موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٢٠ أغسطس / آب ٢٠٢٠
مقالات في القيادة: القيادة الرعوية في ظل جائحة كرونا
المطران بشار متي وردة، رئيس أساقفة أبرشية أربيل الكلدانية

المطران بشار متي وردة، رئيس أساقفة أبرشية أربيل الكلدانية

المطران بشار متي وردة :

 

المُقدّمة

 

كشفت أزمة جائحة كرونا عن الحاجة إلى التأمل عميقاً في أبعاد الخدمة الرعوية للكنيسة، ومضمونها وعن المواقف التي على الخدام الرعاة التحلّي بها. لا ينكر أي مؤمنٍ أهمية حضور الخادم الرعوي (الأسقف والكاهن أو المكرس) ومكانتهِ في ديمومةِ مسيرة الإيمان في الجماعة وإنعاشها لاسيما في مثل هذه الظروف، التي شكلّت تحدياً كبيراً للإكليروس أنفسهم وصلت بهم الى مرحلة التساؤل حول معنى تكريسهم الكهنوتي وفعاليتهِ، وحتّى مدى ضرورته لحياة المؤمنين.

 

فقد وجد هؤلاء الخُدّام، وعلى نحو مُفاجئ، أنفسهم من دون رعيّةٍ يلتقونها وجهاً لوجهٍ، وممنوعين من الإحتفال بالليتورجيا أو القيام بفعاليات وأنشطة رعوية تخدم المؤمنين. البقاء في البيت أثارَ في أنفسهم تساؤلاتٍ كثيرة منها: مَن أنا؟ وما نفعُ خدمتي الكهنوتية إن لم أحتفل بالذبيحةِ الإلهية وبقيّة الأسرار؟ وهل يُمكن إستبدال الإحتفالات الليتورجية في الرعايا، بمجردّ قداس يُنقل عبر شبكات التواصل الإجتماعي؟ وما الذي يُميّز لاهوت الكهنوت في الكنيسة الكاثوليكية؟ وما الذي يُمكن أن يُقدّمهُ للكنيسة وللمؤمنين في مثل هذه الظروف العصيبةِ؟ ولا أبالغ إذ أقول أنَّ بعضهم خلقَ لدى المؤمنين والناس عامةً تساؤلات مُشكِّكة بسبب مواقف وسلوكيات وفعّاليات وأنشطة قدّمها هؤلاء بحسن نيّة، إلا أنها افتقرت إلى أُسس كتابية أو لاهوتية رصينة.

 

للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها كثير، سنتامل، ومن خلال سلسلةِ مقالات قصيرةٍ، في حياة الكنيسة الأولى، ونتوقف عند أحداثٍ مهمّةٍ شكلّت تحديا للكنيسة قيادةً ومؤمنين، ونحاول أن نُصغي إلى الدروس المهمّة فيها لنتعرّف على شكّل القيادة في الكنيسة في مثل هذه الظروف.


 

بولس: رسائل من الحبس

 

وصلَ بولس إلى روماً مُكبلاً لا يُسمَح له بلقاء جماعةِ المؤمنين فيها، ومحروماً مقاسمة الكلمة وكسر الخبز معهم، واعياً أنَّ عليه التحضيرَ لمواجهةِ محاكمةٍ ولربما الُحكمُ بالإعدام بسبب اختيار المسيح يسوع له. هذه الحالة لم تمنعهُ من تمييز الخدمة التي يُريدها الله منه في الظرفِ الذي يعيشهُ، ولم تكن السجونُ بأحسنِ حالٍ مما هي عليه الآن، فصلّى ودرس كلمة الله وقدّم للكنيسة رسائل مهمّة من حبسهِ. تأمل واستعرض فيها معنى أن يكون مؤمناً بالمسيح: "لماذا هو عبدٌ للمسيح ورسولٌ له لإعلان البُشرى السّارة؟ (روم 1: 1)، ما أهمّيةُ أن يكونَ الإنسان مسيحياً؟ وما الذي يُميّزهُ عن غيرهِ من الناس؟ أهي أفكارٌ أم رؤيةٌ أم سلوكٌ أم رؤيةٌ للحياة؟

 

لم يخلق الحبس أزمةَ إيمانٍ لدى بولس، بل حفّزته هذه الخبرة العصيبة ليُراجع حياتهُ كلّها لاسيما لقاءه ربّنا يسوع الذي انتشلهُ من موقفِ "الفريسي المُكمِل للشرائع" ليكونَ "المعلّم والمتأمِل في كلمةِ الله". لم يمنعهُ حبسهُ من أن يواصِل تبشير الحُراس أنفسهم، فدخلَ معهم في نقاشاتٍ نالت إستحسانهم، كما لم ينل الحبس من الفرح الذي يختبرهُ لأنَّ ربَّنا يسوع المسيح كان قادرًا على تغييرِ حياتِهِ كلِّيًّا. وعبارةُ الفرحِ هي أكثرُ العباراتِ المتكرِّرةِ في رسالته إلى كنيسة فيلبي (14 مرَّة). فعلى الرَّغمِ من أنَّهُ كان يُعاني من الحبسَ والضِّيقَ والاضطهادَ والعوزَ، وهو مُكبَّلٌ بالأغلالِ، إلاَّ أنَّهُ كان قادرًا على أن يجدَ ما يُفرِحُ قلبَهُ ليشكرَ اللهَ عليه.

