موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

«القداسة» بين كاتِب الرسالة البطرسيّة الأولى وكاتِب سِفر اللاويين

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
«القَدَاسَّة» بين كّاتِبً الرسَالةِ البُطرسِيّة الأوّلى وكَّاتِبْ سِفْرُ اللاوييّن

«القَدَاسَّة» بين كّاتِبً الرسَالةِ البُطرسِيّة الأوّلى وكَّاتِبْ سِفْرُ اللاوييّن

 

سلسلة قراءات كتابية بين العهدين (1بط 1: 11- 16؛ لا 19: 44- 45)

 

مقدّمة

 

القُراءّ الأحَبِاءْ في هذه السلسلة الكتابيّة، سنتطرق معًا للتعمق في نصييّن يساعدنا على فهم مضمون "القداسة" التي نطمح نحوها في حياتنا الأرضية وتجد ذروتها في الحياة السماوية بنصيّن من العهدّين الأوّل والثانيّ. هادفين أن نجعل مِن قداسة الرّبّ قداسة لحياتنا الحاليّة وليست المُستقبليّة، إذ تبدأ من على الأرض ومن الآن. موضوع "القداسة" له الكثير من الأهمية في الكتب المقدسة. لِذا رأينا إنّ ننتهز فرصة عيد "جميع القديسيّن" الذي يحتفل به كل مؤمني الكنيسة الكاثوليكيّة بالعالم بأوّل نوفمبر مما يتيح لنا أن نتعرف على جذورها وجوهرها البيبليّ. هدفنا هو أن نتحاور مع بعض النصزص الكتابيّة، لنتعرّف على هويّة "إلهنّا القدوس" ونقبل دعوته لنا لنصير مثله قديسيّن.

 

نعلم أن أوّل الكتب التي دُوّنت بالعهد الثاني هي الرسائل البولسية، وكثيراً ما وجه رسائله إلى الـمسيحيين الأوائل مُطلقًا عليهم لقب "قديسين" (راج روم 1: 7، 1كو 1: 2؛ 2كو 1: 1). مما يدل على أن بولس الرسول رغب أن يعلن حياة الله القدوسة التي يدعو إليها كل مَن آمن بالمسيح وصار مُنتميًّا له وشاهداّ له. هدفنا من خلال مقالنا هذا أن نتوقف على نصييّن جوهريين: الأول من الرسالة البطرسيّة الأولى (1: 11- 16) عابرين بلمحة سريعة على معنى القداسة بالنبؤات والثاني من سفر اللاويين المعروف أيضًا بسفر الأحبار (11: 44- 45).

 

في مُجمع اللغات والأديان السامية، تُبنى مفردات "القداسة" الّتي يُعبَّر عنها من خلال الجذر (qdš)  ومنه يأتي الفعل (qadaš) قَدّس ثم تأتي الصفة القداسة (qadoš)  وأخيراً الإسم (qodeš) قدوس. نستنتج من كل هذا أنَّ إشتقاق معنى الجذر غير مؤكد للغاية من الناحية الكتابية. ولا سيما أن مفهوم "النقاء" مرتبط بمفهوم "القداسة"، بالرغم من إنه ليس متطابقًا معها. نعتقد أنَّ اللفظ الذي يشتق جذرًا ومعنى من شكلين أساسيين للغات الساميّة الأولية، وهما (qadiš) و (qaduš) اللذان يشيران إلى "جوهر القداسة" بشكل أكثر ملاءمة.

 

 

1. القداسة في الرسالة البطرسيّة الأوّلى (1: 11- 16)

 

