موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٢ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

«آية العمانوئيل» بين أشعيا النبي ومتى التلميذ

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
العِمّانوئيل هو الكلمة التي كانت بالفعل الله، أصبحت أكثر إلهاً، وصار طفلاً "مولودًا من بتول" إمرأة بشريّة مثلنا

العِمّانوئيل هو الكلمة التي كانت بالفعل الله، أصبحت أكثر إلهاً، وصار طفلاً "مولودًا من بتول" إمرأة بشريّة مثلنا

 

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهدّين (أش 7: 10- 17؛ مت 1: 18- 25)

 

 

مقدّمة

 

القُراءّ الأحَبِاءْ وفقًا للتقاليد اليهودية والمسيحية، يتم الكشف عن الإله الواحد بالعديد من الوجوه في الكتاب المقدس. تستدعي هذه الأوجه المتعددة، التي يُقدم بها النص الكتابي "سر الله" للقارئ المؤمن، إستعدادًا مُشابهًا لفهم مستويات مختلفة من التفسير في النصوص. لهذا السبب، فإن الاستجابة الأكثر تواضعًا لله الذي، في كلمته، يمكن أن تنضج فقط من خلال مجموعة من الأصوات الـمُختلفةللكُتّاب إلا إنّها تهدف للتركيز على "سرّ المسيح". لذا في مقالنا تستمر مسيرة كشفنا عن هذا السرّ الإلهي في النصوص الكتابية التي تتمحور حول "الـطفل الإلهي". وقد تتبعنا في المقالات الأربعة السابقين من سلسلتنا الكتابيّة لقراءة بعض من النبؤات التي أُعلنت قبل ميلاد المسيح. وتلمسنّا تحقيق هذه المقاطع الكتابيّة الّتي ذُكرت بالعهد الأول في نصوص العهد الثانيّ والّتي تتبعنا فيها الإكتمال في شخص المسيح ذاته وهو "كلمة الله" الحية.

 

في مقالنا هذا نصل لذروة هذه المسيرة وهي التأمل أمام سِرُّ إلهيّ حاسم وهو "سر التجسد"، بهدف أن نحيا حدث "الميلاد الإلهي" في عُمقِه. سنقرأ معًا مقطعين: الأوّل من نبؤة أشعيا (7: 10- 17) والذي نجد إكتمال هذه النبؤة في العهد الثاني بحسب كلمات متى الإنجيلي (1: 18- 25). "سرّ التجسد" هو السرّ الذي يُدخِل الله في بشريتنا إذ بحسب ملء الزمن الإلهي: «أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ» (غلا 4: 4). وهذا هو أقدم إشارة كتابيّة تشير لتجسد يسوع مباشرة.

 

لذا ننطلق في مقالنا بالتوقف أمام الصوت الإلهي لدى أشعيا الذي يعطي الله وُعداً يرافقه بعض الإشارات التي تضمن كلمته. ولا يكون بوسع الإنسان، إلا أن يسأل إلهه توضيح ما في حالة عدم الفهم. وعلينا التأكد من فهمنا أن كل المباردات تنطلق من الله فقط.

 

 

1. الدور النبوي والملكي (أش 7: 1-10)

 

في كتب الأنبياء، رافق دور مُعظم الأنبياء، دور الملوك بحسب الأمر الإلهي. فقد أراد الرّبّ أن يكون النبي هو صوته المسموع في حالة اللإصغاء من قِبل الملك. وبالفعل دَّعَى الله أشعيا (راج أش 6) أثناء مُلك آحازَ بمملكة الجنوب في الوقت الذي تَعَرَضَّ فيه هذا الملك للإضطراب بسبب الحرب المتقدة ضده من الشعوب المجاورة. ففي هذا الوقت بالتحديد يبادر الله بأرسال أشعيا نبيه له مطمئنًا إياه بهذه الكلمات: «تَنبهْ وكُنْ هادِئاً، ولا تَخَفْ ولا يَضعُفْ قَلبُكَ» (7: 4). ومن هنا تأتي رسالة الرّب بالسلام والطمأنينة. بسبب السخاء الإلهي أعطي رسالته، من خلال النبي، للملك آحاز مُعطيًا علامة ليؤكد كلمته مُقويًا إياه قائلاً: «سَلْ لِنَفسِكَ آيةً مِن عِندِ الرَّبِّ إِلهِكَ [...] فقالَ آحاز: "لا أَسأَلُ ولا أُجَرِّبُ الرَّبّ"» (7: 11- 12). فالملك له القدرة على التعبير عن رغبته القلبية التي يريدها، بحسب قول الرّبّ، مُتحققًا مِن إتمامِّها. فقد كان سائداً في هذا الزمن أن اليهود يطلبون علامات سماويّة، وكان يُستجاب لهم مثل علامة يونان ونزوله لعمق المياه (راج يون 2: 3؛ مت 12: 39- 41).

