موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٨ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

إبراء البُرْص العَشَرَة وقرية برقين

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثامن والعشرون: إبراء البُرْص العَشَرَة وقرية برقين (لوقا 17: 11-19)

الأحد الثامن والعشرون: إبراء البُرْص العَشَرَة وقرية برقين (لوقا 17: 11-19)

 

النص الإنجيلي (لوقا 17: 11-19)

 

11 وبَينَما هو سائِرٌ إلى أُورَشَليم، مَرَّ بِالسَّامِرَة والجَليل. 12 وعِندَ دُخولِه بَعضَ القُرى، لَقِيَه عَشَرَة مِنَ البُرْص، فوقَفوا عن بُعدٍ، 13 ورَفعوا أًصواتَهم قالوا: ((رُحْماكَ يا يسوع أَيُّها المُعَلِّم!)) 14 فلَمَّا رآهُم قالَ لَهم: ((اُمضُوا إلى الكَهَنَة فَأَرُوهُم أَنفُسَكم)). وبَيْنَما هُم ذاهِبونَ بَرِئوا. 15 فلمَّا رأَى واحِدٌ مِنهُم أَنَّه قد بَرِئَ، رجَعَ وهُو يُمَجِّدُ اللهَ بِأَعلَى صَوتِه، 16 وسَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ يَشكُرُه، وكانَ سامِرياً. 17 فقالَ يسوع: ((أَليسَ العَشَرَة قد بَرِئوا؟ فأَينَ التِّسعَة؟ 18 أَما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ اللهَ سِوى هذا الغَريب؟)) 19 ثُمَّ قالَ له: ((قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ)).

 

 

مقدمة

 

يتناول إنجيل الأحد (لوقا 17: 11-19) معجزة شفاء يسوع لعَشَرَة من البُرْص في برقين، وهو في طريقه للمرَّة الثالثة تجاه اورشليم؛ وقد عاد منهم سامري غريبٌ ساجدا وشاكرا ليسوع جَميله، وأمَّا التِّسعَة الآخرون فقد تجاهلوا يسوع ولم يسمعوا نداء الملكوت. ويقدِّم لنا القديس أثناسيوس "هذا الأبرص السامري مثلًا حيًّا لحياة الشكر التي تكشف عن قلبٍ يتعلق بواهب العطية (الله) أكثر من العطية ذاتها (الشفاء)". فالمؤمن لا يُمَيّز من خلال عرقه أو عشيرته أو التزامه بالتعاليم أو مكانته بل بإيمانه وثقته بالرب وشكره على نعمة وافتقاده. يدعونا يسوع إلى النظر بعمق لافتقاد الله لنا وغرس رّوح الشكر بقلوبنا نحوه تعالى. فالشكر نحو الله هو شكل من الاِعتراف بأنّ الله تعالى أب يعمل في حياة أبنائه. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 17: 11-19)

 

11 وبَينَما هو سائِرٌ إلى أُورَشَليم، مَرَّ بِالسَّامِرَة والجَليل.

 

تشير عبارة "سائِرٌ إلى أُورَشَليم" إلى يسوع الذي يسير بكامل حرِّيته وإرادته في رحلته الأخيرة إلى أورشليم حيث ينتظره الموت عِلما أنَّ اورشليم كانت مركز عبادة الشعب اليهودي حيث يُقتل الأنبياء (لوقا 13: 33)، ومن هذا المنطلق، يفتتح يسوع مرحلة جديدة من مراحل الصعود إلى اورشليم ( لوقا 17: 11-19: 28) حيث تُذُكر اورشليم للمرة الثالثة في صعود يسوع إليها (لوقا 9: 51 ولوقا 13: 22)؛ أمَّا عبارة "مَرَّ بِالسَّامِرَة  والجَليل" فتشير إلى توقع لوقا أنَّ يذكر الجليل قبل السَّامِرَة، وهذا هو المسار الطبيعي، إذ غادر الرب يسوع منطقة الجليل، ولم يَعدْ إليها حتى موته، وقد مرَّ بالسَّامِرَة  حيث شفى عَشَرَة رجال مُصابين بالبُرْص في احدى قُراها. ثم واصل مسيرته إلى أورشليم.

 

12 وعِندَ دُخولِه بَعضَ القُرى، لَقِيَه عَشَرَة مِنَ البُرْص، فوقَفوا عن بُعدٍ،

 

تشير عبارة "وعِندَ دُخولِه" إلى خارج باب السور حيث اعتاد المتسولون أن يجتمعوا ليطلبوا الصدقة. أمَّا عبارة "بَعضَ القُرى" فتشير إلى قرية برقين في منطقة جنين بحسب التقليد وعلم الآثار. أمَّا عبارة "عَشَرَة" فتشير إلى أولئك الرجال العَشَرَة – تسعة منهم يهود وواحد سامري يتميز بإيمان عظيم– كلهم مُصابون بالبُرْص. جَمعَهم المرض المشترك، مع اختلافهم في الدين والآراء، وألّفت بينهم البلوى الواحدة، حيث كانوا يعيشون في جماعات صغيرة تفاديا للوحوش الكاسرة التي كانت تعيش في البراري، وكثيراً ما يجمع الألم المشترك بين القلوب المتنافرة. وأمَّا رقم (10) فهو رقم مكرّس (عدد أصابع اليد أو مضاعف خمسة). ويدلُّ العدد " عَشَرَة " في الكتاب المقدس إلى كمال مسؤولية الإنسان كما تبدو في الوصايا العشر (خروج 20: 1-17)، وعشر ضربات مصر (خروج 7 :12)، وعَشَرَة أبرار المطلوبون كي يعفو الله عن سدوم (التكوين 18: 32)، وعشر مرات من تمرُّد الشعب القديم في البرِّية على الله (عدد 14 :22)، وقد شبَّه السيد المسيح ملكوت السماوات بعشر عذارى (متى 25: 28)؛ أمَّا عبارة "لَقِيَه" إلى اقتراب عَشَرَة مِنَ البُرْص بالإيمان إلى يسوع عَلَّهم ينالوا الشفاء من مرضهم، رغمًا أنَّهم لم يشهدوا بأعينهم المعجزات التي صنعها، إنَّما سمعوا عنها.  أمَّا عبارة "البُرْص" فتشير إلى مَرَض مُعْدٍ مُزْمِن خبيث يظهر على شكل بُقع بيضاء في الجسد. يُعد البَرَص في الشريعة اليهودية نجاسة، ويجب أن ينعزل المُصاب به عن الناس كما ورد في كتي موسى " أيُّ إِنْسانٍ كانَ في جِلْدِ بَدَنِه وَرَمٌ أَو قُوباءُ أَو لُمعَةٌ تَؤُولُ في جِلْدِ بَدَنِه إلى إِصابةِ بَرَص، فلْيُؤتَ بِه إلى هارونَ الكاهِن أَو إلى واحِدٍ مِن بَنيه الكَهَنَة"(الأحبار 13: 2-8)؛ وكان البَرَص داءً مكروها عند اليهود باعتباره قصاصاً من الله؛ لقد كان البَرَص من أخطر وأكثر الأمراض المنتشرة والمتفشيّة في ذلك الزّمان. وقد بقي مرض البَرِص منتشرا حتى منتصف القرن العشرين حيث قُضي نهائيا على هذا المرض في بلادنا الفلسطينية. وقد لعبت الإرساليات والجمعيات التبشيرية الدور الأكبر في القضاء على هذا المرض. وآخر مشفى للبرص كان "جبل النجمة" على الطريق بين رام الله وبيرزيت. يُعلق القدّيس برونو دي سيغني " ترى مَن يمثّل الرجال البُرْص العَشرة غير الخطأة؟" (شرح لإنجيل القدّيس لوقا). أمَّا عبارة " فوقَفوا عن بُعدٍ" فتشير إلى البُرْص الذين عملوا بالشريعة التي تتطلب منهم أن يسكنوا بعيداً عن الناس كما ورد في التوراة "الأبرَصُ الَّذي بِه إِصابة تكونُ ثِيابُه مُمَزَّقةً وشَعَرُه مَهْدولاً ويَتَلَثَّمُ على شَفَتَيه ويُنادي: نَجِس، نَجِس. ما دامَت فيه الإِصابة، يَكونُ نَجِساً، إِنَّه نَجِس. فلْيُقِمْ مُنفَرِداً، وفي خارِجِ المُخَيَّمِ يَكونُ مُقامُه "(الأحبار 13: 45-46). فالبُرْص لا يخالطون الناس، بحسب الشريعة اليهودية، لان البَرَص نجاسة، ومن يتلامس معهم يتنجَّس، فهو رمز الخطيئة والشر الذي يشوّه الإنسان. ولا يتمَّ الشفاء من بَرص الخطيئة إلاَّ بالمسيح والذهاب إلى الكاهن ويُعلن الكاهن شفاءه رسميا. يُعلق القدّيس برونو دي سيغني " كانوا واقفين عن بعد لأنّهم لم يكونوا يجرؤون على الاقتراب منه بسبب برصهم. هذا الأمر ينطبق علينا: طالما نحن في الخطيئة، نقف عن بعد " (شرح لإنجيل القدّيس لوقا). فهؤلاء الرجال العَشَرَة يمُثلون البشرية التي صارت خلال الخطيئة محرومة من "الشركة المقدسة".

