موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٤ ابريل / نيسان ٢٠٢١

إذا شاركناهُ في آلامِه، نُشارِكُه في مَجدِه أيضًا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أحد الشعانين: إذا شاركناهُ في آلامِه، نُشارِكُه في مَجدِه أيضًا

أحد الشعانين: إذا شاركناهُ في آلامِه، نُشارِكُه في مَجدِه أيضًا

 

أيُّها الأحبّة أينَما كُنتم، وَفي أَيّ حالٍ كُنتم، سُعداء أَم أَشقياء، فَرحين أم مَحزونين. ها نحنُ بعدَ انقطاعٍ مَرير دامَ عامًا كامِلًا، فُرِضَ عُنوةً لا رَغبة، نظرًا لأحوالٍ صَعبَة عَصَفت ولا تزالُ تَعصِف، بِنَا وَبِالأسُرةِ الإنسانية كلّها، نَجتمِعُ مِن جديدٍ في بيتِ الله، لِنُحي معًا ذِكرَى دُخولِ الرَّبّ الجليل إلى أُورشليم، وَلِنحتفِلَ سويّة بهذا الحَدثِ المهيب، والّذي سيؤول بعد بضعةِ أيّام، إلى حَدثٍ آَخر يَفُوقُه مَهَابةً، ألا وهو صَلبُ الرّبّ وموتُه، على أن يتوّجَ الحدثُ أخيرًا بِدُرّةِ إيمانِنا المسيحي، مُعلِنينَ صَرخةَ إيمانِنا العُظمى ورَجائِنا الكُبرى بأنّ: المسيحَ قام، حقًّا قام.

 

نَعم أيّها الأحبّة، نُقيمُ أسبوعَنا المقدّس، أسبوعَ الآلام، ضِمنَ سلسلةٍ طويلة، قَد تبدو للبعضِ لا مُتناهية، من الآلامِ والعَذابات، نُكابِدها كَمَا كَابَدت أمُّ الحبيب! فتُضحي آلامُنا نحن الْمؤمنين، مُشاركةً حقيقيّة، في آَلامِ المسيحِ! ولِسانُ حَالِنا مع القدّيسِ بولس يقول: "أُتِمُّ في جَسدي ما نَقَصَ مِن شَدائِدِ المسيح" (قولسي 24:1)، مُوقنين أنّنا: "إذا شاركناهُ في آلامِه، نُشارِكُه في مَجدِه أيضًا" (رومة 17:8).

 

هَذه السَّنة حَمَلَت لَنا الكثيرَ من الأحزانِ والآهات، والجميعُ نالَ نصيبًا وافٍ من جُرعاتِ مَرارتِها: تَألّمنا جَسديًّا ومَعنويًّا، أُغلِقَت الكنائِسُ، تَضَرّرنا مَاليًّا ومادّيًا، تَعطّلت مصادِرُ رزقِنا واستُنزِفَ قوتُ عوائِلنا. كانَ الله في عون العِباد، في عَون الفقراء، في عَون الكَادحين، في عونِ الأسماكِ الصّغيرة، في عونِ كلّ مَن يَسأل اللهَ عونًا، وهوَ لهم نَصير مُجير.

 

اليوم، يدخلُ "ربُّ القّوات مَلِكُ المجد" مَدينتَهُ. يَدخُلها وسط هُتافِ الجماهيرِ الّتي هَبَّت تخرجُ إلى لِقَائِه، صارخةً: "هوشعنا، مباركٌ هو الآتي باسمِ الرّب". يَدخلها بأهازيج الفَرحِة وصيحاتِ الانتصار. على أنّ هذهِ الجماهير، وإن لَم يَكن كلّها فَقِسمٌ كَبير منها، سَتَخرج مُجدّدًا بعد بضعة أيّام، لِكي تَلقاه حاقدةً وناقمة عليه، تَطلبُ صلبَه وَقَتله!

 

مَن مِنَّا لا يحبُّ أكلَ البطّيخ مع الجبنةَ البيضاء؟ حيث نمزِجُ بينَ شرائِح البطّيخ الحمراء الحلوة مع قِطَعِ الجبنةِ البيضاء المالِحة، فيُضحي المتناقض مُتآلِفًا. لِذلك يا أحبّة، وإن كُنَّا قَد بَدَأنا احتفالَ الشّعانين بمظاهرِ الغِبطةِ والسّرور، وَدَخلنا دخولًا احتفاليًّا مع ربِّ المجد إلى هيكلِه، إلّا أنّ أجواءَ الحُزنِ تُخيّمُ سريعًا، حيثُ انتَقَلنا لِقراءةِ روايةِ آلامِ المسيح! فَيا لَها مِن مُفارقةٍ عَجيبة! حيثُ نَجمع في احتفالٍ واحد بينَ مُتناقِضَين اثنين: الفرحُ والحزن!

