موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ أغسطس / آب ٢٠٢١

أمّا قلبُه فبعيد مِنّي

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أمّا قلبُه فبعيد مِنّي

أمّا قلبُه فبعيد مِنّي

 

إيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في الْمسيحِ يسوع. العبادةُ قَد تُصبِحُ مجالًا يَحمِلُ كثيرًا من الْمتناقضات، ليسَ لعيبٍ فيها، إنّما في الإنسانِ الّذي يُمارِسها، فأجِدُ شَفتايَ تَلهجُ بكلماتِ التَسبيح، وَفَمي يفيض بعباراتِ المديح، ولكنَّ قَلبي يظلُّ بعيدًا عن الله! لذلكَ العبادةُ الحقيقيّة هي كُلٌّ كاملٌ متكاملٌ مترابطٌ لا يُجتَزَأ. العبادةُ الحقيقيّة لا تُختزلُ في ساعةٍ أُمارِسها خلال الأسبوع، ولا تُقتصرُ على مَوقعٍ ومكان، ولا تُوجزُ في إيقادِ شمعة أو تلاوةِ ورديّة أو قراءةِ نَص! العبادةُ الحقيقيّة هي نهجٌ يشملُ كُلّي ويؤثّرُ عليه، ونمطٌ أَسيرُ بموجبِه، حتّى تُصبحَ حياتي مِرآةً تعكِس ما أَعبُد. وَإِن كَانَ غيرَ ذلك، عندها تكون عبادتي وحياتي، جملةً من التّناقُضاتِ الصّارِخة!

 

ثمَّ أنَّ الأمرَ الآخر الّذي يحمِلُه إنجيلُ اليوم، هو: ما الّذي يُنجِّسُ الإنسان؟ أو متى أُصَابُ بالفسادِ والعَطب؟ هل عندَ اتّساخِ القُشور أَم بِتَعفُّنِ الجوهَر؟ نَحنُ بطبيعتِنا نحكمُ عادةً على الْمَظهر لا على الجوهر، لأنّ هذا هو أوّلُ ما تَقعُ عَليه أَعينُنا، وبالتّالي نُطلِقُ عَلَيه حُكمَنا وَنَبُتُّ فيه، وهو رأيٌّ وحكمٌ قَد يحمل كثيرًا من الخطأِ وَبنِسبٍ عالية. أمّا المسيح، فَاحِصُ القلوب والعالمُ ببواطِن كلٍّ مِنّا، فَيُريدُ أن يُعطي دَرسًا مَفَادُهُ أنَّ اتّساخَ الظّاهرِ لا يعني بالضّرورةِ اتّساخَ الباطِن، وأنَّ نظافةَ البَدنِ وَمَا يَظهر أمام النّاس، لا تَعني إذًا طهارةَ القلبِ وَعِفّةَ الفِكرِ وَنَقاوةَ النّظرِ والّلسان.

 

الْمُعضِلةُ الّتي يَطرحُها إنجيلُ اليوم هي التّناقضاتُ الّتي يحياها الإنسان، وخصوصًا الإنسان الّذي يُدْعَى مؤمنًا أو مُتديِّنًا! التّناقضُ بينَ العبادةِ، وبينَ وَاقع الحياة الخاص بكلّ شخص. التّناقضُ بَينَ الظّاهرِ وَالجوهر. التّناقُض بينَ الادّعاءِ والحقيقة.

 

الكاتب والرّوائي الرّوسي، فيودور دوستويفسكي، يقول جملةً أوافِقُهُ على جُزءٍ منها لا كلّها: (عَشِقتُ ذُنوبي عِندَمَا رَأيتُ إيمانَكُم المزيّف). بكلِّ تأكيدٍ لَن أعشقَ ذُنوبي، فَهي نُفايةٌ أَسعى دومًا للتّخلصِ منها، ولكنّني كُلّما تَعَمّقتُ أكثر في عالمِ بعضِ (الْمتَديّنين)، من جميعِ الفئاتِ والطّبقاتِ والأجناسِ والأعمارِ والأديان، وَتَوَطّدت معرفتي بهم، اِكتَشفتُ كم أنّ عالمَ هؤلاء، يحمل كثيرًا من المتناقضات. وَهَذا ما يقودني إلى نَتيجة مَفَادُها أنَّ كَثرةُ التّدين، لا تنعكِس دومًا بالإيجابِ على كلِّ مُتديّن. فَلَيسَ هناكَ أسوأُ من الْمُتَديّن الكَذّاب، الْمُنافِق، الّلئيم، الحاقِد، قاسي القلب، القابِض على العَداوة والرّافض الغفران، الحاسِد، الْمُتكبّر، الغَشّاش، الطّماع، الشّره، السّكير، الباحِث فقط عن مَنفعته والهاضم حقوق الآخرين، الخبيث، الغَبي... وقِس على ذلكَ كما شِئت.

 

أمام هذا الواقِع البشِع، ليسَ الحل في أن تعشقَ ذنوبَك كَمَا رَأى دوستويفسكي مُتشائِمًا، ولا أن تُجانِبَ العبادة وتترُكَها، أو أن تهجرَ حظيرةَ المسيح، حتّى لو كان فيها بعضُ الخرافِ العَاصية. الحلُّ هو في إصلاحِ ذاتِكَ وتقويمِ نَفسِك، لِتَجعلَ تناغُمًا بينَ ظاهرِك وباطِنك، وانسِجامًا بينَ مَن أنتَ وكيفَ أنتِ، قَبلَ العبادة وخلالَها وما بعدها.