 

13 ورَفعوا أًصواتَهم قالوا: ((رُحْماكَ يا يسوع أَيُّها المُعَلِّم!))

 

تشير عبارة "ورَفعوا أًصواتَهم قالوا" إلى جذب انتباه يسوع إليهم، لأنهم لم يجسروا أن يدنو منه، بل صرخوا كلهم بصوتٍ واحدٍ لان العِلَّة مشتركة. دلّوا بذلك على شقاء حالهم وطلبهم المعونة والإيمان بقوة المسيح وشفقته. أمَّا عبارة "رُحْماكَ" فتسير إلى صرخة من أكبر صرخات البشرية المتألمة. وكثيرا ما نُكرِّرها في كل قداس ٍقائلين: "ἐλέησον ἡμᾶς "كيريا اليسون"، أي رحماك يا رب! يُعلق القدّيس برونو دي سيغني "هذا التوسّل يجب ألاّ ينبع من أفواهنا، إنّما من قلوبنا، لأنّ القلب يتكلّم بصوت أقوى. صلاة القلب تدخل السّموات وترتفع عاليًا، إلى عرش الله" (شرح لإنجيل القدّيس لوقا).  ويسوع يُسرع إليهم عندما يسمعهم يصرخون معا طالبين رحمته هو القائل "أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهاراً " (لوقا 7:18). وبحسب الظروف العادية نتوقع أن نرى التِّسعَة في جانب والعاشر في جانب آخر،" لِأَنَّ اليَهودَ لا يُخالِطونَ السامِرِيِّين" (يوحنا 4: 9)، وينظرون إليهم نظرة الاحتقار. لكن هنا البُرْص اليهود والسامريون كانوا يعيشون معا. ولم تكن بينهم عنصرية. المرض قرَّب بينهم؛ بالإضافة إلى ذلك، إن الشيء الذي عنده يتساوى جميع البشر هو الخطيئة كما يصرِّح "ذلِكَ بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجْدَ الله" (رومة 3: 23). وطالما اشترك العَشَرَة في النجاسة، فلم يَعد أمامهم جميعاً سوى شيء واحد مشترك أيضاً هو رحمة الله "فَلا فَرْقَ بَينَ اليَهودِيِّ واليُونانِيّ، فالرَّبُّ رَبُّهم جَميعًا يَجودُ على جَميعِ الَّذينَ يَدعونَه" (رومة 10: 12). دخلت هذه الصرخة إلى صميم قلب المسيح، إذ لم يقل لهم: "اتركوني وشأني فالرب يُشفيكم" كلا، فلم تصدُر منه مثل هذه الأقوال اللامبالية، بل وقف وامتحن إيمانهم، فقال لهم: "اُمضُوا إلى الكَهَنَة فَأَرُوهُم أَنفُسَكم". أمَّا عبارة "يسوع " فتشير إلى الصيغة العربية للاسم العبري יֵשׁוּעַ (معناه الله مخلص) إلى يسوع المُخلص. وقد سُمِّى يسوع حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21)، ومريم (لوقا 1: 31). ويسوع هو اسمه الشخصي. أمَّا المسيح فهو لقبه. وقد وردت عبارة "الرب يسوع المسيح " نحو 50 مرة في العهد الجديد. ويسوع المسيح أو المسيح يسوع، نحو مئة مرة. بينما وردت كلمة المسيح الرب مرة واحدة (لوقا 2: 11). ووردت لفظة يسوع وحدها على الأكثر في الأناجيل، ويسوع المسيح، والرب يسوع المسيح في سفر الأعمال والرسائل. عرف هؤلاء البُرُص المسيح والعجائب التي صنعها مع أنَّهم اعتزلوا الناس لمرضهم، لكنهم اتفقوا عل مناداة يسوع في ضيقهم.  كان العَشَرَة مِنَ البُرْص يمتلكون إيمانا في يسوع إلى حدٍ طلبوا الشفاء منه.  أمَّا عبارة " المُعَلِّم " في الأصل اليوناني ἐπιστάτα معلّم الشريعة (لوقا 7 :30) الذي يقابل الكاتب. عند المسيحيّين الأولين، انطبق لقب المعلّم على موهبة خاصة من أجل التعليم والفقاهة انطلاقًا من نصوص الكتب المقدسة وتأكيدات الإيمان. في هذا المعنى يتميّز المعلّم من النبي الذي يتكلّم عفوًا بتحريك من الروح القدس (1قورنتس 12). يسوع يُسرع إلينا عندما يسمعنا نصرخ إليه طالبين رحمته، فلنصرخ إليه ليس في وقت الحاجة فقط، بل وفي ساعات الخير والسعادة والراحة، على الأقل فلنشكره لأننا في فكره دائماً.

 

14 فلَمَّا رآهُم قالَ لَهم: ((اُمضُوا إلى الكَهَنَة فَأَرُوهُم أَنفُسَكم)). وبَيْنَما هُم ذاهِبونَ بَرِئوا.

 

تشير عبارة "فلَمَّا رآهُم" إلى نتيجة صراخهم، لانّ نظرة يسوع للمرضى سمحت لهم البدء في الشفاء من الأمراض الجسدية والروحية. وما أن رآهم بحالهم، حتى شفق عليهم. أمَّا عبارة "اُمضُوا إلى الكَهَنَة فَأَرُوهُم أَنفُسَكم" فتشير إلى عدم قيام السيد المسيح بأية حركة أو كلمة للشفاء بل  أمر البُرُص أن يذهبوا إلى الكَهَنَة حتى يُروا أنفسهم لهم مؤكدا أنه ما جاء "ليُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِاء ليبْطِل، بَل ليُكْمِل"(متى 5: 17)، لانَّ الشريعة تُوصي الأبرص الذهاب إلى الكاهن قبل أن يختلط بالجماعة ليُعلن الكاهن شفاءه رسميا، ولكي يقدّم عن شفائه الذبائح التي أمر بها موسى "هذه تَكونُ شَريعةَ الأَبرَصِ في يَومِ الطهارة: يُؤتى بِه إلى الكاهِن" (الأحبار 14: 2). والكاهن يعطي شهادة تُثبت براءة الأبرص من مرضه ليستطيع أن يعود من جديدٍ إلى ممارسة حياته الطّبيعيّة في مجتمعه. وأمرُ يسوع هي شهادة أيضا تتناول في آن واحد قدرة يسوع وطاعته للشريعة (متى 3: 17)، وهو يعطي للكهنة دليلاً مادياً على قدرته على الإبراء والتطهير، الأمر الذي تعجز عنه الشريعة، لعلَّهم يؤمنوا به. وحيث أن البُرْص شفاءه من عند الله فقط بحسب تعليم الكَهَنَة، وحيث أنَّ المسيح هو الذي شفاهم يعتبر هذا إعلاناً عن لاهوته.   هؤلاء البُرْص آمنوا بقوة يسوع ولم يعترضوا على الذهاب للكهنة قبل أن يشفوا. أمَّا عبارة "الكَهَنَة" في الأصل اليوناني ἱερεύς, (معناها الكاهن اليهودي) فتشير إلى الاختصاصييّن في القدسيّات، ووهم الذين يقفون أمام الله للخدمة، ولهم سلطة على شعائر العبادة، ويُباركون الشعب في المناسبات الكبرى (2صموئيل 6: 18)؛ وكلمة كاهن هنا لا تعني الكاهن في الدين المسيحيّ في المعنى الحاليّ للكلمة المعروف باسم " πρεσβύτερος" (أعمال الرسل 14: 23). وقد انتقد يسوع الكَهَنَة واللاويين (لوقا 10 :29-37). أمَّا عبارة "بَيْنَما هُم ذاهِبونَ بَرِئوا" فتشير إلى البُرْص الذين نالوا الشِّفَاء الكامل مع أنَّ المسيح لم يلمسهم، لكنهم أظهروا إيمانهم بذهابهم في الحال، لأنهم لو ظلوا في مكانهم ولم يؤمنوا ظلوا في داء البُرْص، ولم ينالوا الشِّفاء. فطاعة يسوع قد خلَّصتْهم وأبعدت عنهم اللَّعنة، لانَّ من ضمن رسالته، كان شفاء المرضى على لائحة أعماله اليومية، كما وردف إنجيل مرقس "حَيثُمِا كانَ يَدخُل، سَواءٌ دَخَلَ القُرى أَوِ المُدُنَ أَوِ المَزارِع، كانوا يَضَعونَ المَرْضى في السَّاحات، ويَسأَلونَه أَن يَدَعَهم يَلمِسونَ ولَو هُدْبَ رِدائِه. وكانَ جميعُ الَّذينَ يَلمِسونَه يُشفَون" (مرقس 6: 56).