  

يزعم ردّ الملك أحاز بدعوى التدين والإحترام، برفض العرض الإلهي. فهو لا يريد آية لئلا يُجرب الرب! لا يطلب منه أدّلة كما فعل بنو إسرائيل في البرية (راج خر 17: 7). وأمام رياء آحاز الملك يأتي الصوت النبويّ الذي يُعلن باسم الله مُذكِراً بأن الملك بأنّه هو الـمُكمل بنسله كـ "وَّارِثْ" من بيت الملك داود الـمُتمم الخلاص الذي وُعَدّ الله به داود. فالملك هو بمثابة الـمُمثل التاريخي للنسل الـمُختار. إلا إنه بموقفه الملك الخاطئ ومماطلته كـ "وريث داود" يستمر آحاز في خلق مشاكل للشعب وللرّبّ معًا، لذا لا يقول أشعيا، كعادته: «إلهك» بعد.

 

 

2. العلامة الـمًتميزة (أش 7: 14- 15)

 

نقرأ في الآيتين من النبؤة الإشعيائية وبالأخص في ترجماتنا الشرقية لفظ «العذراء» أي «الصبيّة» قائلاً: «ها إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل» (7: 14). في هذه النبؤة المتميزة تاريخيًا، لفظ الصبيّة أي الفتاة الشابة تحمل معنى عروس وكان يعتقد إنها عروس الملك آحاز التي لم تُنجب بعد إبنها البكر. فولادة، إبن الملك آحاز كطفل مستقبلي، وهو حزقيا، تضمن إستمرارية السلالة الداوديّة ليتم إكتمال الوعد الإلهي الذي يدعو بالخلاص. يتلخص في إسمه "عهد الله" مع شعبه وهي تحمل ذات الصيغة الكتابية "أرض الموعد". في الترجمة اليهودية " الشابة" والتي تعني باللغة العبريّة "الما" والتي تُرجمت في الترجمة السبعينية بلفظ "العذراء" (مت 1: 23).

 

نعلم من خلال قرأتنا للعهدين أن هناك هناك ولادة لكثيرين من الأبناء كانت بعد عقم حينما فتح الرّبّ رحم النساء المتزوجات من البطاركة بدًأ من سارة (راج تك 19) وختاماً باليصابات (راج لو 1: 39- 45). فهذا هو عمل إعجازي يتم بتدخل إلهي. إلا أن حالة حبلّ العذراء التي تتميز بلفظ "البتول والأم" هي فريدة وغير مُتكررة. إذ لم يتم فهم هذا القول في زمن اشعيا بل نجد تحقيق هذه النبؤة لدى متى حينما يعطي تفسير لهذه النبؤة على ضوء ولادة العِمَّانوئيل.

 

 

3. آية العِمَّانوئيل (مت 1: 18- 25)

 

تّحقّق النبؤة هذه النبؤة لها أفق نبوي عميق في هذا الوحي الذي تمَّ تمهيده للأجيال اللاحقة. هنا يشير إلى ضمان إستمرارية السلالة ويكمن سبب وجودها في الوريث المسيّاني، اأيّ الطفل الإلهي. باستمرار مسيرة الخلاص في الانجذاب نحو "المخلص" الـمُنتظر. يستبق الوريث بركات الأرض بركة الفادي العظيمة، الّتي تتجسد بحسب اللاهوت الـمتّاويّ في آية العمانوئيل أي "الله معنا" وتجسدت حقًا في "العٍمَّانوئيل" أي الحضور الإلهي للأبد. لقد إعتدنا كمؤمنين على النظر للتاريخ على أنه شيء يحدث، أي يتم حدوثه فيما بعد. لقد إعتدنا أن ننظر للأجيال كنسل وهو "يتحقق" تِباعًا على ما تم في أوّل تاريخ الخلاص. وفقا لهذه الرؤية، كل شيء هنا يعتمد على داود وكتحقيق لوعد الله له. اليوم مدعويين لتعلم وجهة نظر جديدة وهي أن نقرأ تاريخنا كقصة مستمرة وتتقدم نحو نقطة مستقبلية. تعتمد قصتنا على الرّبّ والتي تُبررّ منه فقط. فالرّبّ هو أصل الوجود والاستمرارية. وفقا لوجهة النظر الجديدة، نجد أن كل شيء بالنبؤة يتحقق في تاريخنا البشري يعتمد على الـمَسيّا الـمُستقبلي، وقوة الكلمة التي أعطاها الله لداوّد مبنية على "كلمة الله" الذي هو "العِمَّانوئيل". هذا يضفي مِصداقيّة على قرائتنا للنصّ المتّاويّ في زمننا المعاصر بأنّ المسيّا أو المسيح هو (الإنسان والإله) ومريم العذراء هي (البتول والأم) معّا من خلال هذا الوحي النبوي.

