موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢١ أغسطس / آب ٢٠٢١

إلى مَن نذهب يا رب وكلامُ الحياةِ الأبديةِ عندَك

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
إلى مَن نذهب يا رب وكلامُ الحياةِ الأبديةِ عندَك

إلى مَن نذهب يا رب وكلامُ الحياةِ الأبديةِ عندَك

 

إيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في الْمسيحِ يسوع. مَع الأحدِ الحادي والعشرين من زمنِ السّنة، نُنهي قراءةَ أَجمل فصولِ بشارةِ يوحنّا: خُبزُ الحياةِ الحق، وشرابُ الحياةِ الأبديّة. هو فَصلٌ كانَ عسيرًا لكثيرٍ من تَلاميذِ يسوع، لذلكَ نَستهِلُّ قِرَاءَتنا الإنجيلية، بموقفِ تذمُّرٍ من داخلِ الحلقةِ لا مِن خارِجِها، بل هو طُعنٍ في الصّميم: "هذا كلامٌ عَسير، مَن يُطيقُ سماعَه؟". موقفُ الكثيرِ من تلاميذِ يسوع، كانَ مَوقِفًا سلبيًّا للغاية! ومع هذا الاستهلالِ الهجومي والجاحِد، نُنهي قراءَتنا بموقفٍ آخر مُغاير تمامًا، هو موقِفُ بطرسَ الإيماني، والقابِلُ لإرادةِ الله، والطّائعُ لرسومِه ووصاياه: "إلى مَن نذهب يا رب وكلامُ الحياةِ الأبديةِ عندَك؟ ونحنُ آمنَّا وعرفنَا أنَّكَ قُدّوس الله".

 

مع المسيحِ مَواقِفُنا تَتَبَاين، وَأمامَ المسيحِ رَدّاتُ فِعلِنا تختلِف! وهذا الاختلافُ لا يكون فقط على مستوى الأشخاص، بل أيضًا على مستوى الشّخصِ نفسه. فَمَن مِنّا لم يختبر يومًا مواقفَ، فيها كانَ كَبُطرس مع المسيح، يُعلن فيه إيمانَه الْمُطلَق غير القابلِ لِلجدال؟ وفي نفس الوقت، مَن منّا لم يختبر مواقفَ تَرَدّدَ فيها، أو شكَّ أو تذمّرَ، أو حَتّى رَفضَ وجحدَ وانسحبَ بعيدًا؟!

 

علاقتُنا مع المسيحِ في أغلبِ الأحيانِ هي علاقةٌ هوائيّة، تتأرجحُ بِتأرجُحِ المواقفِ وتهتزُّ حَسبَ الهبّات: بَينَ نعم ولا، بينَ مع وضد، بينَ اقترابٍ وانسحاب، بين صعودٍ وهبوط، بين انبِساطٍ وانقِباض، بينَ سعادةٍ وكآبة، بينَ وضوحٌ وغُموض، بين إيمانٍ وقبول، وبينَ رفضٍ وتَمرُّد! علاقتُنا مَعَه لم تصِل بعد حدَّ الإيمانِ الثّابت الْمَبني فعلًا على الصّخر!

 

فَحَتّى بطرس صاحبُ التّصريحاتِ الأكثرِ شهرةً والمواقفِ الأكثرِ إثارة بينَ الرّسل، أَتَتهُ لحظاتٌ فيها خافَ وتردّدَ حتّى جَبُنَ وأنكر، لَيسَ مرّة بلا ثلاث! ليسَ ذلك فحسَب، بل أنّه قد تَكبّر أحيانًا على مُعلِّمِه، فَادَّعى زَهوًا وغُرورًا، ما لم يَستَطِع أن يُوفيه ويحقِّقَه!

 

أيّها الأحبّة، ليسَ الإيمانُ بطولاتِ عنترة، ولا صولات أبي زيد الهلالي، ولا كبرياء الْمُتَنبّي... الإيمانُ تواضعٌ أمامَ عَظمةِ الله، وسجودٌ أمَامَ سرِّه السّامي، وخصوصًا سرّ الإفخارستيّا العظيم. الإيمانُ هو قدرةٌ على قبولِ الأمورِ الصّعبة والأحداثِ المؤلِمَة، الّتي قد تُصيبُنا ونتعرّضُ بين الحينِ والآخر، وهو قبولٌ يملأهُ الرّجاء باللهِ الّذي يُخلّص ويشفي. لأنَّ هذهِ المواقف هي فعلًا ما يُظهر حقيقةَ إيمانِنا وجوهرَه وأصالةَ مَعدَنِه.    

 

نعم، لقد اِرتدَّ كثيرٌ من تلاميذِ المسيح، وانقطعوا عنِ السّيرِ معه، عندَ نهايةِ هذهِ الملحمةِ الإنجيلية. تخلّوا عَنه، ونبذوا كلامَه ورفضوه، لأنَّه كانَ صعبًا عسيرًا، فَلَم يجدْ إلى عقولِهم مدخلًا، ولا إلى قُلوبِهم سبيلًا. تركوه وساروا في طريقٍ أُخَر، لأنّهم كانوا كالأرضِ الحجِرة: لا أصلَ فيهم ولا عمقَ لهم، لِنَماءِ الكلمةِ في بواطِنهم، ولأنّهم كانوا كالأرضِ الْمَليئةِ بالأشواكِ الّتي نَمَت فيهم حتّى صارت رغباتٍ مريضة، فَخَنقَت الكلمةَ فيهم! ومع ذلك، وَبِالرّغم من الصّعوبة وبالرّغم من التّحديات، وبالرّغمِ من عدمِ الفهم وضبابيةِ الأمور أحيانًا، لم يبقَ مع المسيح إلّا فئةٌ قليلة، تلكَ الّتي اختارتِ النّصيبَ الأفضل، وظلَّت مُلازِمةً له، وفيّةً أمينةً لِتَعالِيمِه وكلامِه.

 

كثيرونَ هم الّذينَ عرفوا المسيح، وكثيرونَ هم الّذين سمعوا عنه، وقرأوا إنجيليه، وَمَحّصوا فَحوى تعاليمَه، ولكن قليلونَ هم الّذين عَاشَوا فعلا وعَمِلوا بما أوصى وعلّم: ذلِكَ بأن: "ليسَ مَن يقول لي: يا رب، يا رب يدخل ملكوتَ السّموات، بل من يعمل بمشيئةِ أبي الّذي في السّموات". (متّى 21:7).

 

"أفلا تُريدون أن تذهبوا أنتم أيضًا؟" (يوحنّا 67:6) يا أحبّة: إنْ كانَ يسوعُ يَدعونا إليهِ نحنُ الْمُتعبينَ الْمُثقلين، إلّا أنّه يتركُ لنا دومًا حرّيةَ البقاءِ أو الرّحيل. فهو لا يريدُ عَبيدًا خائفين، بل أبناءَ أحبّاء قادرين أن يُجيبوا بقناعةِ إيمانيّة متأصّلة لا غِشَّ فيها: "إلى مَن نذهب يا رب وكلامُ الحياةِ الأبديةِ عندَك؟" (يوحنا 68:6)