 

15 فلمَّا رأَى واحِدٌ مِنهُم أَنَّه قد بَرِئَ، رجَعَ وهُو يُمَجِّدُ اللهَ بِأَعلَى صَوتِه،

 

تشير عبارة "فلمَّا رأَى واحِدٌ مِنهُم أَنَّه قد بَرِئَ" إلى السامري الذي وحده وثق في كلمة الله مثل نُعمانُ السُّوريّ الذي وثق بالرب وتمَّ تطهيره (لوقا 4: 27) كما ورد في أيام اليشاع النبي "كانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرْص على عَهدِ النَّبِيِّ أَليشاع، فلَم يَبْرأْ واحِدٌ مِنهُم، وإِنَّما بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ" (2 ملوك 5: 14-17)، لا بدَّ أن الجميع شعروا بشفائهم ولكنهم بقوا سائرين إلى الكهنة ثم إلى بلادهم واعمالهم ما عدا هذا الواحد. أمَّا عبارة "وهُو يُمَجِّدُ اللهَ" فتشير إلى رد فعل السامري الأولى بتسبيح الله للتعبير عن فرحه الشديد (لوقا 11: 15) أمام ظهور المسيح لا سيما في صنع المعجزات، كما هو الحال أيضا في شفاء مقعد في كفرناحوم (لوقا 5: 25-26) وإحياء ابن أرملة نائين (لوقا 7: 16) وشفاء المرأة المنحنية الظهر (لوقا 13: 13) وشفاء اعمى أريحا (لوقا 18: 43). ويشير تمجيده إلى أن أنه رأى في ذلك يد الله: فيسوع هو الذي يعمل، إنما الله هو الذي يُمَجِّدُ.  يعلق القدّيس برونو دي سيغني " في الواقع، يُمثّلُ هذا الرجل الأبرص كلّ الذين طُهِّروا بماء العماد أو نالوا المغفرة بسرّ التوبة أصبحوا يَقتادونَ بالمسيح، ويَقتَفون أثره موجِّهينَ له التمجيد والحمد، ولا يَتخلّونَ عن خدمته"(تعليق على إنجيل لوقا). الشفاء كان هدف عشر البُرْص وأمَّا للـسامري الذي عاد ليشكر الرب فكان الشفاء أيضا الوسيلة ليعرف المسيح فيخلص. أمَّا عبارة " بِأَعلَى صَوتِه" فتشير إلى شدَّة محبته وفرحه وشعوره بواجب الشكر لمن شفاه.

 

16 وسَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ يَشكُرُه، وكانَ سامِرياً

 

تشير عبارة "سَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ" إلى السجود للرب يسوع، والرب في هذا أيضاً لم يوبِّخه على سجوده عند قدميه. لأن الوصية الصريحة هي "لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد وايَّاهُ وَحدَه تَعبُد" (متى 4: 10). فقبل يسوع السجود من ذلك السامري، لأنه هو الله الظاهر في الجسد "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه" (متى 1: 14)؛ توحي الآية (لوقا 17: 15، 16) "أنه رجَعَ السامري وهُو يُمَجِّدُ اللهَ" من ناحية، "وسَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوع" من ناحية أخرى، إلى الإشارة أن الله والرب يسوع هما الشخص نفسه. أمَّا عبارة "وسَقَطَ على وَجهِه" فتشير إلى التواضع علاوة على الشكر والمحبة. والأرجح انه اقتنع أنَّ الذي شفاه هو المسيح فسجد له لهذا الاعتبار. أمَّا عبارة "يَشكُرُه" في الأصل اليوناني εὐχαριστέω (معناها الشكر، والتعبير النهائي عنها يكمن في أفخارستيا القداس الإلهي، وهو شكر الرب) فتشير إلى ردة فعل السامري الثانية لتقديم الشكر للمسيح، مانح نعمة الشفاء. وهذا السامري هو الشخص الوحيد في العهد الجديد الذي يشكر يسوع شخصيا، لأنه وجد أنّ المكان الطاهر ليس بالسامرة -بهيكل جرزيم-بل هو مكان اللقاء بيسوع. مثل هذا القلب يستطيع أن يتعامل الله معه ويملأه تعزية وسط الضيقات. عاد السامري إلى يسوع ليشكره. فالإنسان المرذول يمكن أن يكون أقرب إلى الإيمان الصحيح من ذاك الذي يعتقد نفسه في الدين الصحيح. وهكذا يقدِّم لنا يسوع الإنسان السامري الأبرص مثالا يحتذى به. لا يوجد شفاء حقيقي بدون شكر، لانَّ الشفاء لن يكتمل إلا مَن يُقدر أفعال الله والآخرين في حياته. لنبدأ اليوم بشكر الله على شفائنا من بَرَص القلب والروّح بالتوبة. أمَّا عبارة "سامِرياً" فتشير إلى البقية الذين شفوا كانوا من اليهود. والسامري هو شخص يحتقره اليهود مجرد كونه سامريا إذ كان هناك عداءٌ مستحكمٌ بين اليهود والسامريين، ولم يكن اليهود يسمحون بأي علاقة اجتماعية أو دينية مع السامِريين. وتعود نشأة السامِريين إلى خليط بين إسرائيل مع قوم وثنيين كان الأشوريون قد أتوا بهم بعد سقوط المملكة الشمالية (2 ملوك 17: 24). والسامِريُّون هم من إقليم السَّامِرَة الذي يقع في وسط فلسطين (لوقا 17: 11).