 

مُشكلةُ الإنسانِ الْمُتَناقِض أنّه يدّعي دَومًا خَلافَ الحقيقة! ويحاولُ أن يَغُمَّ على بَصرِه ويُغلِقَ بَصيرتَه ويضعَ حجابًا على عقلِه، مُزيّنًا زيفًا وخِداعًا، واقعًا بَشِعًا وغيرَ سليم. والطّامةُ الكبرى لَيسَت على صَعيدِ الأفراد، بل عندما يُصبحُ ذلكَ واقِعًا مُجتمعيًّا، على صعيدِ العامّة أو شريحة كُبرى من المجتمع! وإذا حاولَ أحدهم أن يرفعَ السّتارة أو أن يُسلّط الضّوء على حيثيّة من هذا الواقعِ، يُهاجم فورًا ويُتّهم بأنّه يُغرّد خارجَ السّرب!

 

لِنُعطي مثلًا حيًّا: مُسلسل (مدرسةُ الرّوابي للبنات)، الّذي أحدثَ ضَجّة كبيرة في الشّارعِ الأردني، وأثارَ اِهتمامًا في الشّارعِ العربي، حَتَّى أنّ صَحيفة هآرتس الإسرائيليّة تَطرّقت إليه. أُتّهِمَ بأنّه يَعرِضُ نمطًا خارجًا عن المألوف، وَيُساهم في إفسادِ الأجيالِ الشّابة ويُحطّمُ الأعراف.

 

أنا شخصيًّا لا أوافِق على كلِّ ما جاءَ به المسلسل. ولكن هناكَ أمورٌ طَرَحَها هذا الْمُنتَج، صَارت اليوم ظاهرة منتشرة عندَ شرائِح عدّة، وعندَ الطّبقاتِ الفقيرة كَمَا عند الطّبقاتِ الْمُخمَليّة، وفي المحافظاتِ والأطراف كَمَا في العاصِمة والمركِز، وعندَ الْمُلتَحِف بعباءةِ التّدين، كما عندَ اللّاديني. بالتّالي، لا يمكن أن نَستمرَّ في سِلسلة من الإنكارِ الْمُتواصل، مُدّعينَ أنّنا لا زِلنا ذلك المجتمع الْمُزيّن بهالة (الْمُحَافظة). فَمَن لا يستطيعُ أن يَرَى التّناقض اليوم هو إنسان غبي أكثر منه أعمى.

 

هُنَاكَ تَنَاقضات كبيرة في المجتمع كما عند الأفراد، دِينيّة وَأَخلاقيّة واجتماعيّة وطَبقيّة...إلخ. وعِوضًا عَن التّطرقِ إليها بأسلوبٍ مَنطقي وحِواري، ومحاولةِ علاجِها بطرق صحيّة وسَليمة، نحاول إِخفاءَها تحتَ مُسمّياتٍ، لا تُقنِع إلا الجاهل والأرعَن، ونسعى عبثًا في كثيرٍ من الأحيان، لِتَجميل وجهِ الحقيقة الدّميم! وَويلٌ لِمَن يتطرّقُ إليها أو يَصِفُها!

 

أَحَدُ عَناصِر الْمُوسيقى هو (Harmony)، أَي الانسجامُ والتّناغم في مقطوعةٍ تجمعُ عِدّةَ أصواتٍ في آنٍ واحِد. المسيح اليوم يريد أن يجعلَ من كلّ واحدٍ معزوفةً متناغِمة، ومقطوعةً لا نَشازَ فيها. ومع ذلك، نختبر كلَّ يومٍ ما فينا من تناقُض ونَشاز، بين محبّةِ الله وعبادتِه، وبين ما يُخالِف ذلك، من أطباعِنا وسلوكيّاتِنا.

 

لذلك صدقَ القدّيس بولس لَمّا كتب بوحيٍ، واصِفًا الصّراعَ الّذي نعيشه كلّ يوم، يقول: "لأَنَّ الخَيرَ الَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، والشَّرَّ الَّذي لا أُريدُه إِيَّاه أَفعَل. فإِذا كُنتُ أَفعَلُ ما لا أُريد، فلَستُ أَنا أَفعَلُ ذلِك، بلِ الخَطيئَةُ السَّاكِنةُ فِيَّ. فأَنا الَّذي يُريدُ فِعلَ الخَيرِ، أَجِدُ أَنَّ الشَّرَّ بِاستِطاعَتي. وأَنِّي أَطِيبُ نَفْسًا بشَريعةِ اللهِ مِن حَيثُ إِنيِّ إِنسانٌ باطِن، وَلكِنِّي أَشعُرُ في أَعْضائي بِشَريعةٍ أُخرى، تُحارِبُ شَريعةَ عَقْلي، وتَجعَلُني أَسيراً لِشَريعةِ الخَطيئَة. ما أَشْقاني مِن إِنسان! فَمن يُنقِذُني مِن هَذا الجَسَدِ الَّذي مَصيرُه المَوت؟ الشُّكرُ لله بِيَسوعَ المسيحِ ربنَّا! فهاءَنَذَا عَبْدٌ بِالعَقْلِ لِشَريعةِ الله، وعَبْدٌ بِالجَسَدِ لِشَريعةِ الخَطيئَة" (رومة 19:7-25).