 

الجديد الذي يضيفه متى هو التفسير القوي الذي أعطاه لنبؤة أشعيا مُفتتحًا إنجيله. ويفاجئنا الإنجيلي بآخر كلمات يسوع، قبل صعوده إلى السماء، في إنجيله قائلاً: «هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم» (28: 20ب). فهذا يدلّ على أنّ يسوع العِمَّانوئيل إفتتح بسر تجسده حضور إلهي صار منظوراً ومرئيًا وبصعوده قررّ الرّبّ الإستمرار في الحضور في تاريخنّا البشري من خلال الإفخارستيا. وهنا ندرك بشكل أقوى أن كلمات أشعيا نحو العِمَّانوئيل الّذي كان مجهولاً في زمن أشعيا صار معروفًا في زمن متى الإنجيل. العِمَّانوئيل هو كلمة الله التي تجسدت لأجلنا نحن البشر كاعلان عن سرّ الله الذي تجلى في الجسد (راج 1تي 3: 16).

 

 

4. الإتمَّام (مت 1: 22- 23)

 

في بداية السرد المتّاويّ لحدث سر التجسد يشتخدم متى في سياقه الكلمات التالية: «وكانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: "ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل أَيِ اللهُ معَنا"» (1: 22- 23). من الإستشهادة العديدة للإنجيلي متى من نبؤة أشعيا يضع بمقدمة الإنجيل هذا الإستشهاد بعد تركيزه على إعلان ولادة يسوع في الآيات السابقة 18- 21. يدعونّا الإنجيلي متى، اليوم، الدخول في سر الميلاد من خلال نظرة للماضي وهي تتضح في كلمات أشعيا ونظرة لزمن ولادة يسوع مُساعدين أنفسنا بقراءة هذه الأحداث الكتابية في عالمنا اليوم وترك مساحة لدخول العِمَّانوئيل لأنه سيبقى ولن يتركنا بعد. إذن علينا أن ننظر لإتمام نبؤة أشعيا التي فسّرها متى أن نصل لتحقيقها في حياتنا اليوم. يتطلب إتمام النبؤة التي تحققت في يسوع، في حياتنا اليوم أن نفسح المجال لهذا الطفل الإلهي ليرافقنا ويكون حضوره دائم. إذ كان القرار الإلهي أن يرسل إبنه ليبقى فما علينا إلا أن نستقبله بشكل يتناسب مع العِمَّانوئيل، أي الله الذي يودّ البقاء للأبد. فما هو ردّ فعلي وفعلك؟

 

 

الخلّاصة

 

العِمّانوئيل هو الكلمة التي كانت بالفعل الله، أصبحت أكثر إلهاً، وصار طفلاً "مولودًا من بتول" إمرأة بشريّة مثلنا. جاء العمانوئيل ليخبرنا أنّه إذا كان حلم الإنسان هو أن يُصبح غير محدود وقادرًا بحسب البُعد الإلهي، فإن حلم الله هو أن يصبح إنسانًا محدودًا وبلا قوة مثلي ومثلك أيها القارئ الفاضل. عيد الميلاد لهو عظيم لأنه في ضوء الليل اللامتناهي لبيت لحم، يوجد نفس ضوء الليل الذي يحيط بالطفل الذي عندما يولد يضيئه. دعونا نجعل حلم الله لبشريتنا هو حلمنا، واتباعًا لنور العِمَّانوئيل، دعونا نسير جميعًا معًا، عائلة بشرية واحدة هشة ومتواضعة وداعمة.

 

نوّدّ أن نختتم مقالنا الميلادي هذا بقول البابا بنديكتوس السادس عشر القائل: "في ليلة بيت لحم، يجعل العِمَّانوئيل نفسه واحدًا منا، ليكون رفيقنا على دروب التاريخ الغادرة. فلنرحب بيده التي يمدها إلينا، إنها يدّ لا تنزع منّا شيئًا بل فقط لعطاء ما هو أفضل لحياتنا". القراء الأفاضل تهنئة قلبية مباركة من "العِمَّانوئيل" الدائم الحضور وليكن عام 2022 مليء بالأمل وأكثر قربًا منّا للعَمَّانوئيل الحاضر في تاريخنّا البشريّ وفي حياة كلاً منّا بشكل خاص.