 

17فقالَ يسوع: ((أَليسَ العَشَرَة قد بَرِئوا؟ فأَينَ التِّسعَة؟

 

تشير عبارة "أَليسَ العَشَرَة قد بَرِئوا؟" إلى عمل المسيح عشر معجزات معا دون لمس. أمَّا عبارة "العَشَرَة" فتشير إلى المرضى العَشَرَة الذين شفوا من قبل يسوع، وكان بينهم تسعة من بني إسرائيل، وواحد سامري. تضمَّ طريق الخلاص جميع الأمم إلى الرب، كما ورد في المزامير "رَأَت جَميعُ الشُّعوبِ مَجدَه "(المزمور 97: 6). فعدد عَشَرَة ترمز إلى كمال مسئولية الإنسان. أمَّا عبارة "التِّسعَة" فتشير إلى عدد عجز الإنسان وفشله.  فهو أقل من "العَشَرَة ". أمَّا عبارة "فأَينَ التِّسعَة؟" فتشير إلى سؤال استفهام للتعجب والرغبة أن يراهم راجعين إليه لينالوا منه بركة أعظم من شفاء أجسادهم، وهي شفاء نفوسهم من مرض الخطيئة. وهنا نجد التناقض بين موقف السامري وموقف اليهود. فالسامري آمن وشكر، واليهود التِّسعَة لم يبدو منهم أي عرفان جميل ولم يعودوا.  إنَّ المعجزة عمل يدعو إلى الإيمان ولكن الناس أحرار في قبوله أو رفضه.  ولذلك يُبدي يسوع الأسف على هؤلاء التِّسعَة من العَشَرَة الذي شفاهم يسوع، ولم يُعبِّروا عن عرفان الجميل والشكر له، لأنه شفاهم. فالسيد كان يود ُّ أن يعطيهم كلهم المزيد، لكنهم حرموا أنفسهم. ويُعلق مار إسحاق "كل عطية بلا شكر هي بلا زيادة". وكثيرًا ما ننشغل بالعطية ونترك الواهب المعطي، وهذا مما يُحرمنا من الحصول على البركات الروحية. هل نجد أنفسنا في أحد التسعة من المرضى الّذين نالوا النعمة ولم يتعرفوا على مُعطيها ولم يعودوا إليه شاكرين؟

 

18 أَما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ اللهَ سِوى هذا الغَريب؟

 

تشير عبارة "َما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ اللهَ" إلى سؤال يسوع الذي يُذكِّرنا بقول صاحب المزمور "يَومَ الضِّيقِ اْدعُني فأُنجّيَكَ وتُمَجَدَني" (مزمور 50:" 15)؛ أمَّا عبارة "يَرجعُ" فتشير إلى العودة، والعودة هنا لا تعني مجرد حركة الانتقال من مكان إلى مكان آخر، بل تحمل المعنى الذي لها في العهد القديم، إلا وهو الرجوع إلى الله (שׁוּב) بمعنى التوبة. إذا كان السامري أخطأ، وخطيئته، كما يؤمن اليهود، هي سبب بَرَصه، فهو الآن يتوب إلى الله، وتوبته هذه هي التي تحمل إليه الشفاء. وبالتشديد على توبة السامري وعودته، يريد النصّ أن يشير إلى اليهود الذين لم يتوبوا، بل ظلّوا في خطيئتهم، وخطيئتهم أنهم لم يقبلوا يسوع مخلّصًا لهم. أمَّا عبارة "ويُمَجِّدُ اللهَ" فتشير إلى تأدية الإنسان لله تعالى الحمد والتسبيح الواجبين منه إلى العظمة الإلهية (دانيال 5: 23). في الواقع، يريد لوقا الإنجيلي أن يُظهر أن المكان الحقيقي الوحيد الذي يُقدم فيه المجد لله هو "شخص المسيح" نفسه. أمَّا عبارة "الغَريب" فتشير إلى شخص غير يهودي وثني، لا علاقة له مع إله الشعب اليهودي، وبالتالي لا يلقى من الشعب اليهودي إلا الرفض أو الريبة أو التمنع والتمييز كون نظرة اليهود إلى أنفسهم كشعب مختار وجنس مصطفى واعتبروا نفوسهم من البيت. وقد قضت الشريعة الموسويّة بحرمان الغريب من التمتّع بالفصح "هذه فَريضَةُ الفِصح: كُلُّ أَجنَبِيٍّ لا يأكُلُ منه" (خروج 12، 43). لا شك أن الإنجيلي لوقا شدَّد على عودة السامري ليلقي الضوء مسبقًا على رفض اليهود للرب يسوع وعلى قبول الوثنين والأمم. فالإنسان الغريب المرذول يمكن أن يكون أقرب إلى الإيمان الصحيح من ذاك الذي يعتقد نفسه في الدين الصحيح.

 

19 ثُمَّ قالَ له: ((قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ)).

 

تشير عبارة "قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ" إلى استحقاق السامري الأبرص دون سواه خلاص النفس.  كان هدف العَشَرَة البُرْص طلب الشفاء من المرض، ولكن الـسامِري الذي عاد لشكر يسوع، كان شفاؤه وسيلة لمعرفة المسيح فيخلص. يسوع يشفي ويخلص من يعود له شاكرًا. أمَّا عبارة "إِيمانُكَ" فتشير إلى إيمان وليد صلاة التضرع الذي اكتمل في صلاة التمجيد والشكر. يعلق القدّيس برونو دي سيغني "كبيرة هي قوّة الإيمان لأنّه "بغيرِ الإيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رِضا الله" (العبرانيين 11: 6). "إنّ إبراهيمَ آمَنَ بالله فَحُسِبَ له ذلك بِرًّا" (رومة 4: 3). إذًا، فالإيمان هو الذي يُخلِّص، الإيمان هو الذي يُبرِّر، الإيمان هو الذي يَشفي الإنسان في نفسِه وفي جسدِه" (تعليق على إنجيل لوقا). أمَّا عبارة "إيمانُكَ خَلَّصَكَ" فتشير إلى تقديم يسوع الأبرص السامِري نموذجا عن المؤمن. فالشخص المؤمن لا يُميَّز من خلال عرقه أو عشيرته أو التزامه بالتعاليم، بل من خلال ثقته بالرب وتمجيده وشكره. مَنْ يطَلبَ بإيمان ينال خلاص نفسه. والخلاص الذي ذكره يسوع لا يعني الخلاص من مرض الجسد فحسب، بل الخلاص من مرض النفس، وهو الأهم، لأن خلاص النفس يؤدّي بالإنسان إلى السعادة الأبديّة. وقد نال السامِري الأبرص صحة النفس وشفاء الجسد. وفي التقليد السرياني "إِيمانُكَ خَلَّصَكَ" تشير إلى علاقة حميمة بين الصحة والخلاص، وبين إيمان السامري الأبرص وعودته إلى يسوع. فالإيمان نداء وجواب، ويسوع هو الذي ينادي دوما، والسامِري يعطي جوابا ليصبح الإيمان منظورا. ويعلق الطوباويّ شارل دو فوكو " إنّ الإيمان هو ما يجعلنا نصدّق في أعماق نَفسِنا جميع الحقائق الّتي يعلّمنا مضمون الكتاب المقدّس وتعاليم الإنجيل كلّها، وأخيرًا كلّ ما تعرضه علينا الكنيسة. لأن البارّ يحيا حقيقةً بهذا الإيمان (رومة 1: 17).

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 17: 11-19)

 

انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي، نستنتج أن النص يتمحور حول الشكر والإيمان في شفاء العَشَرَة البُرْص. فالإيمان أدى إلى الشفاء الجسدي لجميع البُرْص العَشَرَة، وأمَّا الشكر من قبل السامري فزاد على الشفاء الجسدي شفاء الروح أي الخلاص.

 

1) التمجيد (لوقا 17: 15)

 

يربط يسوع معجزة الشفاء بعنصرين، الأول هو الإيمان، والثاني هو التمجيد وشكر. هذا ما اتَّضح للسامري، لذلك عاد ممجدا وشاكراً. رجَعَ السامري وهُو يُمَجِّدُ اللهَ بِأَعلَى صَوتِه (لوقا 17: 15). قدرة الرب يسوع الشافية هي التي جعلت الشفاء ممكناً، لكن العجيبة تفترض وجود الإيمان. أما عنصر تمجيد الله فهو يلي المعجزة تلقائياً، والتمجيد ليس نتيجة الانبهار والدهشة، بل لأن الإنسان أمام المعجزة ة يُعاين تدخلاً إلهياً مباشراً وحضوراً كاملاً لله مما يدفعه إلى التمجيد.

 

كان تعليق السيد المسيح "أَما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ (δοῦναι δόξαν) اللهَ سِوى هذا الغَريب؟" (لوقا 17: 18). لقد قام بتمجيد الله بأعلى صوته للتعبير عن فرحه العظيم (لوقا 17: 15). ويعلق العلامة القدّيس بِرنَردُس "هذا السامري الأبرص أعترف أنه "ليس هناك شَيْءٌ لَه لَمْ يَنَلْهُ" (1قورنتس 4: 7). وهو قد "حفَظَ وَدِيعَته إلى ذلِكَ الْيَوْمِ" (2تطيموتاوس 1: 12) ورجِع إلى الربّ لِيُعْطِيَ مَجْدًا ِللهِ. طوبى لمن يرجع إلى الّذي ملؤه النعم كلّما حصل على نعمة لأننا إذا أظهرنا امتناننا تجاه الربّ على كلّ ما حصلنا عليه، فإننا نجهّز في أنفسِنا أماكنَ للنعمة بوفرة أكبر".