 

هنا، نكتشِف النُضج الإنساني والروحي الذي ميّز بولس كقائدٍ فلم يجد صعوبة في التخلي عن القيادة الإدارية والتوجيهيةِ للجماعةِ، لتكونَ هذه الفترة فرصة للتبشير عن بُعدٍ وتوجيه شعبهِ، وشجّعهم ليواصلوا المسيرةَ ليُوقِظَ فيهم، ومن وسطِ الشدائد الرجاء الذي لا يُخيّب (روم 5: 2- 5).


 

القيادة: القُدرة على التعلّم والتعليم

 

الكنيسة (أساقفة وكهنة ومكرسين) مُلزمةٌ دومًا، لاسيما في الأوقات الحرجةِ أن تعلّم المؤمنين وتعرّفهم على دعوتهم ومضمونها، ولماذا هم مُميزون في إيمانهم؟ أن تساعدتهم في الاجابة عن السؤال: لماذا أنا مؤمن بالمسيح يسوع، والذي يسبق السؤال: كيف لي أن أُظهِر إيماني بالمسيح يسوع؟ فالسؤال الأول هو سؤال "الهوية" ويحمل معه حياة الروح، والسؤال الثاني هو سؤال "المظهَر"؛ إمكانية التعبير عن الهويّة، وهو آني ومؤقت ومتغيّر، ومؤسسٌ على جواب السؤال الأول.

 

بولس، قدّم للمؤمنين "الهوية" التي تجعلهم يستوعبونَ معنى كل ما يختبرونه من شدائدَ، وكيف يُمكن أن تكون هذه التحديات فرصة للنمو في الإيمان وإنتعاشهِ. علّم جماعة الإيمان أنَّ إنجيل ربّنا يسوع يتجاوز أُطر اليهودية ومُشترعاتها ليستوعِب الجميع، وهو، أي الإنجيل، يتطلّب إستجابة أمينةً في حياة كلِّ مَن يقبلهُ. لم تكن الطقوس والليتورجيات ذات أهميّة مقارنةً بالدوافعِ التي تجعلنا نُكرِمُ الله على نحو يُميّزنا عن غيرنا. كتبَ موجهاً على ضرورة الاستعداد المُلائم للإحتفال الأفخارستي (1: كور 11: 17-22)، إلاّ أنَّ الأمرَ الأهم كان: لماذا هذا الاحتفال؟ وما أثرهُ في حياة الجماعةِ؟

   

بذلك كشفَ عن ميزة أساسية لكلّ قائدٍ رعوي وهي القدرة على إكتشاف مسؤوليته في الحاضِر الذي يجد نفسه فيه من أجل خير مَن يقودهم، حتّى لو اُضطُرَ إلى تغيير جذري في أسلوب القيادة من أجل رفاهية حياةِ الآخر الذي يتبعهُ، فلكلَّ قائدٍ فردٌ أو جماعةٌ تتبعهُ. ليس المهم أن يكون الخادم الرعوي، وهو قائدٌ لجماعةِ الإيمان، مؤدياً للطقوس التي يجب أن تتوفّر لها أجواء ملائمة، بل الأهم هو قُدرتُه على تعليم الجماعة وتثقيفهم ليحتفظوا بحماسةِ الإيمان في ظلّ الظروفِ المُحيطةِ بهم، وبذلك يكون لخدمتهِ القيادية معنى وتأثير في حياة الجماعةِ. عليهِ أن يكون مُبدعاً في التعبير عن جوهرِ الإيمان ومُصداقيتهِ، إيمان يُبشّر الحضارة والمجتمع ويُؤثِر فيهما، لا أن يتأثر هو بهما. الإتكاء على الطقوس يُعبّر أحيانا، وأقول أحياناً، عن عجزٍ في تفهّم واقع جماعةُ الإيمان وحاجاتهم الروحية والرعوية، فتُصبح الطقوس والممارسات الرعوية المُعتاد عليها ملجأً آمناً للخادم الرعوي، وكأنها هي هويّته.

 

إنّه قائد، بمعنى، هو باحِث دومًا عن كيفية أن يكون "مؤثرًا: قيادة" وليس "قويًا: سُلطة" مثلما يسعى الملوك والسلاطين، ليزرع في قلوب الجماعة الرجاء والعزيمة من خلال وضوح الرؤية، وعندما ينجح في أن يكون مُعلماً ومُثقفاً، عندها، فحسب، سيكون قادراً على تغير حياة الجماعة لتستقبل جديد الله. فإستخدام القوّة المتسلّطة بكلّ أشكالها أمرٌ مُحبطٌ للغاية ويُعيقُ نمو حياةِ الإيمان لدى الجماعة الكنسيّة، بخلاف التأثير فيهم عبر التثقيف والتعليم إذ يجعلهم ينضجون على نحو إنساني وروحي.