موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ فبراير / شباط ٢٠٢١

أخذَ بيدِها وأنهَضَها

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أخذَ بيدِها وأنهَضَها

أخذَ بيدِها وأنهَضَها

 

حَماةُ سِمعان محمومَة، مُصابة بِسَقمٍ ألزمَها الفِراش، جعلَها عاجزةً، لا حولَ لها ولا قوّة. وفي بيتِ سمعان ألمٌ وحَسرةٌ على الحماةِ المريضة المعلولَة! أليسَ هذا ما آلَ إليهِ حالُ البشريّةِ اليوم؟! ففي البيتِ البشري ألمٌ وحَسرة، وبنو آدمَ يرزحونَ تحتَ وطأةِ جائحة قاسية، أَلزَمتنا البيوت قسرًا، وَأَشعَرَتنا، بعجِزنا وضعفِنا، وجرّعتنا كؤوسَ مرارةٍ كالحنظل، وَأغلَقت دونَنا أبوابِ الرّزق، وَأَفقدتنا طعمَ الرّاحة، وَأَصابتنا بانقباضٍ في النّفس، وهمٍّ في التّفكير، وتعبٍ في القلب. وكيفَ نَنسَى الّذينَ آَلَمَهم وَأَتعَبَهم المرضُ جسديًّا، وكلّ الّذين تكبّدوا خسائر، في أَرواحِ أحبّةٍ غَيَّبهم الموتُ وخطفَهم؟!

 

قبلَ دخولِ المسيح بيتَ سمعان وأندراوس، وَمُعَايَنتِه الحماةَ المحمومة، كانَ في مجمعِ كفرْناحوم يُعلّمُ الجموع بسلطان، ثمّ انتهرَ وأمرَ وقهرَ الشّيطان بسلطانٍ أيضًا. ولا بدّ أنّ هذه السّلطةَ الفائقة، قد حَرّكَت شيئًا في نفوسِ التّلاميذ، جَعَلَهم يُبادِرونَ إلى المسيح، يخبرونَه بأمرِها، علّهم يُصيبونَ من سُلطانِه شيئًا. أَصابته الشّفقةُ على حماةِ سمعان، أَفَلا يُشفِقُ على وَضعِنَا المحمومِ نحن أيضًا؟ أَخبَروه بِأَمرِها فَدَنا منها، أَفلا يستمِعُ لِصَلواتِ الضّارِعينَ إليه، بُكرَةً وأصيلا، ويدنو منّا؟! بَادرَ إليها، آخِذًا بيدِها، مُنهِضًا إيّاها بعزّة وقُدرة، أَفَلا يُبادِر إلينا بقدرتِه نحن المبادِرين إليه مُتَوسّلين، وينهضُنا من كربِنا، وينتشِلُنا من مُصابِنا، ويقيمُنا من فراشِ أَسقَامِنا وآثامِنا أيضًا؟ تحنّنَ الرّبُّ عَليها، وأغاثَها السّيدُ من بلوتِها، أَفَلا ننالُ نحنُ أيضًا عندَه رأفةً وشفقة، مُغيثًا إيّانا من بَلواتِنا؟!

 

الألمُ فصلٌ مكفهرٌّ وعابِسٌ، وحَتميّ أيضًا مِن فصولِ حياتِنا، إذ لا يوجد آدميٌّ لا يتألّم! جِهازنا العَصبي، أعضاؤنا الجسمانية كلّها، مُؤهّلة للشّعور بِأَدنى أنواعِ الآلام! مجموعةُ أَحاسيسِنا وعواطِفنا ومشاعرِنا، مؤهّلة بدورِها أيضًا للشّعور بالآلامِ المعنويّة والجراحِ النّفسية، والّتي قد تكون أشدّ وأعتى على الشّفاءِ والالتِئام.

 

الألمُ كانَ فصلًا من حياةِ الأنبياء، حتّى المعمدان، فالمسيح، وصولًا إلى آلافِ القدّيسين والشّهداء، وملايين الأبرار الّذين تألّموا، وَذَاقوا مَرارةَ المعاناة، جَسَدًا ونفسًا. الألمُ جزءٌ لا ينفصِلُ من حياة الإنسان، ولكنّ الاختلاف يكمن في كيفيّة تعامل وتكيّفِ كلّ إنسانٍ مع مُصابِه وَبَلوتِه. فهناكَ مَن يؤمِن ويصبِر، وهناكَ من يجحَد ويكفر.