 

نادى السامري يسوع بلقب" أَيُّها المُعَلِّم" قبل أن ينال معجزة الشفاء، لكنه عاد لكي يعبده ويُمجده ويشكره كربٍّ بعد نواله معجزة الشفاء. ويذكرنا هذا الأبرص في شفاء نعمان السوري الغريب الذي أعلن إيمانه بالإله الحي وأعرب عن جميل العرفان وعن عظيم امتنانه (2ملوك 5: 14-17). فالسامري شعر بأن السيد المسيح صانع المعجزات والخيرات واكتشف محبة الله وصارت له حياة التسليم والتمجيد والسجود، فسجد له بتواضعٍ، وشكره على فيض محبته ونعمه. ويُعلق القديس أثناسيوس "هذا الأبرص السامري مثلٌ حيٌ لحياة الشكر التي تكشف عن قلبٍ يتعلق بواهب العطية (الله) أكثر من العطية ذاتها".

 

العَشَرَة مِنَ البُرْص أحسوا كلهم بالمعجزة، وكلهم اختبروا الأعجوبة وكلهم برئوا وطُهِروا. ولكن واحدا منهم فقط رجع يُمجِّد الربّ ويشكره. وقد صدق المثل شعبي فيهم "صليت حتى حصلي، لما حصلي، بطَّلت أُصلي". فجاء سؤال سيدنا يسوع المسيح "َليسَ العَشَرَة قد بَرِئوا؟ فأَينَ التِّسعَة؟ (لوقا 17: 17)، وهذا السؤال يعبِّر عن الأسف والحزن على عدم شكرهم ونكران الجميل، في حين كان يسوع يودُّ أن يعطيهم كلهم المزيد، لكنهم حرموا أنفسهم، فيعلق مار اسحق "كل عطية بلا شكر هي بلا زيادة" كما ورد في القران الكريم "َلئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" (سورة إبراهيم الآية:7). بشكرنا للرب، نحن نفتح الباب لمعجزاتٍ وبركاتٍ أكثر في حياتنا. ويعلق العلامة القدّيس بِرنَردُس "يا لبؤسنا وشقائنا عندما ننسى مجانية العطية التي حصلنا عليها بعد أن نكون أظهرنا أنفسنا أولاً وجِلين ومتواضعين ومتدينين"(عظات مختلفة).

 

 

2) الشكر (لوقا 17: 16)

 

لم ينفصل فعل التمجيد εὐλογέω، الذي قدّمه السامري الأبرص ليسوع عن فعل الشكر حيث أنَّ بعدما "سَقَطَ السامري الأبرص على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ اخذ يَشكُرُه، εὐχαριστῶν "(لوقا 17: 16)، فالأبرص الوحيد الذي رجع يشكر الرب ويمجِّد كان سامريا، غريبا، ونجسا، ولكنه أحسَّ بعظم المعجزة التي حصلت له. وعجز لسانه عن شكر الربّ فخرَّ على قدميه أمام السيّد المسيح عارفا الجميل شاكراً له على نعمة الشفاء. والشفاء هي عطية الله مجانية. 

 

يقوم فعل الشكر على الاعتراف بعطايا الله والاعتراف بالجميل والامتنان له، ويعبّر عنه في الكتاب المقدس باللفظ العبري תודה" بنوع خاص. وفي العهد القديم يترجم فعل الشكر بلفظة "ברך"التي تُفصح عن التبادل الجوهري بين الله والإنسان، حيث أنَّ صدى بركة (הַבְּרָכָה) الله الذي يهب خليقته الحياة والخلاص (ثنية الاشتراع 30: 19)، هو البركة التي يشكر الإنسان بواسطتها خالقه كما عبّر ن ذلك دانيال النبي " مُبارَكٌ أَنتَ أَيُّها الرَّبُّ إِلهُ آبائِنا وحَميدٌ آسمُكَ ومُمَجَّدٌ أَبَدَ الدُّهور" (دانيال 3: 26). وقد يكون الشكر أيضا اعتراف إيماني ذو طابع طقسي في إطار الشكر للعظائم التي أفاضها الله على شعبه. "أَنشِدوا لِلرَّبِّ، سَبِّحوا الرَّبّ لِأَنَّه أَنقَذَ نَفسَ المِسْكين مِن أَيدي فاعِلي الشَّرّ"(ارميا 20: 30).

 

اللقاء مع الله لا يضع الإنسان في حضوره فقط، بل يغمره ويحوّل حياته. وفعل الشكر يبدو كجواب لهذه النعمة التي نجد كمالها في المسيح. فالشكر هو عرفان الجميل أمام العظمة الإلهية ورد فعل ديني للإنسان الذي يكشف شيئا من عظمة الله ومجده ورحمته ونعمه. فالسامري الأبرص قدّر المسيح على شفائه وجميله واقرّ بشفائه وقابله بالشكر والسجود. فان الله مصدر كل إحسان، وبما انه ليس في مقدرونا نوفي حقَّه، يتحتم علينا أن نشكره على الدوام بكلمات صاحب المزامير "بارِكي الرَّبَّ يا نَفْسي ويا جَميعَ ما في داخِلِيَ اْسمَه القُدُّوس" (مزمور103: 1). وكما يقول بولس الرسول " واشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شَيءٍ بِاسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (أفسس 5: 20).  الشكر هو علامة إيمان وعرفانُ جميلٍ، لخير حدث لنا؟

 

والشكر هو علامة التواضع. فالمتواضع يشعر أنه غير مستحق لشيء، فالقليل الذي يحصل عليه هو لا يستحقه فيظل يشكر، ومَن يشكر لن يتذمر أو يعترض على الله فيخسر، لأن القلب المتذمر لا يستطيع الله أن يتعامل معه. أما الشاكر فهو يشعر بأن الله صانع خيرات ويكتشف محبة الله. ومثل هذا الإنسان تنفتح عينيه فيرى نقاوة الله ونجاسة قلبه. ويرتبط فعل الشكر في العهد الجديد بالعبادة أي الحمد والتسبيح والتمجيد والشكر المسيحي.

 

أولا: الحمد لله بالاعتراف لعطايا الله كما جاء في صلاة يسوع المسيح "في ذلكَ الوقتِ تكلَّمَ يسوعُ فقال: ((أَحمَدُكَ (Ἐξομολογοῦμαί) يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار" (متى 11: 25). 

 

ثانيا: لا ينفصل فعل الشكر عن التسبيح αἰνέω, كما جاء على لسان الرعاة لدى ميلاد الرب يسوع "ورَجَعَ الرُّعاةُ وهم يُمَجِّدونَ الله ويُسَبِّحونَه αἰνοῦντες)) على كُلِّ ما سَمِعوا ورَأَوا كَما قيلَ لَهم" (لوقا 2: 20)؛ والحمد أو التسبيح ينوّه عن شخصية الله أكثر عن عطاياه، فإنه يركز بالأكثر على الله وهو أقرب إلى السجود.

 

ثالثا: لا ينفصل فعل الشكر أيضا عن التمجيد εὐλογέω كما جاء على لسان يسوع "هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا (δοξάσωσιν) أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متى 5: 16)؛

 

رابعًا: يرتبط فعل الشكر بشكل متميز بالبركة كما جاء على لسان زكريا أبو يوحنا المعمدان "فَانفَتَحَ فَمُه لِوَقتِه وَانطَلَقَ لِسانُه فتَكَلَّمَ وبارَكَ (εὐλογῶν) الله"(لوقا 1: 64).

