موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

"أيعود الأجنبي ليشكر!" بين كاتبي سفر الملوك الثاني والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (2 مل 5: 1- 15؛ لو 17: 11- 19)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (2 مل 5: 1- 15؛ لو 17: 11- 19)

 

مقدّمة

 

رّوح الشكر والاِمتنان أيها القراء الأفاضل، نحو إلهنا، هو شكل الاِعتراف منّا بأنّه هو مصدر الخير لحياتنا. لذا ككنيسة سينودسيّة إخترنا عنوانًا لمقالنا اليوم بصيغة التعجب (!) لنتعرف على معنى روح الشكر الّذي يخرج من شفاه وقلب الغريب أو الأجنبي بكلا النصين مما يشير، هذا الفعل لتقدير للرّبّ. أجنبي أو غريب في لغة الكتاب المقدس هو لفظ يشير على الرّوح الوثنية واللّاعلاقة مع إله بني إسرائيل بالعهد الأوّل وساد هذا الفكر حتى زمن يسوع كرجل عبري بالعهد الثاني. لذا من خلال لقاء أليشاع النبي بسفر ملوك الثاني (5: 1- 15) كمرحلة أوّلى سنتعرف على زيارة غير متوقعة من إله بني إسرائيل لغريب يأتي إليه طالبًا الشفاء. ويفاجئنا إله بني إسرائيل، بإفتقاده الإلهي الّذي يُغير مجرى حياة نعمان الوثني. على هذا المنوال، سنلتقي مع يسوع الّذي يفتقد عشرة أشخاص من مرضى البرص بالعهد الثاني، ويتلقى يسوع الشكر من قلب الأجنبي بالإنجيل اللُوقاوي (17: 11- 19). هذا المقال يهدف إلى النظر بعمق لإفتقاد الرّبّ لنا وغرس رّوح الشكر بقلوبنا نحو الرّبّ. فقد نكون غرباء على الهنا الّذي نحمل إسمه وننسى أن نقوم بالشكر فتتمكن منّا الرّوح الوثنية. قد نجد أنفسنا في أحد المرضى التسعة الّذين نالوا النعمة ولم يتعرفوا على مُعطيها ولم يعودوا إليه ثانية. يدعونا هذا المقال على الإنفتاح على السّر الإلهي فالرّبّ سيستمر في إفتقادنا وشفائنا ومنحنا نعمته وبركته، دوّن أيّ استحقاق منّا، إلا أن التحلي برّوح الشكر يساعدنا على التعمق في الاعتراف بأعمال الله الّتي لا تُحصى فنصير أبناء حقيقيين. 

 

 

1. إفتقاد الله للغريب (2مل 5: 1- 15؛ لو 17: 11- 19)

 

يُدون كاتب سفر الملوك الثاني (5: 1- 15) حدث شفاء نعمان السوري، الّذي كان بمملكة الشمال-السامرة في عصر النبي أليشاع بالعهد الأوّل. إذ يروي حدث مُعاش لرجل غريب وثني الأصل وإسمه نُعمان وهو مريض بالبرص وكان يعيش في مدينة أرام. هذا الرجل الوثني الأصل، تمكن من استيعاب زيارة الله في حياته من خلال المرض، على الرغم من وساطة جارية. قد نتعجب من هذا التناقض بسبب إنّ ملك إسرائيل اليهودي الّذي فشل في رؤية إمكانية خروج المرض من جسد رجل من أصل وثني وعودته للحياة الطبيعية بالشفاء الفوق الطبيعي، حتى أنّه قام بتمزيق ملابسه عندما تسلّم رسالة ملك أرام مع وزيره الأوّل، مريض البرص، طالبًا منه أنّ يشفيه. إلّا أنّه أظهر تذمره على هذا الطلب قائلاً: «أَلَعَلِّي أَنا اللّهُ الَّذي يُميتُ ويُحْيي، حتَّى أَرسَلَ إِلَيَّ هذا أَن أَشفِيَ رَجُلاً مِن بَرَصِه؟ إِعلَموا وانظُروا أَنَّ هذا إِنَّما يَتَحَرَّشُ بي» (2مل 5: 7). هذا الملك لم يعرف بعد قدرة الإله الشافية الّذي يملك على شعبه إسرائيل. فهو لمّ يتمكن، في هذه الحقبة، من الإعتقاد بأنّ إلهه وإله شعبه، واليوم إلهنا، يستطيع أن يفعل شيئًا يفوق الطبيعة وغير متوقع على الإطلاق، وهو شفاء الأمراض الـمُزمنة. ونفاجئ كقراء بأنّ الوزير الوثني جازف وطلب الشفاء من إلهٍ يجهله. هذا نكتشفه من خلال اللقاء بين أليشاع والوثني على يد نبي الله. وهنا يدعونا هذا الوثني بالتعرف على وجه هذا الإله المجهول بالنسبة له والّذي صار مصدر إيمان لنعمان الوثني. صار الشفاء من البرص، الكلمة الرّبّ الأخيرة، في حياة مَن يلجأ إليه مؤمنًا بعلمه بأنه سيشفى، ثم يأتي الشكر كاعتراف بعمل الآب في حياة أبنائه.