 

فراشُ الإنسان أحيانًا ليسَ لعلّة في البَدن، إنّما هو لخطيئةٍ تُضعِفني وتُرهِقُني، وربّما تفقدني الله في حياتي! فراشي قد يكونُ ذنبًا يُقيّدني ومَعصيةً تأسرني. لذلِك يصرُخُ صاحب المزامير إلى الله متوسِّلًا: "قَد تعِبتُ مِن تنهُّدي، في كلِّ ليلةٍ أُرْوي سريري، وبدموعي أُبلِّلُ فراشي" (مزمور 7:6)

 

يقولون أنّ النّائمَ راقدٌ في فراشِه، وَيَصِفون الفراش على أنّه مَرقد. ويقولونَ أيضًا أنّ فلانًا رَقدَ بمعنى مات وتُوفّي. فعند رُقادِ الموت يُصبِحُ قَبري هو فراشي أيضًا، ولكن، على رجاء القيامةِ وإيمانِ النّهوضِ مع المسيحِ الحي! والمسيحُ عندما شَفى حماةَ سمعان، وكأنّه قَد استبقَ حدثَ القيامةِ العظيم، فقد استخدمَ فعلًا يدلُّ على القيامة، فهو قد أخذَ بيدِها وأَنهضَها من فراشِ مَرضِها. أَوليسَ نحن أيضًا بحاجة إلى فعل قيامة في حياتِنا، إلى يدِ الرّب تلتحِمُ بأيديِنا، تُنهِضُنا يمينُه القديرة من فراشِ زلّاتِنا، وتُقيمُنا مِن قبرِ معاصينا؟!

 

قَد يدلُّ الفراش على مَوضِعِ الرّاحة والسّكون، ولكنّه أيضًا قد يدلُّ على مَوضع الخطيئة الّتي تطرحُ الإنسان، وَتنزلُه أسافل الدّرجات، وتجعلُه في أَحطِّ المراتب وأدنى المستويات. لأنّ الخطيئة ذلٌّ، والذّل عبوديّة، والعبودية هوان، والهوان موت! القدّيس الشّاب دومنيك سافيو كان يقول: (الموتُ ولا الخطيئة).

 

أيّها الأحبّة، نعيشُ في عالمٍ محموم! مُصابٍ بشتّى أنواعِ العِللِ والأمراض، على مستوى الأفرادِ والبيوت والعائلات والمؤسّسات والجماعاتِ والدّولِ والشّعوب. فحماةُ بطرسَ المُصابةُ بالحمّى، هي صورةٌ مصغّرة ومثالٌ بسيط، لعالمٍ كبيرٍ يَسوده الألمُ والسَّقم والموت بمعانٍ وبأشكال كثيرة. عالمٍ مليءٍ بالأوجاعِ والأحزانِ والحسرات والتّنهدات والعُقد والمشاكل. عالمٍ أحيانًا لا يقوَ مَن فيه على النّهوضِ مِمّا هو فيه.

 

وفي خِضمِّ هذا الواقعِ الأليم، واقعِ الشّقاء، يأتي المسيح قاصِدًا الدّخول إلى هذا البيتِ البشري! ولكن أحيانًا قد يبقى على الباب خارجًا يقرع، دون أن يفتحَ له أحد! ويظلّ يقرع ويقرع، علّ وعسى أن يفتحَ أحدهم.

 

وهنا أتذكّر بنوع من السّخرية، البيتين المعروفّين:

 

طَـرَقتُ البَابَ حتّى كَلَّ مَتنـي                     فَلّـمَـا كَــلَّ مَتـنـي كَلّمَتـنـي

فَقَالت لي أَيا إسماعيل صَبرًا                      فَقلتُ أَيا أَسما عِيلَ صَبري

 

فَهل كلَّ مَتنُ المسيح من كُثرِ الطّرقِ على أبوابِ أفرادٍ وعالمٍ أَصمّ الآذان، وهل عيلَ صبرُه من بشرٍ يُألّهون الشّر، وَيستلذّون بإيلام وإسقامِ بعضِهم بعضا؟!

 

يدخلُ المسيحُ إلى عالمٍ لا عدالةَ ولا مساواةَ فيه. إلى عالمٍ يُعتدى فيه على المُستضعَفين، وتُمتَهنُ الكرامات والحقوق، ويُصنّف فيه النّاس على أُسس الأعراقِ والمذاهب والأجناس والأديان والألوان والانتماءات! عالمُنا أصبحَ فراشًا واسعًا من الألم لا مِن الرّاحة! حياتُنا أَضحَت محمومةً، بهمومٍ تُرهِقُنا، وأوجاعٍ تُدمي قلوبَنا، وأثقالٍ تُتعِبُنا.

 

فيا رب، نحن بحاجةٍ إلى لَمستِكَ الشّافية، إلى يَدِكَ القديرة، إلى نِعمتِكَ المعزّية وسطَ الألم، إلى كلمتِكَ الّتي تواسي قلوبَنا المتألّمة. نحنُ بحاجةٍ إلى يدِكَ تمسِكُ بأيدينا، تُقيمُنا مِن مراقِدِ همومِنا ومشاكِلنا وأتعابِنا وأوجاعِنا. نحن بحاجة إلى يمينكَ العزيزة الّتي بها بارَكتَ الجموعَ وطَردّتَ الشّياطين، وشفيتَ المرضى والمصابين، وأنهضتَ التّعبين وعزّيت المحزونين، وحَنيتَ على البائسين وأقمتَ المائتين.