 

وفي هذا الأمر دلالةٌ عظيمة، فَالْمَلكُ الّذي نَسير خلفَهُ هذا الأسبوع الشّاق، هو مَلِكٌ تَاجُه إكليلٌ من شوكٍ، وصولجانُ عزّتِه مُرصّعٌ بحرباتِ العَذاب، اختبرَ الألمَ قبل أن يَلِجَ أمجادَ القيامة. وهذه واحدة من العِبر الّتي يُعلّمنا إيّاها أحد الشّعانين. فَتلميذ المسيحُ النّجيب الّذي يَطلبُ العُلى، عليه أن يمرَّ أحيانًا باختباراتٍ مُؤلِمَة. قَد يَتَلذّذُ حينًا بحلاوة النّجاح ونَشوة المجد مع الرّب، إلا أنه سُرعان ما ينحدِرُ إلى وادي الدّموع. فنحن وإن كنّا أبناء الوطنِ السّماوي، إلّا أنّنا لا نزال في العالم، نُعاني الشّدائد ونختبرُ المِحن. هذا واقعنا كتلاميذٍ للمسيح، حيث أنّه: "مَا مِن تلميذٍ أَسمى مِن مُعَلّمِه" (لوقا 40:6).

 

أَضِف إلى ذلك، أنّ أحدَ الشّعانين يُعلّمُنا كم نحنُ مُراوغون وَمُتَقلّبون في عَلاقتِنا مع الرّب، وبكلمات أُخرى انتهازيّون مُنتفِعون. فَنحن لَسنا بأفضل حالٍ من تلك الجماهير، الّتي لَم ترى في المسيح سوى مُلَبٍّ لحاجاتِها، مُشبِعٍ لِرَغباتِها المادّية. لَمْ تَستَطع أن تَرتقي مَعَه إلى المستوى الأسمى. ونحن أيضًا، ألا نخرج أحيانًا إلى لقاء الرّبّ حامدينَ وشاكرين عندما تَجري الرّياحُ في صالِحنا؟! وفي المقابل أيضًا، ألا يحدث أن نخرجَ إليه سَاخطينَ غاضبينَ، عندما يغرقُ أو يكاد المركب بِنا؟! ألا نَدَّعي حُبَّ السّماويّات البَاقيات، وأَفكارُنا مُتّجهة صوبَ الأرضياتِ الفانيات؟! ألا نُبايع المسيح مَلكًا، ونحن مُقيّدونَ بِسَلاسلِ العبودية، حيث قلوبُنا مُتَشبّثَةٌ مُكبّلةٌ بطيّباتٍ زائِلة؟!

 

أحدُ الشّعانين هو أحدُ الدّروس البَليغة! هو الأحدُ الّذي يُعلّمنا أن الآراءَ تَتَبدّل، والمواقف تنقلِب، والأحوال تتغيّر. اليوم نحن مع الرّب، وغدًا قَد ننقلِب عليه. اليوم نهتفُ: هوشعنا، وغدًا قد نصيحُ: اِصلِبه. اليوم ثُغورُنا مُبتسِمة، وغدًا قد تَكفهِرُّ الوجوه. نفرحُ بالرّبّ سُويعات، ونغضب مِنه ساعات. حينًا يفيضُ منّا الإيمان كَنبعٍ جارٍ، وقد يحدث أيضًا أن نجحدَ الإيمان، نَتخلّى عن الرّب، ونؤثِرُ هجرانَه. علاقة المؤمنِ بِربّه تُشبِه المواسم: فَحينًا تكون مَطريةً وفيرة الغِلال، وحينًا تَجدُها شَحيحةً قليلةَ الثّمر!

 

أيّها الأحبّة: ندخلُ الأسبوعَ المقدّس، وعينٌ تُناظرُ الصّليبَ وأُخرى ترقُب القيامة. نَدخلُه مُستذكرين الأحداث العُظمى الّتي عَليها يقوم إيمانُنا، وبكلّ ما يحمل من زخمٍ روحيٍّ وصلواتٍ واحتفالات ليتورجيّة. ندخُله بعَبراتِ القلب وأوجاعِ الرّوح، ونتوّجه بِنَغماتِ التّهليلِ وألحانِ الابتهاج. هكذا هي حياتُنا مع الله، لحظاتٌ فيها نَتألَّمُ ونئِنُّ مع المسيح المتألّم المصلوب، وأُخرى فيها نَفرح ونُنشِد، ولو بعد حين، مع المسيحِ الحيّ القائم ظافرًا من بين الأموات.

 

"وأرى أنَّ آلامَ الزّمنِ الحاضر، لا تُعادلُ المجدَ الّذي سَيَتَجلّى فينا. ونعلمُ أنّ جميعَ الأشياءِ، تَعملُ لخيرِ الّذينَ يُحبّون الله" (رومة 18:8، 28)