موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٥ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠
مقالات عن القيادة الراعوية في ظل جائحة كورونا: يا رب نجّنا فإننا نهلك!

المطران بشار متي وردة :

 

المُقدمة

 

يُدرِكُ كل مَن إلتزمَ الخدمةَ الراعوية أن مهاراتهِ وإمكانياتهِ لا تؤهلهُ حقاً لقيادة المؤمنين، لكنّه وبنعمةٍ من الله الذي اختارهُ لهذه المهمّة، سيُحقق إنتظاراتِ الله والكنيسة منه. فيروي لنا الكتاب المُقدس في العديد من قصص الدعوة، أن الله فاجأ الذين اختارهم للخدمةِ وأبدوا اعتراضهم الصريح مثل موسى (خر 3: 11) وإرميا (1: 6)، أو بأسلوب غير مُباشرٍ كما فعلَ يونان، اختاره الربُّ ليذهب إلى الشرق، فأخذ سفينةً متجهةً إلى الغرب (1: 1- 3). هذا من جهةٍ.

 

من جهةٍ أخرى، لم يختر المؤمنون شخصيّات القيادة الراعوية، بل هو اختيار السلطة الكنسيّة، وهذا يفرِض على المُلتزمين بالخدمةِ الراعوية إلتزاماً آخر: أن يشهدوا لصوابيةِ اختيار الكنيسة لهم ليكونوا قادةً راعويين في الكنيسة، فتولي المنصِب الإداري الكنسي لا يعني بالضرورة آهلية الشخص المُختار ليكونَ قائداً، فالقيادة تتطلّب تباعةَ المؤمنين له عن رضى، واثقينَ به لا لأنهم مُضطرين إلى ذلك مؤمنين أنَّ قادتهُم يضعون إنتظاراتِ جماعةَ الإيمان أولويةً في خدمتهم، فتنشأ بينهما ثقةً متبادَلة، يُمكن لهما مواصلةَ العلاقةِ بنُضجٍ.

 

القيادة الراعوية: مسموح طلب المُساعدة

 

لا يُمكن للقائد أن يؤّدي مسؤولياتهِ بمفردهِ، عليه أن يُشارِكَ الله والآخرين في تحقيق المهام المُوكلةِ إليه، فلا يوجَد على الأرض قيادة مُطلّقة، وحدهُ الله قادرٌ على أن يقودَ الشعبَ بمفردهِ، فعلى القيادة الراعوية أن تتعلّم طلبَ المشورة والمُساعدة وتفويض الآخرين جزءً من صلاحياتها، من أجلِ تحقيقِ خدمتها كما فعلَ الرُسل: "فَدَعَا الاِثْنَا عَشَرَ جُمْهُورَ التَّلاَمِيذِ وَقَالُوا: "لاَ يُرْضِي أَنْ نَتْرُكَ نَحْنُ كَلِمَةَ اللهِ وَنَخْدِمَ مَوَائِدَ. فَانْتَخِبُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ سَبْعَةَ رِجَالٍ مِنْكُمْ مَشْهُوداً لَهُمْ وَمَمْلُوِّينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَحِكْمَةٍ فَنُقِيمَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنُواظِبُ عَلَى الصَّلاَةِ وَخِدْمَةِ الْكَلِمَةِ" (أع 6: 2-4).

 

كانَ الرُسل الأوائل واثقين من أنهم غيرُ قادرون على إتمامٍ خدمتهم بمفردهم، فصارَ لزاماً عليهم طلبُ المُساعدة، مؤمنينَ أنَّ الله الذي اختارهم لهذه الخدمةَ قد أنعمَ على الجماعةِ بمواهبَ متنوعةً لبٌنيانها وتقديسها، ومثلما لا يحسنُ أن يكون الإنسان وحيداً (تك 2: 18)، هكذا، لا يُمكن القيادة منفرداً، واختيار الله للشخص لا يعني البتّة "مُطلقية القيادة"، بل، أن يسيرَ المُختارُ أمامهُ متواضعاً، لأنَ الله قرر أن يتبعَ خطواتَه: "سِرْ امَامِي وَكُنْ كَامِلا" (تك 17: 1). فكم على المُختار أن يتأنّى ويُميّز في اختياراته وسلوكياتهِ؟

 