 

 

2. البرص الـمُعاصر (لو 17: 11- 12)

 

تستمر بين العهدين فكرة نجاسة مريض البرص. لذا تستحضر صورة الأبرص بأسفار الشريعة الخمس وجود مرضى البرص. والتهميش والرفض لهم هو صورة لنجاستهم بما لا يتوافق مع التطهير بروح الشريعة. فالأبرص هو شخص يموت ببطء، وهو الّذي يحتضر دون أن يحيا حياته. ونحن اليوم، قد لا نكون مرضى بالجسد بهذا المرض الـمُزمن ولكن حينما نشعر باليأس، نشعر بأن حياتنا فارغة لأنها تنهار، فإننا نجازف بالانجراف بعيدًا، ونتنحى جانبا، ونعزل أنفسنا حتى لو واصلنا التواجد بين الناس، هذا النوع من البرص الـمُعاصر.

 

في العهد الأوّل وحتى فترة ليست ببعيدة من يومنا هذا كان يتمّ إستبعاد مرضى الجُذام (البرص) لأن هذا المرض يعتبر معديًا. أحيانًا، في يومنا هذا نكون نحن بإرادتنا مَن نستبعد أنفسنا لاعتقادنا بأنّ الآخرين يروننا مرضى. فنُصاب بمرض اللّاحُب واللّاقبول، نستبعد أنفسنا لأن الآخرين ليسوا بقادرين على قبولنا. أحيانًا يكون الآخرون هم من يستبعدوننا من العلاقات بأحكامهم غير الحكيمة والهادئة، دون التعرف على تاريخنا أو معرفتنا. وهكذا، مثل مرضى البرص العشر الذين يتحدث عنهم نص الإنجيل هذا، الّذين إستمروا، ونحن معهم، في التجوال دون التعّرف عما نبحث عنه. هؤلاء المرضى هم عشرة، لكنهم يتحدثون بصوت شخص واحد، وكأن هناك تضامن في المرض. إنهم عشر قصص حياتيّة مختلفة ومع ذلك يبحثون عن نفس الشيء، الشفاء. يصير المرض هو العامل المُشترك الّذي يجمع بينهم، ويزيد من شعورهم بالقرب من الموت الجسدي!

 

بحسب لوقا، في هذا النص بالرغم من إتجاه يسوع نحو أورشليم، نحو الهيكل وهو أطهر مكان بسبب حضور الله فيه. إلّا أنّه لا يتردد عن العبور بالجليل والسامرة، أيّ من خلال الأماكن النجسة، بسبب هذه الأمراض الّتي كان يُعتقد إنها تُصيب الإنسان بسبب خطايا إرتكبها بالماضي بحسب فكر عصره. هذه الأماكن الّتي يوجد فيها صدى البُعد عن الله وعن حضوره، فهي بمثابة أماكن بعيدة عن القداسة. لذا أراد يسوع أنّ يُظهر أنّه لا يمكن الوصول إلى أورشليم دون المرور بهذه الأماكن، بل قد جاء خصيصًا لحملها للتوبة والنقاء والشفاء. الطريق الضروري، الّذي يعبر به يسوع، ليصل إلى قدس الأقداس لابد وأن يمر عبر مرض البشرية الـمُعدي.

