موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

أَولِنا القيامَة في دارِ الأحياء

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أَولِنا القيامَة في دارِ الأحياء

أَولِنا القيامَة في دارِ الأحياء

 

عظة الأحد الثّاني والثّلاثون - ج

 

اِحتَفَلنَا أَيُّهَا الأحبّة، في رأسِ هَذا الشّهر بِعيدِ جَميعِ القِدَّيسين، وَفي اليومِ الّذي تَلاه بِذكرَى جَميعِ الْمَوتَى الْمُؤمنين، وَكِلا العِيدَين يُحييانِ إيمانَنا وَرجاءَنا بِقيامةِ الرّاقدين، وَقِيامَتِنَا نحنُ أيضًا، فالقيامَةُ هي زُبدَةُ إيمانِنَا، وَخُلاصَةُ رجائِنَا. وإلّا ما الفائِدةُ مِن هَذَا الكَمِّ الهائِلِ منَ الأعيادِ والتّذكَاراتِ والصّلواتِ الّتي نُقيمُها وَنَرفَعُها، إذا كَانَ أَصحَابُها قَدْ زالوا عَنِ الوُجودِ بِشَكلٍ نهائيّ! كَلَّا، هُم حَاضِرونَ، مَوجودونَ، وَوُجودُهم وُجودٌ أَزَليّ، فَهُم انْتَقَلوا منَ الْمَوتِ إلى الحياة! وَبموتِهم لَم يَفْنَوا، بَل تَبَدَّلُوا مِن حالَةِ الفَناءِ الأرضيِّ إلى حالَةِ البَقَاء السّماويّ.

 

وإيمانُنا بالقيامةِ إنَّما يَستَنِدُ عَلَى إيمانِنا بِقيامَةِ الْمَسيحِ لَهُ الْمَجد! فَقيامَةُ الْمسيح، الّتي تَمَّت مرّةً، والّتي نحتفِلُ بها في فِصحِ الأحدِ الأسبوعيّ، وَالفِصحِ الكَبيرِ السَّنَوي، هِيَ رَكيزَةُ إيمانِنا وَدعامَةُ رَجَائِنا بالقيامَة. تَعالوا نَستَمِعُ إلى مَا يقولُهُ لَنَا القِدّيسُ بُولس بهذا الخصوص، في رِسَالتِهِ الأولَى إلى أهلِ قورنتوس: ﴿إِن كانَ الْمَسيحُ لم يَقُمْ، فتَبشيرُنا بَاطِلٌ وإِيمانُكُم أَيضًا بَاطِل. وإِذا كانَ رَجاؤُنا في الْمَسيحِ مَقصورًا عَلَى هَذهِ الحَياة، فنَحنُ أَحقُّ جَميعِ النَّاسِ بِأَن يُرْثى لَهم. كَلاَّ! إِنَّ الْمَسيحَ قد قامَ مِن بَينِ الأَموات. وكما يَموتُ جَميعُ النَّاسِ في آدم فكذلك سَيُحيَونَ جَميعًا في المسيح﴾ (1قورنتوس 14:15-22).

 

مُناظَرَةُ اليوم، والّتي جَرَت بينَ الْمسيحِ وَفِرقَةٍ مِن اليهودِ تُدْعَى الصَّدُّوقيين، كَانَت حَولَ القيامَة! هَذهِ الفرقَة كانَت تَستَنِدُ في إيمانِها على كُتُبِ الشَّريعَة الخمسَة. وَمِن هَذِهِ الأسفار، أَتَاهُم رَدُّ الْمَسيحِ قَاطِعًا. فَفي الوقتِ الّذي فيهِ تُنكِرُ هَذهِ الفِرقَة حَقيقَةَ القيامَة، يُؤكِّدُ السّيدُ الْمَسيح بِأنَّ اللهَ هو إلهُ أحياءٍ، لا إلهَ أَموَات، وَبِأَنَّ أَصفياءَهُ وَقدّيسيِه، مِن إبراهيمَ واِسحقَ وَيعقوبَ وَموسَى، هُم جَميعًا عِندَهُ أَحياء! وفي هَذَا الشَّأنِ، يَقولُ سِفرُ الحِكمَة: ﴿فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ الإنْسانَ لِعَدَمِ الفَسَاد... أَمَّا نُفوسُ الأَبْرارِ فَهِيَ بِيَدِ الله فلا يَمَسُّهَا أَيُّ عَذَاب. في أَعيُنِ الأَغْبِياءِ يَبْدو أَنَّهم مَاتوا... لكِنَّهُم في سَلام﴾ (الحكمَة 23:2، 1:3-3).

 

﴿فَمَا كانَ إلهَ أموات، بَل إلهُ أحياء﴾ (لوقا 38:20). دَعونَا نَتَوَقَّف وَنُفَكّر في هَذهِ الآية. مَن هوَ الإنسانُ الحيّ؟ الَّذي يَنمو وَيَتَحرَّك، وَيَأكُل وَيَشرَب، وَيُفَكِّر وَيَشعُر، وَيَقومُ بِسَائِرِ الوَظائِفِ الفِيزيولوجيّة؟! مِن نَاحيةٍ طِبِّيَة هَذَا صَحيح، وفي الَّلحظَةِ الّتي يُصيبُ هَذهِ الوظائِف التَّوَقّفَ الكُليَّ وَالتّام، يُصبِحُ الإنسان في عِدادِ الْمَوتَى. ولكِن مِن نَاحيَةٍ رُوحيَّةٍ وَإيمانيّة، مَن هوَ الإنسانُ الحي؟! ما هي خَصَائِصُه، صِفَاتُه؟

