موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

أَغَدًا ألقَاك

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أَغَدًا ألقَاك

أَغَدًا ألقَاك

 

ذكرى جميع الْمَوتى المؤمنين

 

"ليسَ الْمَوتُ ما يُفرِّق، بَل يُوحِّد. إذْ إنَّ الحياةَ ما يُفرِّقُنا". مَقولَةٌ لِلأديبِ الألْمانيّ هَاينرش هاينه، وَمِن أَصدَقِ مَا قِيلَ عنِ الْمَوت! فَنَحنُ، معشرَ البَشر، ظَلَمنَا الْمَوت، في الوقتِ الّذي فيه يعدِلُ الْموتُ بَينَ الجَميع! فَأمامَ الْمَوت، الجميعُ يَتَساوون، إذْ أنّهُ حقيقةُ الكَائِنَاتِ الْمُطْلَقَة! وَمَهمَا فَعَل البَشَريّونَ لأجلِ إِطَالَة أَعمَارِهم، مِن اختِراعِ أَدْويةٍ وَعِلاجَات، ومُمارَسَاتٍ رِياضِيَّة وَاتّباعِ أَنْظِمَةٍ غِذَائيّة، إلّا أنّهم سَيُدرِكونَ هَذا الْمَصيرَ آَخِرَ الأمر! فَالقَضيَّةُ هي قَضيّةُ وَقتٍ لَيسَ إلّا.

 

وَهُنا أَذكُرُ قَولَ الشَّاعِرِ ابنِ نَباتةَ السَّعديّ: وَمَن لَم يَمُتْ بالسّيفِ ماتَ بِغَيرِه، تَعدَّدت الأسبابُ والْموتُ واحِدُ. الْمَوتُ يا أَحبَّة لا يُفرّق، إنَّما يجمَع وَيُوحّدِ! الحياةُ هيَ الّتي تَصنَعُ الفَوارِقَ بَينَ النّاس: الفقير والغّني، الحكيم والغَبي، الْمُتَعَلّم وَالجاهِل، الفَضيل والرّذيل. الحياةُ هي الّتي تُباعِد وتَجعَلُ الانقسامات، وتُعزِّز الاختِلافاتِ. الحياةُ هيَ الّتي تُقسِّمُ النَّاسَ ضِمنَ فِئاتٍ وَمَنازِلَ وَطَبَقَاتٍ وَدَرَجَات... فَلا تُبالِغوا في ظُلمِ الْمَوت، لأنّهُ خَيرُ مَن قَضَى فَعَدَل! وَلو أنَّ الحياةَ بِلا مَوت، لَوجدتُها لا تُطَاق! فَالْمَوتُ نِعمَة لِمَن يُدرِكُ حَقيقةَ مَعنَاه، ولا يَرى فيه مُجرّدَ بُكاءٍ وَنحيبٍ عَلَى أَضرِحَةِ الرّاقدين!

 

يَكرَهُ النّاسُ عَادَةً الحديثَ عَن الْمَوت، مَع أَنَّهُ مَصيرُهُم الحَتمِيّ! وَكُرهُهم هَذا قَد يَتَأَتَّى مِن خَوفٍ، ورَغبَةٍ في عَدمِ الفَنَاءِ وَحُبِّ الخُلود. وَما يَكرَهُهُ الإنسان، لا يُحبُّ حتّى ذِكرَهُ أو مُجرّدَ التّفكيرِ فيه، لِأنَّ الكُرهَ أَحيانًا يَعني رُعبًا. والْموتُ للكثيرين قِصَّةُ رُعْب، قَدْ لا يَشعرونَ بِها وهم في مَوفورِ عافِيتِهم وَقِمّةِ عَطَائِهم. وَلَكن متَى بَدأَ الشّيبُ يَغْزُو الرّأس، والتَّجاعيدُ تملَئُ الوَجه، والضّعفُ يَتسرّبُ إلى الأرجُلِ ويَعتري الجسمَ بِشكلٍ عَام، وَتَكثُرُ زِيَاراتُ الأطبّاء، حتّى يُدرِكونَ بِأنَّ الأمرَ أَمْسَى على الأبواب، وَجَرسُ الرّحيلِ سَيقرَعُ قَريبًا، يَدعوهم أَيضًا للانْتِظامِ في صَفِّ الرّاحِلين!

 

فَيا صَديقي، دَعني أُحدِّثُكَ عن الْمَوتِ بِشَكلٍ يَخُصُّكَ، وَلو مَرّةً في العام. فِإنْ كَانَت حياتُنا هذهِ الفَانِيَة، سَتَنقَضي ونحنَ نَعيشُ جُلَّ أَوقَاتِها سعيًا مَحمومًا وَراءَ خيراتِها وَمَسَرّاتِها الْمَاديّةِ، وبحثًا عن مَلَذّاتِها وَالاسْتِزادَةِ مِن مَتَاعِها، فَمَن يا تُرى سَيُذكِّرُكَ بِعَاقِبَتِكَ الّتي تَنْتَظِرُكُ آخرَ الطّريق، عَلَّهَا تكونُ عَاقِبَةً طَيّبَةً مَحمُودَة؟! يَقولُ الحكيم يَشوعُ بِن سيراخ: ﴿في جَميعِ أَعمالِكَ أُذْكُر أَواخِرَكِ، فَلن تَخطَأ أبدًا﴾ (بن سيراخ 36:7). وَطَبعًا، هَذَا مِن رَابعِ الْمُستَحيلات، لأنَّ مُعظمَ فِكرنَا الإنسانيّ قَصيرُ الْمَدى، محصورٌ فَقَط بمدى هذهِ الحياةِ، قَصيرَةِ الْمَدى!