نتوقف أولاً على نصّ العهد الثاني، حينما تلفظَّ كاتب الرسائل البطرسيّة، بهذا المضمون، في القرن الأول الميلادي، كان هدفه هو أنّ يحث الـمُرسل إليهم، من المؤمنين الجُدد في الإيمان المسيحي على "القداسة والسهر" فأعلنَّ: «فنَبِّهوا أَذْهانَكم وكونوا صاحين [...] فلا تَتبَعوا ما سَلَفَ مِن شَهَواتِكم في أَيَّامِ جاهِلِيَّتِكم بل، كما أَنَّ الَّذي دَعاكم هَو قُدُّوَس، فكذلِكَ كُونوا أَنتم قِدِّيسينَ في سيرَتِكم كُلِّها، لأَنَّه مَكتوب: "كونوا قِدِّيسين، لأَنِّي أَنا قُدُّوس"». من خلال هذا الإعلان يُعيدَّنا كاتب الرسالة الكاثوليكية إلى جذور إعلانه الجديد الذي هو في واقع الأمر قديم. بمعنى  أن الكاتب يُجدد ما تم كتابته بالماضي مُستعينًا بلفظ "مكتوب" أي قبل تجسدّ المسيح وفي رسالته يُعيّد قراءة القداسة بناء على المسيح القائم من الموت الذي هو قدوس الله. ومن هنا ندرك أن بالعهد الجديد يحمل موضوع "القداسة الإلهية" صدى ثلاثيّ الأبعاد بسبب النبؤة الإشعيائية (6: 1-6) التي يكشف عنها أيضًا سفر الرؤيا إذ يعلن الرائي: «لِكُلٍّ مِنَ الأَحْياءِ الأَربَعَةِ سِتَّةُ أَجنِحَةٍ رُصِّعَت بِالعُيونِ مِن حَولِها ومِن داخِلِها، وهي لا تَنفَكُّ تَقولُ نَهارًا ولَيلاً: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس الرَّبُّ الإِلهُ القَدير الَّذي كاَنَ وهو كائِنٌ وسيَأتي"» (4: 8). فالقداسة، طُرحت في العالم ونُقلت من العالم الإلهي إلى العالم البشري، أيّ الكنيسة. فكل المؤمنين يتاح لهم المجال للمشاركة في قداسة الله ذاتها (راج أع 9: 2- 3؛ روم 1: 7؛ أف 1: 11؛ رؤ 5: 8).      

 

في الرسالة البطرسيّة الأوّلى 1: 15ت يوضح الكاتب الـمُلهم بأنّ مفهوم "قداسة الله" يعتمد على تقاليد العهد القديم. بحسب "عبد الله" (أش 42؛ 49؛ 52؛ 53) أيضًا تحمل النبوة رؤية إستباقية لما جسّدُّه المسيح في ذاته، فهو القدوس البريء. ثم قد تمَّ إختيار الكنيسة، من قِبل الرب، في العالم (راج 1بط 1: 1) وتقدَّست من الرّوُح الإلهيّة القدوسة (1: 2)؛ لذلك فهي تعيش في المجال الإلهي وهي أيضًا مقدسة. فتصير الـكنيسة بمثابة "الكهنوت الملكي: و "الشعب الـمُقدس" (2: 9). وهنا ينطبق على الكنيسة قول سفر اللاويين الذي سنقرأه لاحقًأ: "كونوا قديسين لأني قدوس" (19: 2). إذن أعضاء الكنيسة اليوم مدعويين بتغيير في سلوكهم بما يليق بالقدّاسة الإلهيّة.  الكنيسة مدعوة اليوم لأنّ تحيّا حياة القداسة هنا والآن وهذا يتم من خلال التخلي عن الحياة التي أدَّت إلى الجهل بحقيقة الله القدوّسة وعدم الإلتزام بشريعته. تحمل كلمات الرسالة دعوة الهيّة لكلاً منّا كمؤمنين اليوم وهي "تقديس أنفسنا" بالطاعة لكلمة الحق (راج1بط 1: 4. 22). فالقداسة الأخلاقية تعني قبل كل شئ تقديس المسيح الرّبّ في القلب (3 : 15).

 

 

2. التَّمَيُزّ الإلهي: "القدوس" (هو 11: 9)

 