 

هوَ الّذي يَنْمُو وَيَسمُو: ﴿في الحكمَةِ والقامَةِ والحُظوَة عندَ الله والنّاس﴾ (لوقا 52:2). يَتَحَرَّكُ بُهدى كَلِمَةِ الله، إذْ أنَّ: ﴿كَلِمَتُكَ مِصْباح لِقَدَميَّ ونورٌ لِسَبيلي﴾ (مزمور 105:119). طَعَامُهُ الخبزُ الحيّ، فَ: ﴿إنَّ الخُبزَ النّازِلَ مِنَ السَّمَاء، هوَ الّذي يأكُلُ مِنهُ الإنسانُ وَلا يموت﴾ (يوحنّا 50:6). شرابُهُ الْماءُ الحَي، فَ: ﴿الّذي يَشرَبُ مِنَ الْماءِ الّذي أُعطيهِ أَنا إيَّاه، فَلَن يَعطَشَ أبدًا، بَل يَصيرُ فيهِ عينَ ماءً يَتَفَجَّرُ حياةً أَبَديّة﴾ (يوحنّا 14:4). تَفْكيرُهُ قَائِمٌ عَلَى مَعرِفَةِ الله، لِأنَّ: ﴿الحياةَ الأبَديَّةَ هيَ أنْ يَعرِفُوكَ أَنْتَ الإلهَ الحقَّ وَحدَك﴾ (يوحنّا 3:17).لِلقدّيسِ إرينيوس أُسقف ليون، مِن القرنِ الثاني، مَقولَة جميلة، في الّلغةِ الّلاتينيّة، هي: "Gloria enim Dei vivens homo"، وَمعناها: "مجدُ الله، هوَ الإنسانُ الحيّ". الله يَتَمَجَّدُ في الأحياءِ لا في الأموات، لأنَّهُ رَبُّ الحياةِ وَمُعْطيها. والحياةُ، لَيسَت أَكْلًا وَشُربًا وَمَالًا وَجَاهً وَمَتاعًا وَلَذَّات، بِقَدرِ مَا هِيَ حَالَةُ النِّعمَةِ الّتي يكونُ فيها الإنسان، حالَةُ القَدَاسَةِ والبَرارَةِ، والصَّفَاءِ والنَّقَاوَة. أَمّا الأمواتُ فَهُم أَمواتُ الخَطيئةِ وَضَحايا الرَّجَاسَةِ وَالفَسَاد. وَفي هذا يكتبُ بولسُ الرّسول في رسالتِه إلى أهل أَفَسُس، قائِلًا: ﴿وَأَنتُم، وَقَدْ كُنتُم أمواتًا بِزلَّاتِكُم وخَطاياكُم﴾ (أفسس 1:2-2)

 

وإنْ كُنّا نُصَلّي في كلِّ مَرّةٍ نَتْلُو فِيهَا الصّلاةَ الربّيَة، قَائِلين: "لِيأتِ مَلَكوتُكَ"، فَلْنذكُر قولَ بولسُ الرّسول، في رسالتِهِ إلى أَهلِ رومة: ﴿لَيسَ مَلكوتُ الله أكلًا وَشُربًا، بَل بِرٌّ وَفَرَحٌ في الرّوحِ القُدُس﴾ (رومة 17:14). مَلكوتُ البّرِّ هذا، لَيسَ أَمرًا نَرجوهُ في الْمُستَقبَل، بِقَدرِ مَا هو واقِعٌ نَسْعَى أَن نَعيشَهُ كُلَّ يَوم، كَمَسيحييّن أَحيَاءَ بالفضيلَةِ وَالنِّعمَة. وَلِذلكَ، أَنت قَادِرٌ منَ اليَوم أنْ تَقطِفَ ثمارَ القيامةِ، وَتَذوقَهَا بِشكلٍ مُسبَق، عِندَمَا يَكونُ اللهُ حَيًّا فيك، وَأَنت حيٌّ في الله!

 

وَأخيرًا يا أحبّة، فَليُعِدَّ كُلٌّ مِنَّا نَفسَهُ للرّحيل: ﴿ونَحنُ نَعلَمُ أَنَّه إِذا هُدِمَ بَيتُنا الأَرْضِيّ، وَمَا هوَ إِلاَّ خَيمَة، فلَنا في السَّمَواتِ مَسكِنٌ مِن صُنعِ الله، بَيتٌ أَبَدِيٌّ لم تَصنَعْه الأَيْدي﴾ (2قورنتوس 1:5). بِسُلوكِنا سُلوكَ أَبناءِ النّور، وَبِسيرَةِ القِدَّيسين الاتقياء، دونَ أن نعلَمَ اليومَ والسّاعة، ذِاكِرينَ أنَّهُ: ﴿لابُدَّ لَنا جَميعًا مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمةِ الْمسيح، كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما عَمِلَ وهو في الجَسَد، أَخيرًا كانَ أَم شَرًّا﴾ (2 قورنتوس 10:5)، وَاضِعينَ نُصبَ عُيونِنا كَلماتِ بولسَ الرّسول، مُوطِّدينَ رجاءَنا مُعزّزين إيمانَنا، بِأنَ: ﴿مَا لَم تَرَهُ عَينٌ، ولا سَمِعَت بهِ أُذنٌ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلبِ بَشَر، ذَلِكَ مَا أَعَدَّهُ الله للذين يُحبّونَهُ﴾ (1قورنتوس 9:2)