موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

إفَّتِح، أي إنفتح

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
إفَّتِح، أي إنفتح

إفَّتِح، أي إنفتح

 

الأحد الثالث والعشرون، مرقس 7: 31-37

 

ما مِن إنسانٍ له الحق، أن يولد غنيّا ويعيش بصحة جيّدةٍ كلَّ أيٍام حياته. وهذا يعود إلى عدالة الله، فهو لا يقاصص ولا يكافئ على أرضيّة الميلاد. ماذا كان جوابه للذين سألوه عن شابٍ، وُلِدَ أعمى منذ ولادته؟ مَنْ أخطأ؟ أهو أم أهلُه حتى وُلِد أعمى؟ فقال يسوع: لا هو ولا أهله. لكن لكي تتمجّد أعمال الله فيه. ولذا فرحة البشر العارمة اليوم، بعد ما شفى الأصمَّ الأخرس، الّذي سمعنا عنه، والّذي راح يتكلّم بلسان طلق، وانعتقَ من وَحْدَتِه الّتي عاش فيها حتّى اليوم. أليس هذا سبباً لشُكر الله، لأنه صنع لنا كل شيءٍ حسن. ألا نُعطي أم الشّاعر الألماني جوته حقّاً. كانت مؤمنة مُخلصة، فجاء في رسالةِ منها لإبنها: لو بدأنا نشكر الله على كل شيء في حياتنا، لأنَّ كلَّ شيءٍ منه، فلن يبقى لنا الوقت، لطلب أيِّ شيءٍ جديد!

 

العمى والطّرش، مرضان ثقيلان على من هو مصاب بهما. والأرجح أن الطّرش أصعب من العمى، إذ المُصاب به، ولو عنده آذاناً فهو فعلا لا يسمع، له لسان، لكنه لا يستطيع النّطق. لذا فهو منعزِلٌ تماما عن حياة البشر. إذ هذه الحياة قائمة، ليس فقط على الحياة مع بعض، بل وعلى الحديث مع بعض، والمشاركة، قولا وفهما في الحياة اليومية. لكنَّ هذه الناحية من الحياة، غريبة للأصم الأطرش. فالحياة تمرُّ عنه، وهو لا علم له فيها. فالحديث مع بعض، ومبادلة الآراء، هي ميِّزة خاصّة بالإنسان، وبدون هذه الميّزة، لا طعم للحياة. وبدونها أيضاً يدخل الإنسان في عالم الحيوان، إذ لا يستطيع التعبير عن أرائه وشعوره. فمن لا يشعر بشفقة يسوع على أطرش اليوم، الّذي شفاه بكلمة إيفّتا، أي إنفتح، والّتي منها نفهم، أنه لكلِّ داءٍ عند الله دواء. إذ معه هو بدأ تاريخ صنع العجائب، والعجائب لا تحدث إلاّ بقوة الله. وهي ما دفعت تهافت النَاس حواليه، فراحوا يجلبون مرضاهم إليه، كما يذكر متى: "وكان يسوع يطوف كلَّ الجليل، يُعلِّمُ في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كلَّ مرض وكلَّ ضعفٍ في الشعب" (متى 23:4). وفي إنجيل اليوم قد سمعنا: "قد أبدع في أعماله كلها، إذ جعل الصّمَّ يسمعون، والخُرس يتكلّمون" (مر 37.7)

 

أما المستشفيات والأدوية فما عرفها العالم رسميّا إلا منذ القرن السادس عشر مع القديس فينسانز دي باول، مؤسّس الكاريتاس اليوم.

 

إيفّتا! هذه الكلمة لها مكانها وطقسها في حفلة العماد، وفي كلِّ كنائس العالم، وهي رتبة طرد الشياطين أو روح الشرير، التي يجلبها كلُّ طفلٍ معه بالولادة، بعد وقوع الإنسان في الخطيئة الأصلية. ففي العماد تُمسح أُذُنا الطفل، وفمه بالزيت المقدس مع إشارة الصليب، كي يبدأ بسماع الخبر السّار بأذنيه، والتبشير بها بفمه حينما يكبر. أعني يصبح كل مُعمّد، مُبشِّرا منذ طفولته. وبحفلة التثبيت تبدأ هذه الوظيفة فعليّاً.