 

 

3. العودة إلى العلاقات (لو 17: 13- 14)

 

في بعض الأحيان، اعتدنا على العيش كمُستبعدين لدرجة إستمرارنا في الحفاظ على بُعدنا حتى في وجه أولئك الذين يريدون إستقبالنا. أمام يسوع، يعرض مرضى البرص العشرة طلبهم بنوال رحمته، أخذين مسافة منه ومُضرين على الابتعاد عنه إذ يروي لوقا إنهم: «وقَفوا عن بُعدٍ ورَفعوا أًصواتَهم قالوا: "رُحْماكَ يا يسوع أَيُّها المُعَلِّم!» (لو 17: 13). بدلاً من ذلك الصراخ عن بُعد، هناك لقاء يمكن أن يحرك مسارًا للشفاء.

 

يتدرج ردّ فعل يسوع إلى عنصرين بين الرؤية والكلمة: «فلَمَّا رآهُم قالَ لَهم: "اُمضُوا إِلى الكَهَنَةِ فَأَرُوهُم أَنفُسَكم". وبَيْنَما هُم ذاهِبونَ بَرِئوا» (لو 17: 14). تحوي نظرة قبول في عالم اللاقبول لهؤلاء المرضى. بل حملتهم للبدء في التحرك والتواصل بالآخر. ثم كلمة يسوع دعوتهم للعودة إلى العلاقات. في قوله سمح لهم بالعودة للحياة وكأنّه يقول "اسمحوا لأنفسكم بأنّ يتم الاعتراف بكم، لأنه في هذا الاعتراف شفاءكم". يكشف يسوع أنّ المرض الحقيقي هو الخوف واللاعلاقة. لم يتم شفائهم بعد، لكن مرضى البرص العشرة اِنطلقوا، فوضعوا ثقتهم في يسوع والحياة. الثقة في إتخاذ القرار بالخروج من سيناريو المرض الحامل النجاسة والاستبعاد عن المجتمع الديني والكنسي، والتي وضعوها على أنفسهم أو أنّ الآخرين قد وضعوها على عاتقهم. إذن نظرة يسوع وكلمته هما اللذان يسمحن لنا بالبدء في الشفاء من الأمراض الجسدية والروحية.

 

 

4. الشكر: ملء الشفاء (لو 17: 15- 19)

 

إتمام الشفاء من ايّ مرض لعين كالخطيئة فهي البرص الروحي، لن يتمّ ما لمّ نعترف به بالشكر لله. العودة برّوح الشكر بالقلب وبالشفاه نحو مانح النعمة وليس فقط التحلي بنعمه. نعمّ، ليس من قبيل المصادفة، أن عودة السامري إلى يسوع بحسب سرد لوقا القائل: «فلمَّا رأَى واحِدٌ مِنهُم أَنَّه قد بَرِئَ، رجَعَ وهُو يُمَجِّدُ اللهَ بِأَعلَى صَوتِه» (لو 17: 15). ذهب المرضى العشر إلى مكان الكهنة، أي الهيكل الطاهر، قاموا ببساطة بواجبهم كما قال يسوع. لكن بالنسبة للسامري – الأجنبي عن باقي العشرة من المرضى، وجد أنّ المكان الطاهر ليس بالسامرة - بهيكل جرزيم، بل هو مكان اللقاء بيسوع. ومع ذلك، يوضح لوقا من خلال هذا الانعطاف خطوتين ساعدا هذا العاشر الغريب أن ينال ما يفوق الشفاء الجسدي من خلال تغيير اِتجاهه نحو المكان الّذي يوجد فيه يسوع، هذه هي الخطوة الأوّلى. التحرك، بروح الشكر، نحو هو المكان الّذي تمَّ فيه الشفاء هو بعينه المكان المقدس أينما وُجِدَ يسوع. حقيقة لا يزال هناك مكان آخر حيث يمكن للمرء أن يقدم تمجيده وتسبيحه لله، في الواقع يريد لوقا أن يُظهر أن المكان الحقيقي الوحيد الذي يقدم فيه المجد لله هو "شخص المسيح" نفسه. هذا يساعدنا أن نُدرك أن التسعة الآخرون فعلوا ببساطة ما كان عليهم فعله، لكن غالبًا ما يمنعنا تكرار إحساسنا بالواجب من إدراك الجديد القادم في حياتنا. لا حرج في ذلك، إذن، لكن الاستسلام للأخذ فقط أو لنوال النعمة، لا يمنعنا من تقديم الشكر! لا يوجد شفاء حقيقي بدون شكر. لن نحيا حياة بملء إذا لم نكن ممتنين لها وللرّبّ الّذي منحنا إياها.

