثِ مجموعات/ أسرار: الفرح-الحزن-المجد. إلى أن أضافَ إليها البابا القديس، يوحنا بولس الثّاني، أَسرارَ النّور سنة 2002. وقُسِّمَت الأسرارُ على أيّامِ الأسبوع: فصارَت أسرار الفرح تُتلَى يوميّ الاثنين والسّبت، والحُزن يَوميّ الثلاثاء والجمعة، والمجد يوميّ الأربعاء والأحد، وأخيرًا أسرار النّور يوم الخميس.

 

أمّا المسبحة كأداةِ صلاة فإنّها تتألّف من عِدّة أجزاء، وكل جُزء مخصّص لصلاةٍ مُعيّنة: في مُقَدّمة المسبحة نَجِدُ صليبًا، بِه نرشم أنفُسَنا ثم نتلو قانون الإيمان/ حبّة كبيرة مُنفَرِدَة مُخصَّصة لتلاوةِ الصّلاةِ الرّبية/ يَتبَعُها ثلاثُ حَبّات مُتَتاليات مُخصَّصة لِتلاوة السّلامُ عليكِ، بَعدَهَا يمكن تلاوة تمجيد الثّالوث الأقدس/ حبّة كبيرة مُنفرِدة مُخصّصة لتلاوة الصّلاة الرّبية من السّر الأول للمجموعة الّتي يتمّ التّأمّل بها/ يتلوها خمسُ مجموعات كنايةً عَن خمسةِ أسرار. وكلّ مجموعة تتكوّن من عشرِة حبّات، لتلاوة السّلام عليك، على أن تبدأَ كلّ مجموعة بالصّلاةِ الرّبية وتنتهي بِتَمجيد الثّالوثِ الأقدس. وفي نهاية المجموعةِ الخامسة الأيقونَة، وبها نختم الْمسبحة بتلاوة السّلامُ عليكِ يا سُلطانَة.

 

أمّا تَسميتُها بالورديّة (Rosary)، فَلأنّ الكنيسةَ قد رأت فيها، باقةَ وُرودٍ روحيّة، على شكل عِقد، يُهديها المؤمنون أثناء تلاوتهم لها، إلى أُمِّهم مريم.

 

وهنا لا بدَّ لنا من الإشارة إلى أنّ هناكَ حالة عامّة من عدمِ الفَهم الكافي لطبيعةِ هذه العبادةِ التّقويّة. فالمؤمنون غالِبًا ما يَتلونَها مُعتقدينَ فقط أنّها صلاة موجّهة إلى العذراءِ مريم. جزءٌ من هذا الاعتقادِ صحيح ولكنّه ناقص. فَفي الحقيقة، صلاةُ المسبحةِ الورديةّ هي عبادة وُضِعَت للتأمّلِ في حياةِ يسوع، من خلالِ مَريم. وكما قال القدّيس لويس دي مونفورت: إلى يسوع من خلالِ مريم. فنحن كَمريم، نحفظ جميعَ أحداثِ حياةِ يسوع في قلبِنا (لوقا 51:2)، محاولين، مَعها ومِثلَها، فهمَها والتّأمّلَ فيها.

 

كيفَ نَشَأَ عيدُ سَيّدة الوردية؟ هذا العيدُ لهُ شأنٌ خاص لدينا، فهو عيدُ رَعيّتِنا: سَيّدة الورديّة. حيثُ تحتفِل الكنيسةُ الكاثوليكيّة بعيد سيّدة الوردية أو كما يُعرف "سَيّدة الانتصار"، إحياءً لِذكرى اِنتصارِ الجيوشِ الْمَسيحية على الجيوشِ العُثمانيّة، في معركةِ ليبانتو البحريّة قُبالةِ سواحلِ اليونان، والّتي وَقَعت في السّابع من شهر تشرين أوّل لعام 1571، والّتي كانت لحظةً محفوفةً بالمخاطرِ، وحاسمة في تحديدِ تاريخ أوروبا والعالم.

 

فبعد سقوطِ القُسطنطينيّة واحتلالِ الإمبراطوريّة البيزنطية، على يد الاتراكِ العثمانيّين سنة 1453، توسّعت دائرة سيطرتِهم وازدادَ حجمُ نفوذِهم بَرًّا وبحرًا. وَصاروا يوجّهون أنظارَهم لِغَزو أوروبا الغربية، وبالذّات روما معقلِ المسيحية وقلب الكنيسة الكاثوليكيّة.