 

للأسف ما عاد الإحتفال بالعماد شيئاً اعتياديا واسع النّطاق ومفهوماً من الكل كالسابق. هذا والأسباب عديدة، أهمُّها قِلّة المواليد، وهذا يعني أيضا قلّة حفلات العماميد. فكثيراً ما تأتي عائلة لتُسجِّل عماد مولودها، فيبدو من سياق الحديث، أن هذه العائلة لم تعش بعد أيّةَ حفلة عمّاد في حياتها، ولريّما ستكون هذه الحفلة ليس فقط الأولى بل الآخيرة لها. إذن لا علم لها بمفهوم ومجرى بل ومحتوى هذه الحفلة. من هنا أيضاً مشكلة الكاهن، الّذي سيقوم بمنح العماد، أن يشرح لهم طقس هذه الحفلة كما يريد، ويفهمهم معناها للحياة المسيحية، وأهمِّيَّة هذا السّر بإشاراته ورموزه المُتعدِّدة. فالمعموديّة هي ليس فقظ غسل جبين الطفل بنصف كوبِ ماءٍ مُقدّس وإعلانه مسيحياٌ جديداٌ، بل هي تقوم على طقوس وإشارات يجب شرحها بالتفصيل للآهل. ومن ضمن الرّموز والإشارات، دور طرد الرّوح النجس، الذي ذُكر في إنجيل اليوم. كل ذلك في جلسة قصيرة. هناك تفاصيل يبدو من الحديث معهم، دنيوية مادّية لهم، أهمُّ بكثير من شروحات الكاهن، وهي اختيار الأشابين، عادة الأغنياء منهم ،هم المفضَّلين، وأين ومَن يعزمون. وأمّا أنَّ طفلهم، يحصل بالمعمودية على شرفٍ كبير، بحيث أنّه يُصبح ليس فقط عُضوا في الكنيسة الجامعة، ولا فقط تِلميذا ليسوع، بل وأخا له وبالتالي إبن الله، فيبدو هذا الحدث غريبا عليهم وغير مُهم. كذلك أنَّ الكنيسة تُعلِنهم كَمُعلِّمي دينٍ مباشر لابنهم، ما دام في حضنهم وبقربهم، فهذا لا جدال ولا بديل له، لكنه أيضاً جديد للكثيرين من الأهالي، الّذين منهم أيضا غير مُقتنعين بضرورة عمّاد الأطفال. كل هذه التعليمات، يريد الكاهن أن يشرحها للأهل بجلسة. وأنا أعتبره حديثاً جيداٌ، على شرط ألاّ يبقى حديثا فرديّا، أعني فقط من الكاهن. فهذه مناسبة نادرة، يجب أن يستغلّها الطرفان، أوّلا الكاهن، ثم الأهل، كي يفهموا مسؤوليتهم الرّوحية والدّينية، تـُجاه أولادهم، في هذا العالم، الّذي ما عاد الدّين يلعب فيه أي دور، في كثير من المواقف الإجتماعية. فهو فعلا بحاجة لطقس التّعزيم، أي طرد الأرواح الشرّيرة، التي، كما قال عنها بطرس في رسالته تجول كالأسد المفترس لتبتلع من تُصادف. فكم من مرّة تَصادم يسوع مع مثل هذه الأرواح وطردها من الواقعين في قبضتها. فالعماد هو الوقت المناسب، لتنقية نفس الطفل من قبضة الرّوح الشرير، التي يجلبها معه كلُّ مولود، منذ الخطيئة الأصلية، فيجب تنقية نفسه من هذا الضعف، وهكذا يُصبح ميّالاً لعمل الخير، لأن حياة الإنسان، إن لم تكن  بحماية ربّه وخالقه، لا تستطيع أن تأتي بثمار:  "بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً". لذلك أيضا بعد صلاة التعزيم، أي الإيفتا، أعجوبة اليوم في الإنجيل

 

 تأتي حفلة مسح آذان الطفل وفمه بالزيت المُقدَّس، تهياةً لهما واستعداداً لبداية سماع كلام الله والتبشير به. هذا هو إيماننا، أن الله أثناء هذه الحفلة، يفتح لنا آذاننا وفمنا لنبدأ بسماع كلمته ونخبر عن أعماله الكبيرة، إذ كل مُعَّمد، مُمَثَّلا بأهله وأشابينه، ما دام لم يبلغ العمر القانوني، مُبشِّرا بإعطاء شهادة عن الإيمان. فهل نلاحظ اختلافا في سلوك المعمّد والمؤمن في الحياة اليومية عن غير المؤمن؟ إذ المُعمَّد هو إنجيل يسوع الحي في العالم.

 

هناك علاماتٍ كثيرة، تدلُّ على أنَّ كثيرين من المُعمَّدين، لا يتصرّفون في حياتهم اليومية، بل لا يختلفون في تصرُّفاتِهم عن غير المُعمَّدين. فهذا دليل على أنَّهم لم يفهموا قيمة الإيمان للحياة، ولم يُغذّوه بتصرفاتهم اليومية.