فعندما تُقرر القيادة الراعوية طلبَ المُساعدة من مؤمنيها لتفعيل مواهب الرُوح القدس فيها (1 كور 12)، تُرسِلُ رسائل إيجابيةً لهم من شأنها تعزيز الثقةِ المُتبادَلة بينهما وتقوية أواصرِ العلاقة على نحوٍ يخدُم الغاية من وجدِت من أجلها الكنيسة: خدمةُ إنجيل ربّنا يسوع. فالقيادة الراعوية واعيةٌ تماماً لمحدوديتها لذا تطلبُ مُشاركةَ المؤمنين في صناعةِ القرار، لأن القيادة هي خدمةُ مُشاركةٍ، وليس أوامرَ للتنفيذ. والمؤمنون يعرفون جيّداً مَن هم قادتهُم وما هي مسؤولياتهم وحدودها وليس بالضرورة أن يتم تطبيق كل ما يقترحونه، ولكنّهم يحبّون الشعور بأنهم جزءٌ من عمليةِ صنُع القرار وأنَّ صُناع القرار يسمعون إليهم بإهتمامٍ بالغٍ ويُقدرون مُساهمتهم. لذا، ينبغي على القيادة الراعوية وقت الأزمات أن تتبع إداراة الأبواب المفتوحة، بمعنى، من أن يسهل التواصل معها عبر الهاتف أو اللقاءات المُباشرة قدرَ المُستطاع، للتواصلِ مع جماعةِ الإيمان، وهذا التواصل يعني الإصغاء إليهم والحديث معهم، وستُعزز هذه المواقف أواصِر الثقةِ بين الطرفين فيُعطي كلُّ واحدٍ جُلَّ ما له من إمكانياتٍ ومواهب وجهدٍ، لأنّ بيئة العلاقة آمنة والتواصل هو نزيهُ وصحيحٌ، فالثقة مُتبادَلة والدعم والمُساندة حاضرةٍ.

 

هذا التواصل سيُساعِد القيادة في اختيار شخصيات لها مُقترحات ومُبادرات لمواجهةِ التحديات الآنية والخروج بأقلِ الخسائر، وليس قضاءٌ الوقت في تحليل الأسباب والمُسببات للأزمة. أحياناً نجد بعض القيادات تُحيطُ نفسها بخُبراء ومُختصين أكفّاء، ويسعون لتشكيل فريق أزمة، ويُصبح الفريق جزءً من المُشكلة وعبئا على القيادة، عوضَ أن يكون جزءً من الحل، بسبب رغبةِ كلٌّ من أفراد الفريق بالتفرّد في صناعة القرار للحصول على "براءة الإختراع" والتكريم المعنوي.

 

لذا، يكون تشكيل فريق الأزمة فاعل ومُبدِع وجرئ أكثر المسؤوليات أهميّة في تأدية خدمةِ القيادة، فنجاح القيادة الراعوية يعتمدِ على قُدرتها على إكتشاف مُساعدين لها يتفاعلون مع متطلّبات الأزمة ويحفزونهم لمواجهة تحديات المرحلةِ من خلال تهيئة أجواء العمل بروحية الفريق الواحد. هذا لا يعني البحث عمّن يمتلِك سيرة ذاتية متميّزة بالشهادات الأكاديمية، أو مَن له خبرات متراكمةٌ أو حتّى رغبةٌ وحماسةٌ للخدمةِ فحسب، فمثل هؤلاء قد لا يصمدون أمام متطلّبات المرحلة مثلما حصلَ مع الشاب الغني الذي تقدّم نحو ربّنا يسوع يسألهُ كيف له أن يحصل على الحياة الأبدية وأحبّهُ ربّنا لتقواه وإلتزامهِ وحماستهِ: "فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ وَقَالَ لَهُ: "يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ"، لكنّه لم يتمكّن من جذبهِ إلى جماعةِ الرُسل: "فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِيناً لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ" (مر 10: 17- 21). من أجل ذلك طلبَ الرُسل مُساعدة جماعة المؤمنين في اختيار الشمامسة وفقَ معايير خاصّة: السُمعةُ الحسنة ومملؤين من الروح القُدس والحكمة.

 

أخيراً، وليس آخراً، عندما تتمكّن القيادة الراعوية من تهيئة أجواء علاقاتِ صحيحةٍ داخل جماعةِ المؤمنين ليلتزموا جميعاً مسؤولياتهم، من دون تخويف أو ترهيب أو تهديد بالقصاص، بل إحترامٌ لمكانةِ الجميع والعناية الأبوية بهم والمرافقة الصادقة لهم وتمهيد الطريق ليكونوا شُركاءَ فاعلين ويساهموا وفقَ مواهبهم بشغفٍ وسخاءٍ مجاني، ليتمكنوّا من فعلٍ ما هو عظيمٌ، عندها، يُمكن أن نقول أنَّ هناك حياةٌ مُبدعةٌ للجماعة: "مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ" (يو 14: 12). فعندما يُحبُّ المؤمنون قائدهم سيتواصلون معهم بجهوزيةٍ عاليةٍ وسخاءٍ تام، ويتخطوّن الأزمة وقد نضجوا في القامة والحكمة أمام الله والناس.