في الجانب الأول نجد إنه في وقت مبكر جدًا، في الليتورجيا المسيحية، كما يشهد كتاب الديداخيه. لذلك يؤكد الكتاب المقدس بكل مكوناته أن الله قدوس. الجانب الثاني هو أن الأسفار المقدسة لا تشهد فقط على قداسة الله، بل على أن الله وحده هو القدوس. وهذا يعني أنه يوجد تكافؤ حقيقي بين الله والقداسة، واختبار الله يعني إختبار قداسته. في أشعيا 40: 25، تُصبح الصفة العبرية qadoš اسمًا مناسبًا يُعرّف الله، وهو وحده: لمن تشبهني ومن ستقارنني؟ يقول القدوس. إنها طريقة للقول بالتوازي مع ما نجده في أشعيا 45: 21، حيث، بدلاً من الـقدوس، نجد إسم الله "أدوناي" الذي لا يوصف لفرادته والـمُعلن عن نفسه: «لِأَنِّي أَنا اللهُ لا إِنْسان والقُدُّوسُ في وَسْطِكَ» (هو 11: 9). أيضًا لدى عاموس 4: 2 إذ يُقسم الله بقداسته، وهذا يعادل القَسَّم بنفسه. إذن فالله ليس فقط قديسًا بل هو "القدوس". للتعبير عن أنفسنا يمكننا القول أن الله وحده هو المقدّس بطبيعته. لا يمتلك الشخص أو الشيء أو المكان القداسة في الجوهر أو غير الطبيعي؛ لا يمتلكونها إلا عن طريق القياس أو المشاركة؛ لكن الله قدوس بحكم التعريف. تضفي القداسة على أدونايّ شيئًا فريدًا، لأنها تقول عنه شيئًا لا يخص أي شخص آخر؛ كأن القداسة ضرورية وكافية لتعريف الله وحده. وهناك جانب آخر من القداسة هو أن الله القدوس الذي يتعذر الوصول إليه، أراد هو بسموه الإلهي أن ينتمي إلى شعب إختاره كعلامة على قداسته. هذا ما يتوضح في نبؤة هوشع 11: 9 هذا الجانب: أنا الله ولست إنسانًا (الآخر)، أنا القدوس بينكم (علامة الانتماء).

 

في اللاّهوت النبويّ، أيّ كتابات الأنبياء،  يُشدد الأنبياء سواء أشعيا (راج 6: 1- 6) أم هوشع ( راج 11: 9) أن يخصُّوا مضمون القداسة بعامل أخلاقي مُدركين بأن "الرّبّ-أدوناي" المتميز باسمه أدوناي بين الشعوب. هذا الإسم الفريد تشمله نوعية قداسة لا يمكن وصفها فهو القدوس، فهو ليس بقديس، بل القدوس والفريد من نوعه. وأمام قداسته الخاطئ والبشري ينحني طالبًا الـمصالحة والغفران من الإله القدوس (راج أش 6: 1- 6). وبمرور الوقت نجد أن هناك تحفظ شديد على قداسة بني إسرائيل كشعب مختار من الرّب القدوس. وهذا يدل فقط على أن الرحمة تشمل القداسة الذاتيّة بخلاف الإختيار الإلهي (راج حز 36: 26ت). مَن يختبر وجه الله الرحيم يكتشف قداسته ويصير مثله. تم تحديد القداسة الإلهيّة في العهدين، قبل كل شيء بسبب وجود الله وعمله هذا هو ما يميز حقيقة الله كـ "جوهر الألوهية".

 

قدم كاتب الرسالة في مُستهل الجزء الأوّل منها 1: 3- 2: 10 والتي أعطيناها عنوان "عمل الله الخلاصيّ وفعل الإنسان"، مرتكزاً فيها على لفظ أجيوس باليوناني أيّ إنّه يكشف فكرته الأساسّية وهي القداسة التي مصدرها هي الله ذاته. ففي المفهوم الأصلي كتابيًا يختلف معنى القداسة عن المفهوم بالعهد القديم الذي يعني "قادوش" بالعبري أي يفصل، بمعنى الـمُنفصل عن النجس. وبهذا المعنى يضع الكاتب قداسة الرّب، بحسب الفكر النبويّ، في المقدمة مؤكداً بأن الرّبّ هو منبعها. فالله هو الـمُنفصل عن الخلائق، فهو مميز بحسب إعلان الأنبياء قبلاً عن جوهر الرّبّ: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه» (أش 6: 3). عندما يقف النبي أشعيا في هيكل أورشليم، يتواجد أمام الرّبّ- أدونايّ المهيب والسامي، يعلن السيرافيم من جيشه الملائكيّ (راج أش 6: 3). وهنا نسمع نشيد الدهشة Trisagion أمام عظمة الله القدوس. هو نشيد مأخوذ من العهد الجديد، في رؤيا عرش صراع الفناء، مع الكائنات الحية الأربعة التي تردد باستمرار: «قدوس، قدوس، قدوس» (رؤ 4: 8). حتى يسوع نفسه، في صلاته الشهيرة بـ "الصلاة الكهنوتية" الواردة لدى يوحنا 17، يخاطب الآب قائلاً: »أيها الأب القدوس» (يو 17: 11). فقط نعمة القدوس هي الّتي تجعل البشريين قديسيّن بقبولهم لها والتجاوب معها. هذا هو مصدر القداسة الحقّة كما يدعو إليها كاتب الرسالة البطرسيّة الأوّلى.