 

الإيمان هو هدية من الله لا عن استحقاق شخصي، أو انتساب لكؤسّسة دينية معروفة، فيتم تفضيل هذا أو ذاك على غيره، وإنما باختيار إلهيّ. فنتساءل: لماذا نحن، الموجودين في القداس اليوم، قد نلنا هذه النعمة، وغيرُنا، آلافٌ مُؤلّفة، لم يسمعوا بعد عن المسيح المخلّص؟ كلُّ ما نقدر أن نقوله هو: هذه خِطَّة الله. نعم نكرِّر، الإيمان هو عطية من الله، فعلى الإنسان أن يُقدِّر هذه النعمة، ويحميها في حياته. من المضحك لي، أنّه كثيرا ما كانت تصلني معاملات، لعِلْمِ من يهمُّه الأمر، من بلديات الرّعايا التي كنت أخدم فيها، مفادها. فلان... يُعلن خُروجه من الكنيسة! كأن الكنيسة نادي رياضي أو حزب سياسي! فمن يفتكر أنه يحق له فعلا الخروج من حماعة المؤمنين، فهو فاقد العقل ولا يفهم عمق الإنتماء إليها. فمَن قَبِلَ سرَّ المعمودية، ومُسِحَ بالزيت المقدّس على جبينه، خُتِمَ بخاتم أبديٍّ لا يُمحىى إلى الأبد. هو يعني فقط أنّه ما عاد يُمارس إيمانه بالفعل، لا علنياّ ولا في الخفية. وأمّا مسيحي، فهو يبقى مسيحي وإلى الأبد. من يُعلن خروجه من الكنيسة، هو كمن يُعلن، أنِّ أباه الجسدي، ليس أباه. فمن هو إذن أبوه؟ فنظريّته بخصوص الخروج من الكنيسة هي خاطئة، ومُغرضة، وسببُها الأوّل في أوروبا معروف، وهو توفير الضريبة الكنسية، وهذا يعني بلغة التّوراة: خيانة يسوع مثل يهوذا، وبيعه بثلاثين من الفضّة. فَمَنْ نلومُ يا تُرى، عن موت الإيمان؟ المُلام الأوّل هو صاحب الإيمان، لأنّه لا يعمل شيئا ليبقى الإيمان حيّا فيه. قالت الأم تريزا: من يؤمن يُصلي، ومن يُصلّي يُؤمن. فهو كصاحب الوزنات، الذي بَدَلَ أن يُتاجر بها ليربح غيرها، راح ودفنها في الحقل، إلى أن رجع سيّدُه، فحاسبه وقاصصه عن عدم الإتّجار بها. هكذا الإيمان، فهو كنز ثمين في اليد، وهو علامة محبَّة الله. فمن لا يمارس إيمانه فهو يرفض محبّة الله له، وبالتّالي هو الخاسر.

 

ممارسة الإيمان الجماعي هو عمل ناجح وتقوية للإيمان الفردي. فمن يعيش إيمانه مع مجموعة، كحضور القداس مثلا، نجدهم كلُّهم فرحين ومتسامحين، يسود بينهم السّلام والأخوّة والإستعداد الجماعي لمساعدة المحتاجين، كلٌّ حسب مقدرته، إذ المسيحي هو في اليوناني : "كريستوفوروس"، أي حامل المسيح من بيته إلى قلب المُجتمع، الّذي يعيش فبه. ويطيب لنا في هذا المجال أن نتذكر كلمة القديس أمبروزيوس للمعمَّد: يا مسيحي! إعرف قيمتك!

 

فلا يوجد مسيحي زائد في المجتمع نستغني عنه وعن شهادته، بل كل مسيحي هو مهم لتحسين هذا العالم. لقد دعانا يسوع كلّنا لنتبعه في هذا العالم، ونبني ونصلح معه، بحياتنا وبشهادتنا، لتحسين الواقع الذي أدخلته الخطيئة فيه. وأنا متأكِّد، أنَّ كلَّ واحدٍ فينا، بوسعه أن يكون صورة المسيح الحي، إذا ما أجهد نفسه، في التّسامح وبناء السّلام حواليه، إذ، كما قال يسوع عنا: أنتم نور العالم، الّذي يجب أن يُضئ قدام النّاس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويُمجِّدوا أباكم السّماوي" (متى 16:5). يا رب! إفتح لنا عيوننا وشفاهنا كي نمجِّدك. إفّتا! آمين.