 

حينَها شَعر البابا بيوس الخامس بهذا الخطر، فَطلبَ إلى ملوكِ أوروبا وقادتِها المسيحيين، التّوحّد في حِلفٍ واحدٍ لِمواجهةِ هذه الأطماعِ. وفي نَفسِ الوقت طَلبَ إلى المؤمنين صلاة المسبحة الوردية، التماسًا لشفاعةِ العذراء وطلبًا لحمايتها، في دَرئِ هذا الخطرِ الدّاهمِ الّذي يتهدّدُ الكنيسةَ والمؤمنين. وفي يومِ المعركة صَلّى طاقمُ الأسطولِ المسيحي، المكوّن من أكثر ِمن 200 سفينة، المسبحة الوردية، ومعهم كل العالم المسيحي، بقيادةِ البابا بيوس الخامس.

 

وفعلًا، كانَ النّصرُ حليفَ الجيوشِ المسيحيّة، والّذي عزاهُ البابا إلى تَدخّلِ العذراءِ وَشَفاعتِها، الّتي استُدعِيَت بكثافة يوم المعركة. وَمُنذ ذلك الحين صارَ هذا اليوم يومًا للاحتفال بعيد سيدةِ الورديّةِ والانتصار، وَمَعونةِ المسيحيّين، تخليدًا لِدَورِها الشّفاعي وقلبِ الموازيين.

 

ماذا يعني لنا هذا العيد؟ للورديةِ مَعانٍ كثيرة. ولا أعتقِدُ أنّ الوقتَ يُسعِفُنا لإجمالِها كلّها. ولكن، مَن منّا لم يُصلّي الورديّة يومًا، أَو مَن منّا لم يرَ حَبّاتِها تنهمرُ كقطراتِ النّدى بين يديِّ جدودنا وجدّاتِنا؟! الورديّة من أحبّ الصّلواتِ إلينا، ومِن أكثرِها تلاوة وتأمُّلًا، وأبسطِها للمؤمنِ التّقي.

 

الورديّة تُغني عن آلافِ دروسِ الّلاهوت، فَفي أسرارِها خلاصةُ الّلاهوت لِمَن يتفكّر جَيِّدًا. فَمِنَ التّجسدِ والميلاد، مرورًا بالمعموديةِ وتأسيسِ الإفخارستيّا، وصولًا إلى الموتِ على الصّليب، وبلوغِ أمجادِ القيامةِ والصّعود، وختامًا مع انتقالِ العذراء وَتَكلِيلِها المجيدِ سلطانةَ السّمواتِ والأرض، هذا كلّهُ زبدةُ إيمانِنا وعربونُ رجائِنا ولهيبُ محبِّتِنا.

 

يقول البابا لاون الثّالث عشر، والّذي عُرِفَ بإكرامِه الشّديد للعذراء مريم: لَطَالَمَا كانت عادةُ الكاثوليك الْمُعرّضين للخطرِ وفي الأوقاتِ العَصيبة، أن يُسرِعوا إلى مريم كَمَلاذٍ آمِنٍ يَلتجؤون إليه ويحتمونِ به... هذا الإخلاصُ الكبير والثّقةُ الخالِصة، تجاهُ مريم سلطانة السموات، سَطَعَ بأبهى صورِه وأكثرِها تألُّقًا، عندما كانت كنيسةُ الله تحتَ تهديدِ البِدَعِ والهرطقات، وَهَجماتِ الأعداءِ والطّامعين...

 

في هذا اليوم السّعيد، وفي غَمرةِ هذا العيدِ المبارك، نرفعُ الصّلاةَ لأجلِ رهبانية الوردية الأورشليمية المقدّسة، لأجل راهباتِها الأحياء، وأيضًا لأجلِ الرّاقدات، خصوصًا مَن خَدَمن في الكرك، منذ عام 1905. ولأجل أُختَينا دوميتيلا ووفاء. ولأجلِ الدّعوات الجديدة الْمُنتَمية إلى هذهِ الرّهبنة.

 

وكلُّ عامٍ ورعيّتُنا والمسيحيون بألف خيرٍ ونعمة وسلام