 

خامسًا: الشكر المسيحي. هناك عبارة جديدة لا يعرفها العهد القديم وقد تكرَّرت 60 مرة في العهد الجديد، وهي εὐχαριστέω كما جاء في صلاة يسوع لدى أحياء لعازر من القبر " شُكراً (εὐχαριστῶ) لَكَ، يا أَبَتِ على أَنَّكَ استَجَبتَ لي " (يوحنا 11: 41). ويُعبِّر هذا الفعل عن أصالة الشكر المسيحي وأهميته كجواب للنعمة التي وهبها الله في يسوع المسيح خاصة في القربان المقدس. فالشكر المسيحي هو وأفخارستيا، أي القداس الإلهي الذي هو التعبير النهائي عن شكر يسوع باسم البشرية لله الآب.  يسوع المسيح هو وحده شُكرنا، هو الذي يرفع الشكر إلى الآب ونحن نرفع الشكر بعده "به ومعه وفيه" كما نصلي في القداس الإلهي. فعلى المسيحي أن يكون في توسلٍ وشكرٍ متواصلٍ كما هو الحال مع بولس الرسول الذي صرّح بقوله " فأَيُّ شُكْرٍ بوُسْعِنا أَن نُؤدِّيَه إلى اللهِ فيكُم على كُلِّ الفَرَحِ الَّذي فَرِحْناه بِسَبَبِكم في حَضرَةِ إِلهِنا "(1 تسالونيقي 3: 9). فالعبادة الحقة هي أن نشكر الله دائماً.

 

أنَّ الشكر هو فعل مسيحي في الأساس حيث أن الحمد يختص باللسان، بخلاف الشكر، فهو باللسان والقلب والجوارح. ومن هذا المنطلق، " الإسرائيلي في العهد القديم يحمد دون أن يشكر" لأنه لم يتذوّق ملء النعمة ألا وهو يسوع المسيح. فالله لم يعلن عن ذاته إلا تدريجيا، كاشفا شيئا فشيئا عن أهمية عمله وعظمة عطاياه. أمَّا فعل الحمد فيؤدي إلى إعلان العطايا وإلى الشهادة لأعماله. وأن خطيئة الوثنيين الرئيسية بحسب بولس الرسول إنها تكمن في " أَنَّهم عَرَفوا اللهَ ولَم يُمجِّدوه ولا شَكَروه كما يَنبَغي لِلّه" (رومة 1: 21).

 

بناء على المعطيات السابقة، تُعلمنا الكنيسة المقدسة أن نبدأ كل صلواتنا بالشكر، حتى في الأحزان، فالله هو صانع خيرات، وحتى ما نعتبره ضيقة أو تجربة أو شدَة فهو للخير " إِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ الله"(رومة 8: 28)، لذلك علينا أن نشكر دائمًا وفي كل حال. ورسالة الرب لنا اليوم هي "أُشكُروا على كُلِّ حال، فتِلكَ مَشيئَةُ اللهِ لَكم في المسيحِ يسوع" (1 تسالونيقي 5: 18).

 

نحن بحاجة ماسة في أيامنا إلى نظرة الشكر وعرفان الجميل. هذه النظرة تقوم على إعادة النظر في وجودنا بعيون الإيمان تعرف أن تكتشف الأعجوبة اليومية، أصغيرة كانت أو كبيرة؛ وإنجيل اليوم خير دليل على ذلك.  دعونا أن تَتوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ (1 يوحنا 5: 6) ونقف بتفانٍ كبير في شُكرنا للربّ فيمنحنا النعمة الوحيدة التي تستطيع أن تُنقذ أرواحنا ولنُظهر له عظيم امتناننا ليس فقط بالقول والكلمة، بل بالأعمال وبالحق.

 

 

3) الإيمان: "إِيمانُكَ خَلَّصَكَ" (لوقا 17: 19) 

 

إيمان السامري في اللقاء الأول شفاه جسدياً كما شفى زملاءه، لكنه في لقائه الثاني مع الرب، فإنه قد نال الخلاص؛ واغتنم يسوع هذه المناسبة وأوضح أهمّية الإيمان فقال للسامري الذي عاد إليه يشكره "إيمانكَ خلّصكَ" (لوقا 17: 19). إنَّ استعمال يسوع إيمانك πίστις توحي إلى ثقة السامري الأبرص بيسوع والتزامه به. فالإيمان المطلوب من أجل تحقيق المعجزة هو الاعتراف بقدرة يسوع الكلية. كما صرّح يسوع لوالد الرجل المُصاب بالصرع "إِذا كُنتَ تَستَطيع! كُلُّ شَيءٍ مُمكِنٌ لِلَّذي يُؤمِن"(متى 8: 20).

 

الإيمان هو العنصر الأساسي اللازم لصنع المعجزات، ولتقبلها: لهذا ما أعظم قول الرب لأعمى أريحا بَرطيماوُس، " أَبصِرْ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ! " (لوقا 18: 42)، وهكذا قال أيضًا لنازفة الدم " ثِقي يا ابنَتي، إِيمانُكِ أَبرَأَكِ " (متى 9: 22). الإيمان إذن هو بدء الطريق إلى الله، وأول الشروط اللازمة للخلاص. ومن الناحية الأخرى، نرى أن السيد الرب لما جاء إلى وطنه " ولَم يُكثِرْ مِنَ المُعجِزاتِ هُناكَ لِعَدَمِ إِيمانِهِم " (متى 13: 58). أمام هذا العدد الهائل من الإثباتات والعجائب، لم يكن من سببٍ لأحد أن يشك، بل بالأحرى كان كل ذلك يدعو لكي يزيد إعجابهم أكثر بالرّب يسوع المسيح.

 

يمتلك البُرْص العَشَرَة إيمانًا في يسوع إلى حد طلب الشفاء منه. ويمتلكون إيمانًا إلى حد أطاعوا يسوع بالذهاب إلى الكَهَنَة حتى قبل أن يروا أنهم قد برئوا. غير أن واحدًا منهم فقط لديه إيمان قادر أن يخلّصه روحيا وليس فقط جسديا.

تبدو معجزة شفاء البُرْص العَشَرَة عملا من أعمال يسوع المُخلص، والدليل على ذلك ربط يسوع الشفاء بفعل خلَّص "إِيمانُكَ خَلَّصَكَ" (لوقا 17: 19). فليس الشفاء الجسدي إلاَّ علامة ووعد بالخلاص الحقيقي والنهائي الذي هو الانتصار على الشر. فالعَشَرَة نالوا الشفاء، لكن يسوع قال للذي عاد يشكره "إِيمانُكَ خَلَّصَكَ" (لوقا 17: 19)، أي أنَّ الشفاء لم يكن الخلاص الحقيقي بل علامة له، وان الأبرص السامري وحده نال الخلاص، لان الإيمان مكَّنه من الاعتراف بعطية الله التي منحه إياها بواسطة يسوع. لقد كان للسامري إيمان ٌ عظيمٌ قادرٌ على منحه الخلاص. فالإيمان هو الطريق الذي أرجع السامري إلى يسوع المسيح الذي نال منه الخلاص ليشركه ويمجِّده.

 

أراد يسوع بقوله للسامري الأبرص "إِيمانُكَ خَلَّصَكَ".   إن نؤمنَ نحن أيضا بشخصه الإلهي وقُدرته اللامحدودة، ونحيا حياةً روحيّة سليمة لا يشوّهها بَرَصُ الخطيئة، ونعبّرَ لـه عن إيماننا بما قاله البُرْص العَشَرَة " رُحماكَ يا يسوع المُعلّم ". إنّها صرخة الإيمان نرفعها إلى يسوع صديقنا الأعظم فيُعيد إلينا صحّتنا الروحيّة المفقودة، شريطة أن يكون إيماننا به إيماناً حقيقيا فعّالاً.

