موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

أفكار الله

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أفكار الله

أفكار الله

 

"مَن أَنا في قولِ النّاس"؟! هَل أَصبحَ الْمسيحُ فَجأةً يُقيم وزنًا لآراءِ النّاس، أَو يهتمُّ بأقوالِهم وَأَحكامِهم؟ وَهو الّذي عَهِدنَاهُ يخالِفُ طرقَهُم حَيثما وَجبَ، وَيتكلّمُ بالحقِّ حتّى لو أَثارَ ذلك غَضبَهم عليه، وَأَشعلَ حقدَهم تُجاهَهُ! فَلماذا الآن نَرَاهُ وكأنّه صارَ يَلتفِتُ إلى ما يُحكى ويُذاع؟! وَهو يعلمُ في قَرارةِ نفسِه، بأنّه مَهما عمِلَ ومهما صَنَعَ، فَلن يَلقى لا حمدًا ولا شُكرًا، إلّا من القلّةِ القَليلة، بَينَما الأكثريّةُ تَكتَفي بالانتقادِ والْمَلامة.

 

كلّا يا أحبّة! المسيحُ لا يَهتمُّ بأقوالِ العُموم، إنّما يريد أَنْ يَعرِفَ مَن هو بالنّسبة إلى خَاصّتِه، أولئِكَ الّذين تبِعوه ورافقوه وسَمِعوه وَعَاينوا فِعالَه. لِذلكَ، يطرحُ السّؤالَ على تلاميذِه الأقربين بشكلٍ مُباشر: "وَمَن أنا، في قولِكُم أنتم"؟

 

مَاذا يَعني لنا المسيح؟ ماذا يَعني لكلِّ واحدٍ مِنّا بشكلٍ شَخصي؟ ما هي طبيعةُ العلاقة الّتي تربطني بِه؟ كيفَ أَنظرُ إليه؟ مُحقِّقُ أُميناتٍ وَرغبات، مُلبّي طموحاتٍ وحاجات؟ شمّاعة أُعَلّقُ عَليها مَصائِبي وأوجاعي، وُأُعزي إليها أسبابَ فَشلي وتَعاستي وعُقَدي؟

 

كلُّ شخصٍ تختلِفُ نظرتُه إلى المسيح، باختلافِ حَاجَاتِه وتَطلُّعاتِه وظُروفِ حياتِه. الأفكارُ حَولَه تتزاحم وتَتشعّب، وَقَد تَتَلاقى وقد تَتَصادَم. ويَبقى هناكَ مَن ينظر إلى المسيح، كَما نظرَ بُطرسُ إليه، على أَنّهُ المسيح فِعًلا. وكما نظرَ بولس إليه، فَ: "مِن أَجلِه عَدَدتُ كلَّ شيء نُفايةً لِأربحَ المسيح" (فيلبّي 8:3).

 

ولكنَّ بُطرس، هذا التّلميذ الّلامع والْمُميّز، سُرعان ما أَخطأ خطأً فادِحًا، وغلطة الشّاطر تُحسَب بعشرة. فَمُباشرة بعدَ هذه الإجابة الْمُتوهّجة، زلَّ زلّةً نالَ عليها توبيخًا قاسيًا شديدَ الّلهجة: "اِذهبْ عنّي يا شَيطان، لأنَّ أفكارَكَ لَيست أفكارَ الله، بل أفكارُ البَشر"!

 

ما هذا التّحولُ الدراماتيكي الّذي حصلَ لِبُطرس في غُضونِ لَحظات؟ في الحقيقة، جوابُ بطرس هو جوابُ كلٍّ مِنّا. فنحنُ نريد مَسيحًا عظيمًا قديرًا جَبّارًا، ولا نَطلب مسيحًا مُتألِّمًا مَرذولًا مُهانًا. ومعنى ذلك أنّنا نريد المسيح الّذي يُجنِّبُنا كلَّ ألمٍ ومشقّةٍ وعناءٍ، فَنَكرُه أن نتألّمَ كما تألّمَ هو، أو أن نُزدَرى ونهانَ ونُرذل، كما فُعِلَ به. فَهَذا مرفوضٌ في قَاموسِنا الخاص.