 

والخطوة الثانية هي الإعتراف بعمل الله برّوح الشكر. ثقة هذا السامري بعد أنّ أخذ طريق العودة إلى المكان الحقيقي ليعُبر على إمتنان قلبه نحو عمل يسوع، في رحلة شفائه، فهو قام بدور «الخدم بطالين» (راج لو 17: 10). هذا الفعل الصادر منه يشير لثقته بالحياة، فهو عكس التسعة الآخرين. الشفاء لن يكتمل إلا إذا حوّلنا الحياة إلى احتفال بالثناء، مثل العاشر الذي عاد ليشكر، فقط الشخص الذي تم شفاؤه حقًا هو مَن يُقدر أفعال الله والآخرين في حياته. الثقة والامتنان هما موقف أولئك الّذين يريدون التوقف عن المرض مدى الحياة. هذا الغريب أعطينا درسًا خاصًا اليوم بحواره الختامي مع يسوع إذ: «سَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ يَشكُرُه، وكانَ سامِرياً. فقالَ يسوع: "أَليسَ العَشَرَةُ قد بَرِئوا؟ فأَينَ التِّسعَة؟ أَما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ اللهَ سِوى هذا الغَريب؟" ثُمَّ قالَ له: "قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ"» (لو 17: 17-19). العودة لتمجيد الآب هي وسيلة للإعتراف بعمل الله في الحياة البشرية سواء جسديًا أو روحيًا.

 

 

الخلَّاصة

 

العودة للشكر، قُرائنا الأفاضل، إنطلقنا في مقالنا عن مضمون العودة لهدف الشكر بين غريبين نعمان والسامري العاشر. في العهد الأوّل تعرفنا على نعمان الّذي عاد ليشكر الله في شخص رجله، أليشاع. وبالعهد الثاني إتضح هذا الكشف الإلهي حينما عاد رجل واحد من بين عشرة مرضى بالبرص ليشكر يسوع، علاوة على إنّه سامريّ أيّ أجنبي. يدعونا هاتين الشخصيتين بادراك أنّ الّذين يعيشون في حالة وعي بضعفهم وهشاشتهم هم فقط القادرون على التعرف على مَن يعتني بهم. فقط أولئك الذين يريدون تعلم الشكر كفن بقول نعم لحياة يتم تلقيها، ولا شراؤها، ولا حتى غزوها ّكل يوم في حياتنا يمكن أن يصبح منبع شكر للحياة، ولمانح الحياة وهو الرّبّ. إذن لنبدأ اليوم بشكر الله على شفائنا من برص القلب والروّح بالتوبة والبُعد عن رّوح الغريب التي تحاول أن تسكن باطننا فنعود عند قدمي الرّبّ شاكرين وممجدين الرّبّ معترفين بعطاياه. دُمتم في التحلي برّوح الإمتنان والشكر الدائم للرّبّ.