موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

أقسى لحظة!

د. لانا مامكغ

د. لانا مامكغ

د. لانا مامكغ :

 

بادرت شبكةٌ تلفزيونيّةٌ مشهورة بإنتاج برنامجٍ واقعي ينقلُ ردودَ الأفعال لبعض الأشخاص من ذوي التّكوينات النّفسيّة اللافتة، عبرَ تعريضهم لمواقفَ معيّنة، منها مثلاً أن تشترطَ على مصابٍ بشكلٍ من أشكال «الوسواس القهري» أي المُستنزَف بتنظيم الأشياء وترتيبها وتنظيفها، السّكنَ لمدّة معيّنة مع آخرَ مصابٍ بمرض « الاكتناز القهري» أي ذلك المنشغل دوماً بتجميع الأغراض، ما يلزم منها، وما لا يلزم، ممّا ينتجُ عنه العيشَ في الفوضى والأوساخ والكراكيب، لعجزه في نهاية الأمر عن السّيطرة على مقتنياته العبثية الهائلة.

 

وللمشاهد أن يراقبَ ما ينتجُ من جمع النّقيضين في بيتٍ واحد أمام كاميراتٍ تسجّلُ المناقشاتِ السّاخنة، والصّدامات، والجدالَ الذي لا ينتهي، إذ يزعمُ كلاهما في البداية أنّه المُصيب، وأنَّ الآخرَ هو المُخطئ، ثمَّ يتصادف أن يصلا إلى منطقةٍ وسطى، فيحسّنُ كلٌّ منهما من تطرّفه السّلوكي، أمّا في الغالب، فتنتهي الحلقة بموجتيْ غضبٍ ثنائيّة من الطّرفين بعد صراخٍ ومعاناةٍ وعذاب… إذ نادراً ما يقتنعُ أحدُهما بضرورة تلقي العلاج النّفسي المناسب لإعادة التّوازن إلى شخصيّته وحياته.

 

أمّا الحكمة المُستفادة من الأمر برمّته، فلعلّها في تذكيرنا بضرورة أن نعاملَ الآخرين من منطلقٍ نفسي قبل إطلاق الأحكام الجاهزة، فعندما نجلسُ لننتقدَ ونقيّمَ ونتفلسفَ في شأن من حولنا متوهّمين أنّنا وافدون من كوكب الكمال والإتقان والمثاليّة، فلنعِد النّظرَ مراراً فيما نفعل!

 

مثالٌ على ذلك، موضوع المعنِّفين، إذ ننسى أنّهم، في الغالب، قد تعرّضوا لأنواعٍ من القسوة والأذى الجسدي والنّفسي خلال طفولتهم، ممّا دفعهم لتفريغ ذلك الغضب المتراكم في نسائهم أو أطفالهم!

 

أمّا المصابون بالبدانة، فلعلّها أعراضُ اكتئابٍ، أو إحساسٌ بعدم الرّضى عن الذّات، أكثرُ منها شراهةً، أوفقداناً للسّيطرة على النّفس أمام المغريات من الأطعمة.

 

وفي السّياق ذاتِه عن الاكتئاب، فكم يحدثُ أن نتّهمَ المنتحرين بضعف الشّخصيّة، وغياب الإرادة، دون أن نعلمَ أنه مرضٌ عضوي صامت يكونُ إنهاءُ الحياة نهايتُه الطّبيعيّة غالباً!

 

وأخطرُ ما في الموضوع، الأشخاصُ المرحون الطّريفون ذوو النّكتة الحاضرة الذين نأنسُ بوجودهم معنا في المناسبات الاجتماعيّة لظرفهم ولخفّة دمّهم… إذ يُجمعُ الأطّباء النّفسيّون على أنَّ هؤلاء من أكثرِ النّاس اكتئاباً!

 

وثمّة أشخاصٌ يستمتعون بموقع الضّحيّة دوماً، ليشعروك أنَّ ثمّة مؤامرةً كونيّة حيكت ضدّهم منذ لحظة خروجهم إلى هذه الدّنيا… لتكتشفَ دون جهد أنّهم متمترسون بزعمهم ذاك داخل ما يُسمّى « منطقة الرّاحة» التي تُعفيهم من تفعيل إرادتهم الفرديّة لمحاولة التّغيير.

 

وكم صادفنا أشخاصاً منقادين لمبدأ الكراهية في تعاملهم مع الحياة ومع الآخرين، لتترجمَ عدوانيةً وتنمّراً وحسداً ونفاقاً، إن لزم، إلى أن نستنتجَ، دون صعوبة، أنَّها كراهية، في أصلها، مكبوتةٌ وموجّهةٌ إلى أنفسهم أوّلاً، تعود جذورُها إلى تربيةٍ قاصرة بخيلة بائسة.

 

مقابل هؤلاء، تجد من يستشهدُ في اكتساب رضى الآخرين، واستمطار محبّتهم بسبلٍ شتّى، ولو كان ذلك على حساب وقته وماله وطاقته… لتتوقّعَ أنَّ هؤلاء لم ينالوا من المحبّة في طفولتهم بما يرفع من تقديرهم لذواتهم إلى المنسوب الصّحّي المفترض.

 

وبعد، فهي أسرارنا وأزماتنا التي قد لا نعي لها، أو ربّما، في اعترافنا بها، في الوقت الذي نفتقدُ فيه إلى من يتفهّم ويحتوي ويدرك، ويتقبّلنا كما نحن…

 

ولعلَّ ذلك هو السّبب الذي دفع «أنيس منصور» للقول: « أقسى لحظة، عندما لا تجدُ من تخبرَه أنّك لستَ بخير!»

ولأنَّ العديدين منّا يعيشون، غالباً، تلك الّلحظة القاسية، يبدو أنَّ لا حلَّ سوى في وقوفنا طوابير على أبواب الأطّباء النّفسيين!

 

(الغد الأردنيّة)