 

ولكنَّ خبرةَ الكتابِ المقدّس، بِأَنبيائهِ وأصفيائه وقِدّيسيه، تُعلّمُنا بأنَّ الألمَ والمعاناةَ والمصائب، والمحارباتِ والمضايقاتِ والانتقادات، والافتراءاتِ وسوءَ الفهم والاختلاقات، جزءٌ مُلازِمٌ حتّى لِلبَارِّ والْمُؤمِن. فَمَن ظنَّ أنّه بِمنأىً عن الشّدائِد ومُحصَّنٌ أمامَ الأهوال، وَيعتقد بأنْ لا ضَررَ يجبُ أن يَمسَّهُ، ويريد أن (يحمّل الله جميله) لأنّه بار، فَلْيَعتبر وَليأخُذ درسًا من أيوبَ البَار، وإرميا النّبيّ، ويوحنّا المعمدان، وصولًا إلى المسيحِ الْمُتألّم، الّذي هو بلا خطيئة.

 

أخيرًا، حادِثةُ اليوم وما جَرى بينَ المسيحِ وبطرس، تُعلّمنا أن نُتقِنَ فنَّ التّمييز، الّذي هو موهبة من الله. التّمييزُ في الأمور، التّمييزُ في الظّروف، التّمييزُ في الأقوالِ والأفعال، وأيضًا التّمييزُ في الأشخاص! فبطرس، الّذي أَراهُ قد وَقعَ في خطيئةِ مُداهنةٍ ورياء، لَم يستطعْ أن يخطفَ لُبَّ المسيح، وأن يَسلِبَ منه عقله، أو يؤثّرَ في حُكمِه وَقولِه، بِسَببِ كَلامٍ معسول أَخذ يُعاتِبُه به. ووَرد في رواية متّى قولَ بطرس لِلْمَسيح: "حَاش لكَ يا رب! لَن يُصيبَكَ هذا" (متّى 22:16).

 

فإن كانَ ليسَ كلّ ما يَلمع ذهبًا، فأيضًا ليسَ كلُّ مَن جاءَك بِجَميلِ الكلام، كان حملًا وديعًا أو حمامًا طَيِّبًا. فَرواءَ الأكَمَةِ قد يتربّصُ ذئبٌ خاطِف! فَالبعضُ قد يأتيكَ بكلامٍ مَسموع، يَسرُّ أُذُنَيك ويسحرُ عقلَك ويَتماشى مه منطِقِك، ولكن في القلبِ كلام آخر غير مسموع، ونوايا أُخرى دَفينة غير مُعلَنة، قَد لا تظهر لكَ الآن! قَد يأتيكَ البعضُ بحلوِ الكلام، ولكن لِغَايةٍ في نَفسِ يعقوب، وَطمعًا في منفعةٍ ومصلحة، أنتَ قادرٌ على تحقيقِها لهم. فلا تُصدّق الظّاهرَ دومًا، قبل أن تَكتَشِف مَا يقبَعُ هناكَ في عُمقِ الباطِنِ وخلفَ التّلة، فهذا خيرٌ لكَ مِن أن تُخدَعَ، فَتخسرَ، فَتَتحسّرَ، فَتَندم!

 

لِذلك يا أحبّة، نعودُ فنقول: التّمييزُ مهمٌّ جِدًّا وهو مطلوبٌ دومًا، فيما يُقال ومَن يقول وفي ظروفِ قولِه وأسبابِه. والأهمّ هو القدرة على الاستماعِ إلى ما خُفِيَ من الكلامِ، وإلى الأسبابِ الْمُضمَرة في ثَنايا العقولِ وَحُجراتِ القلوب. وهو نعمةٌ نسألُ الله أن يُزَيِّنَنا دومًا بها، فَنُحسِن الاختيار، ونفصِل بينَ القمحِ وبين الزوؤان، بينَ النّافِع وبينَ الضّار. ونعلم بصدقٍ مَن وما يأتينا من اللهِ فعلًا، ومَن ومَا كانَ من الشّيطانِ عَينِه!

 

فبُطرسُ وَإنْ بَدا تلميذًا وهو كَذلِك، إلّا أنَّ أفكارَه وطُرُقه ونواياه في لحظةٍ ما، كانت مُخالِفةً لِفكرِ الْمُعَلّم، بل هي من الشّريرِ عينِه!