 

إن الله قادر أن يصنع المعجزات، ولكنه ينتظر إيماننا. وهنا نقول إنه في أغلب الأحوال يصنع الله المعجزة بحسب الإيمان، ولكنه في أحيان أخرى، يصنع المعجزة لكي نؤمن. وهكذا في هاتين الحالتين، يرتبط الإيمان بالمعجزات: فإما أن يكون سابقًا لها، وإما أن يكون نتيجة لها. إن الإيمان -أيًا كان نوعه -هو قوة. يكفي أن يؤمن الإنسان بفكره، فتراه يعمل بقوة المسيح لكي ينفِّذها. الإيمان يعطيه عزيمة وإرادة وجرأة ما كانت عنده من قبل. وحيثما يوجد الإيمان، توجد معه القوة. ومن هنا لنحاسب أنفسنا بحسب وصية بولس الرسول "حاسِبوا أَنفُسَكُم وانظُروا هَل أَنتُم على الإِيمان. اختبروا أَنفُسَكم" (2 قورنتس 13: 5). ولكن لا يكونُ إيمانُنا إيماناً فعّالاً قادراً على التأثير في قلب يسوع إلاّ إذا كان مقروناً بالمحبّة، أيْ محبّة الله ومحبّة الآخرين" ففي المسيحِ يسوعَ لا قِيمةَ لِلخِتانِ ولا لِلقَلَف، وإِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحبَّة" (غلاطية 5: 6). والمحبّة لله لا تقوم بالكلام والعاطفة، بل بحفظ الوصايا وتقديم الخدمة التي يحتاج إليها إخوتنا المتألّمون.

 

نستنتج مما سبق من خلال معجزة الشفاء أنَّ الخلاص هو بالإيمان. ويقرن الرسول بولس الأمرين معاً فيقول " بِالنِّعمةِ نِلتُمُ الخَلاص" (أفسس 2: 8)، وأيضاً " لكِنَّهم بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع، ذاكَ الَّذي جَعلَه اللهُ كَفَّارةً في دَمِه بِالإِيمان ليُظهِرَ بِرَّه" (رومة 3: 24). نحن أيضًا قد شفينا من خلال إيماننا بيسوع. فقد تمَّ تطهير أرواحنا من الخطيئة في مياه المعمودية. ونحن نختبر هذا التطهير مرارًا وتكرارًا في سر الاعتراف حيث نندم على خطايانا ونتوسل ونتلقى رحمة من سيدنا يسوع.   لذلك لا نتردّد أن نعود إلى تمجيد الله وشكره في كل قداس، مقدمين نقوسنا ضحية مع تضحية يسوع ولنسجد أمام ربنا، ونقدم الشكر على خلاصنا.   في شكرنا من خلال القربان المقدس، نتذكر "يسوع المسيح، الذي قام من بين الأموات. ونصلي مع بولس الرسول للمثابرة في الإيمان بالمسيح " إِذا مُتْنا مَعَه حَيِينا مَعَه 12 وإِذا صَبَرنا مَلَكنا مَعَه" (2   طيموتاوس 2: 11-12).

 

 

الخلاصة

 

يدلُّ صراخ العَشَرَة البُرْص للمسيح "رُحْماكَ يا يسوع أَيُّها المُعَلِّم!" على إيمانهم بالمسيح. فقد كانت صرختهم حقيقية صادرة من القلب. فلم يصرخوا هنا صرخة التحذير لئلاً يتنجّس بهم أحد، بل صرخوا أمام الرب يسوع صرخة الاسترحام.

 

استجاب يسوع لندائهم: بنظرة وكلمة: "رآهم"، وقال لهم "اُمضُوا إلى الكَهَنَة فَأَرُوهُم أَنفُسَكم". فكان بنظرته راحماً، وبكلمته شافياً. فَقَد" وَرَدَ في الكِتاب: "مَن آمَنَ بِه لا يُخْزى" (رومة 10: 13). غير أنّ إيمانهم اتضح أيضًا في أمر يسوع لهم بالذهاب للكهنة وهم مازالوا بُرصًا ولقد طُهِّروا في الطريق. فهم آمنوا بقوته ولم يعترضوا على الذهاب للكهنة قبل أن يشفوا. هذا دليل ثقتهم في كلمة يسوع المُعلم.

 

لكن يسوع أعاب التِّسعَة لعدم شكرهم فحرموا من المزيد، إذ انشغلوا بالشفاء الجسدي، ولم يتمتعوا بالحصول على الشفاء الروحي، أي الخلاص. ومن هنا نستنتج أنَّ الإيمان ليس حكرًا لشعب ما أو أمة معينة، إنَّما هو مُقدم لكل البشرية. هذا ما أوضحه لنا لوقا الإنجيلي عندما حدّثنا عن لقاء السيد المسيح بعَشَرَة رجال بُرص وبينهم سامري الذي عاد يقدِّم الشكر له، فاستحقَّ دون سواه أن يسمع من يسوع " قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ " (لوقا 17: 19).

 

إننا كثيرًا ما نفرح بنعم كثيرة في حياتنا، ولكننا ننسى المُنعم بها علينا. نطلب وبلجاجة ودموع حتى يستجيب لنا الرب ويعطينا ما نحتاج إليه، ثم ننسى أن نرفع أيدينا بالحمد له على أعماله معنا. إن هؤلاء العَشَرَة البُرْص فرحوا ببركة الشفاء التي نالوها بإيمانهم، ونسوا واهبها لهم. لنظهر امتناننا على عطيّة الإيمان ولنشكر الربّ كما فعل الرجل السامري الغريب المُصاب بالبُرْص على محبّته الكبيرة والتي لا نستحقُّها!

 

إن الله يهتم لأمر الإنسان ويقدم له المساعدة ليحقِّق خلاصه، وأمام هذه الرحمة والرأفة، يقف الإنسان صارخا مع صاحب المزامير "الخَيرُ والرَّحمَةُ يلازِماني جَميعَ أَيَّامِ حَياتي" (مزمور 22: 6)، وهكذا تتولد مشاعر الشكر لله الذي يغدق على الإنسان خيراته مجانا.  لا ننسى أن نسجد عند قدمي يسوع مثل الأبرص السامري مقدمين له التمجيد والشكر على كل شيء.

 

 

الدعاء:

 

أيّها الربّ الإله، يا ينبوع الحياة الزمنيّة والأبديّة، أعطنا قلبًا يبحث عنك ليس فقط من اجل شفاء الجسد، بل النفس أيضا. فنعود إليك لرفع الشكر من أجل هبة الإيمان والخلاص. اجعل الكنيسة بأكملها شاهدة للخلاص الّتي تجريه فينا باستمرار في يسوع المسيح ربنا، فنقدّم المجد والشكر والتسبيح للرب من أجل جميع نعمه وعطاياه وخلاصه. آمين.

 

 

قصة: أبرصٌ يَشفي القدّيس فرنسيس من مخاوفه

 

في يوم من الأيّام، بينما كان فرنسيس الشاب يمتطي حصانه قُرب مدينة أسيزي، أقبل إليه أبرص. وكان فرنسيس على عادته يرتعب من مرضى البرص. لهذا، غالب نفسه وترجّل عن مطيته وأعطى الأبرص قطعة من الفضة مقبّلاً يده في آنٍ معًا. وبعد أن تلقّى من الأبرص قبلة السلام، عاد وامتطى حصانه ومضى متابعًا سيره. من تلك اللحظة، بدأ فرنسيس يتغلّب على نفسه حتّى حقّق انتصارًا كاملاً على نفسه بفضل الله.

 

وبعد بضعة أيّام، توجّه القدّيس فرنسيس إلى مأوى مرضى البرص متزوّدًا بكميّة كبيرة من المال، وبعد أن جمعهم حوله، تصدّق على كلٍّ منهم بقطعة نقديّة مقبّلاً أيديهم. وبعد عودته، شُفي مِمّا كان يبدو له مريرًا – أي خوفه من رؤية أو لمس أيّ أبرص– وتحوّل إلى عذوبة وحلاوة. فقد كانت رؤيته البرص، كما كان يحدث له أن يقول، مؤلمة لدرجة أنّه كان يرفض أن يراهم، لا بل كان أيضًا يرفض حتّى الاقتراب من مقارّهم. وإن كان يصدف له أن يراهم أحيانًا أو أن يمرّ من أمام بيت البرص، كان يشيح بوجهه بعيدًا عنه سادًّا أنفه. لكن نعمة الله جعلته ملازمًا لمرضى البرص إلى درجة أنّه، كما شهد في وصيّته، كان ينزل بينهم ويخدمهم بكلّ تواضع. فكان لزيارته إلى مرضى البرص الأثر الكبير في تحوّله.