 

 

المعمودية

 

قال صاحبُ المزاميرِ بالخطايا وَلَدَتْنِي أمّي

إذِ ارْتِباطي بآدَمَ وحوّاءَ ثابتٌ فِعْلاً في دمي

 

هذا ما أَسْمَتْهُ الكنيسةُ بالخطيئةِ الأصلية

فهِيَ أُوْلى ما اقْتَرَفَ أدمُ وحواءُ بالعَمَلية

 

نَحْنُ نَسْلُهُمْ نُولَدُ في العالَمِ مِنْها مصابين

عِلاجُها عند الله لا عِنْدَنا نحنُ المساكين

 

هذا العلاجُ هُوَ سِرٌّ مِنْ أسرارِ الله السبعة

مفعولُهُ تَنْظيفُ نَّفْسِناِ مِنَ الخطيئةِ روعة

 

الإنتقال من خطيئة أبوينا يُشَبِّهُه بولسُ بالتطعيم

فَمِنْ شَجْرَةٍ بَرِّيَةٍ تُصْبُحُ شَجْرَةً تُعطي ثَمَراً سليم

 

المعموديَّةُ إِسْمُ هذا السرِّ يملأُ قَلْبٍنا حُبّاً ونور

فيَجْعَلُنا رُسْلاً لِلأحياءِ لا لِمَنْ هُمْ في القبور

 

نِعْمَةُ الله الّتي تَحِّلَّ علينا بهذا السِّرِّ تُعطينا قوّة

لِنُقاوِمَ الشَّرَّ وتَحْمِي سُقوطَنا مُجَدّداً فِيْ الهوّة

 

بِها نَنْتَمي للعائِلَةِ الكبيرَةِ عائِلَةِ أخينا يسوع

وِهْيِ كالسُّلَّمِ نَسْتعينُ بِهِ للطُّلوعِ والرجوع

 

فيها يَكْفُرُ المُعمَّدُ بالعالَمِ وبِإِبْليسَ وأباطيلِه

ويَعِدُ أَنْ يَعيشَ للربِّ ويُحافِظَ على أقاويلِه

 

رُمُوزُها كثيرةٌ أَوَّلُها تَطْهيرُ الجبينِ بِماءِ العُمّاد

الجبينُ كَمَرْكِزِ الإِرادَةِ والتَّطْهيرُ منه هُوَ سماد

 

تُلْبِسُهُ الكنيسةُ ثَوْباً أبْيضاً رَمْزَ النَّقاوَةِ مِنَ الأساس

الَّتي تَمْلأُ قَلْبَهُ فلا يَعودُ إِبْليسُ قادِراً على المساس

 

ثُمَّ المَسْحُ بِزَيْتٍ مُقَدَّسٍ يَحْعَلُ مِنْهُ كاهِناً ومَلِكا

لا لِلْحُكْمِ بَلْ لِلْخِدْمَةِ وَهْيَ مُهِمَّةٌ شريفَةٌ لِيْ ولكَ

 

يا مُعمَّد أنت تُصبح إبنَ أبيكَ الّذي في السّماء

وتبقى إبنَ أبيك هُنا على الأرْض سواءً بسواء

 

هذا ولا نَنْسى تَسْليمَ المُعمَّدِ شَمْعَةً مُضاءَةً لمّاعة

يَحْمِلُها أَهْلُهُ نِيابَةً عَنْهُ ِكُلَّ طَريقِ حَياتِهِ لا لساعة

 

وأخِرُها رَسْمُ إشارَةِ الصّليبَ على أُذُنَيِّ المُعَمَّدِ وفمه

لِفَتْحِمَها لِسَماعِ كَلِمةِ الله والتّبشيرِ بها جَهْراً لا بقلمه

 

هذي الإشاراتُ هِيَ عَلامَةُ قُرْبِنا لِجماعَةِ المؤمنين

تَجْعَلُ مِنّا هيكلاً مُقدّساً وبهِ نَصيرُ وُرَثاءَ القديسين

 

إلى جانَبِ الأَهْلِ هُناكَ دورٌ كبيرٌ للأشابينِ فعّال

فَهُمْ وأَهْلُهُ يَحمِلونَ مَسؤولِيَّةَ التَّرْبِيَةِ إذ هُمُ العمال

 

بَيْنَ الأَسْرارِ السَبْعَةِ الّتي نَحْتاجُها في هذي الحياة

تبقى المعمودِيَّةُ أوّلَها إذِ الحياةُ تَأْتِي نَعَمْ مِنَ المياه

 

فلولاها لَما اسْتَطَعْنا التَّعَرُّفَ على الله بسهولة

وما عَرَفْنا بِوجودِ حَياةٍ أَبَدِيَّةً لَنا عِنْدَهُ معقولة

 

 

تمّ نظم هذه القصيدة يوم الإثنين 03|08|2020

أذيعت لأوّل مرة من راديو مريم

 يوم الأربعاء 2021.01.06 الساعة 22.10 مساء