 

 

3. سفر اللّاوييّن (11: 44-45)

 

جذور موضوع القداسة لدى الكاتب بالعهد الثاني نجده متأصلاً في "شريعة القداسة" التي دَوَّنَّها كاتب سفر اللاوييّن والذّي يُطلق عليه سفرُ الأحبار أيضًا. فقد أعلن، كاتب السفر، في الإصحاح الحادي عشر على لسان الرّبّ بعض الإعتبارات العقائديّة لشعبه قائلاً: «[...] إِنِّي أَنا الرَّبُّ إِلهُكم، فتَقَدَّسوا وكونوا قِدِّيسين، فإِنِّي أَنا قُدُّوس، ولا تُنَجِّسوا أَنفُسَكم بِشَيءٍ مِنَ الدُّوَيباتِ الدَّابَّةِ على الأَرض، لأَنِّي أَنا الرَّبُّ الَّذي أَصعَدكم مِن أَرضِ مِصرَ لأَكونَ لَكم إِلهاً، فكونوا قِدِّيسينَ لأَنِّي أَنا قُدُّوس» (11: 44-45). وسيتكرر هذا المضمون بشكل مكثف ومتوّسِع في عدة إصحاحات متكاملة في ذات السفر من 19: 2 إلى 21: 23، وهي ما نُطلق عليها في اللاهوت الكتابي "شريعة القداسة". لقد طوَّرَ تقليد الربانيين (مُفسري الكتب العبرية) فكرة "الاقتداء بالله" وفي قول كاتب اللاوييّن: «فكونوا قِدِّيسينَ لأَنِّي أَنا قُدُّوس» (لا 19: 2). مِن هنا نُظِرَ لـ "قداسة الله" كمعيار وكمقياس للسلوك البشري. ففي لّاهوت سِفر اللأّوييّن يتعلق الأمر في المقام الأول بفكرة القداسة الدينية السائدة. أما لدي كُتاب العهد الجديد فنكتشف أن سِرّ القداسة هو قرار القلب والعمل معًا (راج 1بط 1: 11؛ مت 5: 48).

 

 

الخلاّصة

 

إن التعبير اليوناني  Agiasthētō to onoma sou يناشد قبل كل شيء قداسة القدوس لأنه يظهر قداسته للعالم. هذا يعني أن القداسة في الكتاب المقدس تعلن "آخريته" إنه "الآخر العظيم". يسير عامل القداسة للإله الساميّ، الذي لا يُقارن، ولا يُوصف. الإنتماء القدوس إلى شعب إسرائيل، ما هو إلا سماح القدوس للإنسان بأن يقترب منه. القدوس جعل  قداسته تتألق باختياره شعبًا ينتمي إليه، شعبًا يتم خلاصه باستمرار وهذا بفضل اسم "القدوس". بالنسبة لنا، اليوم نحن المؤمنين بالمسيح، يقول الله القدوس "آمين" بشكل نهائي للإنسان وللعالم، في المسيح يسوع، وفي هذا الـ "آمين" تظهر الـ "نعم" الّتي يتلفظ الله بها وهي التي تُقوي دعوة الإنسان إلى نوال القداسة كنعمة إلهية مجانية وتتطلب قبولها والتجاوب العملي مع النعمة من قِبلّ الإنسان بحسب فكر الرسالة البطرسيّة الأوّلى: «كونوا قِدِّيسين، لأَنِّي أَنا قُدُّوس « (11: 16). إن طاعة الكلمة الإلهية من جانب الإنسان هي تقديس إسم أدوناي المقدس والمتميز الذي تجسدّ في يسوع المسيح إبنه ليفتح باب القداسة للبشرية جمعاء.