 

وقد ترك فرنسيس في وصيته ما يلي: "عندما كنت أتخّبط في الخطايا، كان يشقّ عليّ أن أشاهد البُرْص، لكنّ الرب اقتادني إليهم، فانقلب الأمر عذباً على قلبي وجسمي حتى هجرت العالم". إن نعمة الله تجعل المستحيل ممكناً. (سيرة حياة القدّيس فرنسيس الأسيزي كما رواها ثلاثة من رفاقه § 11)

 

 

برقين: مكان إبراء عَشَرَة مِنَ البُرْص

 

التسمية: تُعد قرية برقين في منطقة جنين مَعلماً سياحياً ودينيا هاماً بالنسبة للحجاج المسيحيين القادمين إلى فلسطين. فقد ذُكرت باسم "بورقينا" في رسائل تل العمارنة المصرية، التي هي مراسلات بين الفراعنة وممالك المدن الفلسطينية. ولما شفى يسوع البُرْص العَشَرَة سُمّي الموقع "بورصين" وتحوّل بعد ذلك إلى بورقين ومن ثم استقر على برقين. واسم برقين ربما اشتق من اللفظة السامية بَرَكَ أي جثا على ركبتيه وبارك أو استراح، والبعض يرى أن برقين مشتقة من البرقان (أي اللمعان) وتشير إلى البُرْص.

 

الموقع: تقع قرية برقين على بعد 5 كم غرب مدينة جنين في الطرف الشمالي من سهل عربة على الطريق جنين –حيفا؛ ويَحد برقين من الشرق جنين ومخيمها، ومن الغرب كفركود والهاشمية وكفيرت وبئر الباشا وعرابة، ومن الجنوب قباطية ومثلث الشهداء، ومن الشمال كفرذان واليامون. وترتفع برقين 250 متر عن سطح البحر. وتشتهر برقين بالزيتون؛ ويُطلق عليه الأهالي "الزيتون الرومي" أي الذي يعود إلى العهد الروماني. ويعتمد معظم السكان على موسم قطف الزيتون في تحسين المستوى المعيشة.

 

السكان: يبلغ عدد سكانها نحو 8500 نسمة تقريباً حسب مصادر دائرة الإحصاء عام 2010 أغلبهم من المسلمين ويبلغ عدد السكان المسيحيين في البلدة حوالي 90 نسمة تقريباً وهم موزَّعون بين اللاتين والروم الأرثوذكس. وأمَّا أشهر عائلاتها فهي: جرار ينتسبون إلى الشقران، ودار أبو غانم ويقال إنهم من سورية ولهم أبناء عم في نابلس وصفورية، ودار العتيق من أقدم العائلات في القرية. وفي القرية بقايا من حملة إبراهيم باشا.

 

المعالم التاريخية:

 

يروي التقليد انه كان في قرية برقين في العصر الروماني الأول مجموعة من البُرْص، تمّ عزلهم في مغارة لها ثغرة في سقفها، وكان أهالي المرضى يرمون الطعام والشراب من خلالها، وعندما سمع أهالي القرية والمرضى بمعجزات السيد المسيح طلبوا منه عند مروره بقريتهم قادماً من الجليل إلى القدس أن يشفي مرضاهم، فكانت المعجزة بأن زار المرضى في مغارتهم وشفاهم جميعاً (لوقا 17: 11-19)، وهكذا جاءت قدسية هذا المكان. وبُنيت في العهد البيزنطي كنيسة على المغارة والتي لا تزال موجودة حتى الآن بطاقتها التي كان يلقي منها الطعام للمرضى في داخل الكنيسة التي أطلق عليها اسم كنيسة البُرْص العَشَرَة. وقد تمَّ ترميم الكنيسة عام 1600، باسم كنيسة القديس جاورجيوس وهي تابعة للروم الأرثوذكس، وتحمل اسم كنيسة البُرْص العَشَرَة.

 

وظلت برقين قرية صغيرة طيلة الفترة العثمانية، وأصبحت تتبع سنجق نابلس ضمن ولاية بيروت في أواخر القرن التاسع عشر. وعندما سقطت فلسطين بيد الجيش البريطاني عام 1917، تمَّ ضم القرية إلى قضاء جنين، حيث استمر العمل بهذا التقسيم الإداري حتى النكبة عام 1948. ويتذكر الفلسطينيون شهداء الجيش العراقي الذين سقطوا دفاعاً عن جنين وقراها، حيث توجد مقبرة للعشرات منهم بالقرب مثلث الشهداء جنوب برقين.

 

وفي عام 1951 انضمَّت الضفة الغربية بما فيها برقين إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وأصبحت جنين في عام 1964 مركزاً للواء جنين التابع لمحافظة نابلس، وبقيت جنين تحت الحكم الأردني حتى احتلالها في حرب حزيران 1967. وقد صادرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي جزءاً من أراضيها وأقامت عليها مستوطنة بروكين وهي قرية تعاونية أنشأت عام 1982.

 

وفي 1995 عندما أصبحت جنين تابعة للسلطة الفلسطينية، قامت دائرة الآثار بوزارة السياحة الفلسطينية بأعمال صيانة وترميم مكثفة في الكنيسة والمنطقة المحيطة بها في الأعوام 1996 و1997 بتمويل الحكومة الهولندية
وأصبحت برقين بلدة منذ عام 1999تابعة لمحافظة جنين، كما وقعت معظم أراضي المحافظة ضمن تصنيف (أ) و(ب) حسب اتفاق أوسلو.

 

المعالم الأثرية:

 

كشفت الحفريات الأثرية أن برقين تعود إلى الفترة الرومانية والبيزنطية. ومن أهم المعالم الأثرية فيها هي كنيسة برقين. وهي تقع على المنحدر الشمالي للتلة، وتطل على وادي برقين الذي ينتهي في مرج بن عامر على بعد 4 كم إلى الشرق من القرية. وتشير الدلائل الأثرية إلى أربع مراحل رئيسية في تاريخ الكنيسة:

 

المرحلة الأولى: بدأت الكنيسة ككهف يشبه الآبار الرومانية وله فتحة دائرية ووضع مذبح وشُيد جدار حجري على مدخلة. وفي هذا الكهف تمَّت معجزة إبراء عَشَرَة برص.

 

المرحلة الثانية: في الفترة البيزنطية (القرن الخامس –التاسع) شُيدت كنيسة على مدخل الكهف وذلك بتحويل المغارة إلى كنيسة، وكانت صغيرة جداً لا تتسع لعدد كبير من المُصلين إلا أنه جرى توسيعها في نهاية الفترة البيزنطية في القرن التاسع. ثم دُمِّرت الكنيسة.

 

المرحلة الثالثة: في القرن الثاني عشر أعاد الصليبيون بناء الكنيسة التي اشتملت على غرف إضافية وساحة حول الكنيسة.

 

المرحلة الرابعة: أصبحت الكنيسة تتكوّن من الكهف والكنيسة التي أعيد تشييدها في القرن الثالث عشر ويقوم على الكنيسة عقدان على شكل صليب وأضيفت لاحقاً غرفة من الجهة الشرقية استخدمت كمدرسة. وفي عقد الستينات أضيفت غرفتان على الجهة الغربية للساحة. وخضعت الكنيسة لسلسلة من عمليات الإصلاح والترميم كان ىخرها في عقد السبعينات، حيث تمَّ قصر الجدران من الداخل.

 

وصف كوندورC. Conder  سنة 1875 من خلال مسحه لفلسطين الكنيسة بأنها غرفة صغيرة لها الإيقونسطاس (حاملة الأيقونات حجري إلى الشرق ليفصل حنية الكنيسة عن صحنها. ولها ثلاث مداخل تحميها أبواب. ويوجد كرسي حجري في الجهة الجنوبية له ذرعان حفر عليهما رأس حيوان. كما يوجد مقرأين حجريان لحمل الكتب المقدسة. وفي الكنيسة جرن معمودية يعود إلى القرن السادس للميلاد؛ وأمَّا الإيقونسطاس والكرسي الأسقفي يعود إلى أكثر من 1500 عام. وقامت دائرة الآثار العامة الفلسطينية في عام 1997 بأعمال ترميم شاملة في الكنيسة باستخدام تقنيات تقليدية وحديثة بتمويل الحكومة الهولندية.