 

يُصلّي البابا كليمنضوس الحادي عَشر، قائِلًا: "أَنْعِم عَلَيَّ يا رب، أنْ اَستَعِدَّ للموتِ، وَأخافَ الدّينونَة، وَأنجوَ مِن جَهنَّم، وأنالَ السّماءَ لِأُمَجِّدَكَ". الْمَسيحيُّ الحَكيم الْيَقِظ، هو مَن يعلَمُ أنَّ الحياةَ وَسيلةٌ فَقط، نَستَخدِمُهَا للاستعدادِ الحَسَنِ لِمُلاقاةِ وجَهِ اللهِ الأبِ الرَّحيم. والْمَسيحيُّ الغَافِلُ النّائِم، هوَ مَن يعتقِدُ أنَّ الحياةَ هَدَفٌ وَغَاية، وَكأنَّهُ لَنْ يموتَ أَبَدًا، فَتُمْسِي حياتُهُ مُنَاسباتٍ مُتراكِمَة لِملاقاةِ اللهِ الدّيانِ العادِل!

 

اِسمَعوا مَاذَا يَقولُ صاحِبُ الْمَزامير، في الْمَزمورِ التّاسعِ والثّلاثين: ﴿يا رَبِّ أَعلِمْني أَجَلي، وَمَا طُولُ أَيَّامي، فَأَعرِفَ مَا أَشَدَّ زَوالي.﴾ (مزمور 5:39). نعم أَيُّها الأحبّة، حتّى وَإنْ كَانَ الْمَوتُ البَشريُّ هو نهايةٌ أَكيدَة، ولَكِن مِنَ النّاسِ مَن استطاعَ أن يُعطيَ لِمَوتِهِ قيمَةً ومَعنًى عَظيمًا، فَلَم يَعُدْ مَوتُهُ مجرّدَ فَنَاءٍ وَانْتِهاء! وَلِذلِك، لا يزالُ البعضُ يعيشونَ مَعَنَا حتّى اليوم، وَإنْ مَاتوا بالجسد! هؤلاءِ اِسْتَطاعوا أن يَتركوا في موتِهم كَمَا في حياتِهم، أَثرًا يدومُ في النُّفوس. وَأَسمى مَثلٍ عَلَى ذَلِك، هو موتُ الْمَسيحِ نَفسِه، الّذي لم يَكُن مَوتًا كَأيِّ مَوت، بَل مَوتًا لأجلِ الحياةِ والخلاص! وَهذا ما جَعلَ موتَهُ أَعظَمَ آَيةِ حُبٍّ وَبَذلٍ وَتَضحيةٍ عَلَى مَرِّ التّاريخ.

 

لِذلك، إن كانَ لا بُدَّ مِنَ الْمَوت، فلا تَمُت عَبثًا دونَ فائِدة، لا تَمت مُجرّدَ رقمٍ سقطَ في البَشريّةِ ذاتِ السّبعَةِ مِليارات، دونَ هدفٍ وَبِلا غَايةٍ وَمبدَئٍ سَامٍ تموتُ لأجلِه. مُتْ واجعل مِن موتِك رايَةً تُرفَع، وَذِكرَى تُؤبَّد. مُت وَكُن: ﴿حَبَّةَ الحِنطَة، الّتي تَقَعُ في الأرضِ، لِتموتَ وَتُخرِجَ ثَمَرًا كَثيرًا﴾ (راجع يوحنا 24:12). مُت، دونَ أَنْ تَجعلَ النَّاسَ يَقولونَ في سِرِّهم: "الحمد لله، خلِصنَا وارتحنا مِنّه". مُت وأنتَ تُنشِدُ طَرَبًا، مع أم كلثوم: أَغَدًا أَلقَاك؟ يَا لَشوقي وَاحتراقِي في اِنتظارِ الْمَوعدِ. كَمْ أَخشَى غَدي هَذَا، وَأرجوه اِقترابا، كُنتُ أَستدنيه لَكن هِبتُهُ لَمَّا أَهَابَ. وَأَهَلَّتْ فَرحَةُ القُربِ بِهِ حينَ استَجَابَ...

 

عِشْ وَمُت لِلربِّ، فَإنَّهُ: ﴿مَا مِن أَحَدٍ مِنَّا يَحْيا لِنَفْسِه، وَمَا مِن أَحدٍ يَموتُ لِنَفْسِه، فَإِذا حَيِينا فلِلرَّبِّ نَحْيا، وإِذا مُتْنا فلِلرَّبِّ نَموت: سَواءٌ حَيِينا أَم مُتْنا فإِنَّنا لِلرَّبّ﴾ (رومة 7:14-8)