موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

أبونا الذي في «المية ومية»

كاتب أردني

كاتب أردني

مالك العثامنة :

 

ما أكتبه الآن ليس بوحاً شخصياً وحسب، بل رسالة إنسانية بصياغة بوح شخصي، ومناسبتها تتعلق بصديق شخصي ورجل دين مسيحي هو الأب ميلاد جاويش. تربطني صداقة خاصة عمرها سنوات بالأب ميلاد جاويش، وهو رجل دين كاثوليكي من لبنان وكان يقيم في بروكسل راعياً لكنيسة مشرقية فيها، وهو شخص واسع الثقافة يحمل شهادة الدكتوراه ويؤلف كتباً ويعشق الرحابنة وفيروز ولبنان بكل تفاصيله بلا استثناء.

 

كثيراً ما كنتُ أرسل له رسالة نصية أستهلها بعبارة «أبونا الذي في بروكسل»، فيجيب عليها بخفة ظل ويدعوني في ساعات ضجري الطويلة إلى محاضرات أو نشاطات ثقافية في كنيسة القديس يوحنا ذهبي الفم التي كان يرعاها، فألبي الدعوة ممتناً له، وأتابع نشاطات الرعية الكنسية بإشراف هذا اللاهوتي المحترم.

 

في أحد النشاطات قبل أعوام، أخبرني أنه سيلقي محاضرة مسائية للتعريف بالمذهب البروتستانتي، ولأنني سألته كثيراً عن المذاهب والفِرق المسيحية فقد ارتأى أن يدعوني للحضور، فلبيت الدعوة وكانت محاضرة تثقيفية على منهج علمي محترم، ألقاها «أبونا ميلاد» بسلاسة ورقي وبلا أي إساءة من أي نوع.

 

بعد المحاضرة، كان هناك حضور كريم من مسيحيي العراق، وهم مَن عانوا الرعب والأهوال المفزعة من عصابات «داعش» الإرهابية، وقد فروا بدينهم وأرواحهم إلى منافي العالم تاركين وطنهم للنهب والخراب والفساد.

 

وفي مداخلة غاضبة لسيدة عراقية كريمة يبدو أن جرحها لم يلتئم بعد، تعرضت للمسلمين في العالم العربي بإساءة لم تكتمل بسبب مقاطعة حاسمة وحازمة للأب ميلاد، رفض فيها الإساءة لأي كان في دينه، ودخل الحضور مع الأب في نقاش محتدم قاد فيه اللاهوتي المثقف ابن لبنان المنفتح الجميع إلى نقطة قاطعة بأن الدين لله وهذا العالم للجميع.

 

لا أشك للحظة في صدق الأب ميلاد، وهو الذي في ساعات بوح شفيفة بيني وبينه في جلساتنا «الرحبانية» كان يسألني عن والدتي، ويرى في إيمانها حسب وصفي لها ولتصوفها الإنساني المدهش إيماناً خالصاً نقياً يثير إعجابه كرجل دين.

 

الأب ميلاد، الذي انتقل بعد خدمته الكنسية في بروكسل إلى بلده لبنان، وتحديداً في ضيعة «المية ومية»، أخبرني ذات مرة أنه ومن صلب إيمانه يرى في كل البشر أبناء الله، وأن الرب الخالق والراعي للجميع بلا استثناء.

 

بعد أيام، سيقام في لبنان احتفال ترسيم هذا الإنسان المحترم مطراناً لرعية الروم الكاثوليك في كندا، وهو ترفيع مستحق لرجل مثل الأب ميلاد.

 

حسناً، لماذا أكتب عنه اليوم؟

 

أكتب عنه لأنني في الإمارات الآن، محج «التسامح الإنساني» في العالم، وتزامن وجودي فيها مع حضور بشري يتجاوز الحدود والأعراق والمعتقدات، لزيارة إكسبو 2020.

 

وأتذكر أنه في عام 2019، حين زار قداسة البابا فرنسيس الإمارات التي أعلنت مبادرتها العالمية عبر عام التسامح، كان الأب ميلاد من أكثر الفرحين بهذا التجسير الذي يرى فيه «تطبيعاً» مع الإنسانية السليمة المتعافية كما وصفها، وعودة إلى ما يمكن وصفه بإنسانية واحدة ترفض الإقصاء.

 

أكتب عنه هنا في «الاتحاد» لأن منبراً كهذا فقط، يتسع لبوح إنساني تضيق به منابر تضج بالإقصاء في عالمنا العربي.

 

(الاتحاد الإماراتية)