موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
مقالات عن القيادة الراعوية في ظل جائحة كورونا: وقال الله: ليكن نور، فكان نور
سهرة مريمية لرعيّة "أم المعونة الدائمة" في عنكاوا، 18 أيار 2016 (تصوير: ستيفان شاني)

سهرة مريمية لرعيّة "أم المعونة الدائمة" في عنكاوا، 18 أيار 2016 (تصوير: ستيفان شاني)

المطران بشار متي وردة :

 

المُقدمة

 

نختبرُ جميعاً شعوراً بالقلق وقت الأزمة، فتُثارُ فينا تساؤولاتٌ مُقلقةٌ ومزعجةٌ بسبب عدم قُدرتنا على معرفةِ ما الذي يحملهُ لنا قادمُ الأيام وكأن الأمرَ خرج عن سيطرتنا، وأضحينا عاجزين عن مواجهةِ تحدّيات الأزمةِ، لاسيما مع تنوّع المعلوماتِ ذات العلاقة وكثرة الأقاويل حولها وتباين وجهاتِ النظرِ، مثلما حصلَ مع أزمة فايروس كورونا، فالإعلام المرئي والمسموع يحمل لنا يومياً طُروحاتٍ ونتائج مختبرية تتركنا حيارى حول ماهيّة هذا المرضِ وأعراضهِ وكيفيةِ التعامل معه وما هي الإجراءات الأكثر سلامة لتفاديهِ؟ 

 

في مثلِ هذه الأوقات، أي في وقتِ الأزماتِ، تبرزُ أهمية وجودِ قيّادة راعوية تتفهم المُعطيات وتوجّه المؤمنين وتُشيرُهم نحو الطُرقِ الأكثر أمناً وسلامةً لحياتهم على الصعيد الروحي والراعوي والإجتماعي، ففعاليةُ القيادة ومُصداقيّتها تُختَبَر في أوقات الأزمات حيث تُظهِرُ القيادة قُدرةً عالية على إدارة الأزمة بهدوءٍ لينعمَ المؤمنون بالآمان الروحي والنفسي والإجتماعي، عارفين أنَّ لهم قيادة تتقدّمهم وتسهرُ عليهم وهمٌ نيامٌ آمنونَ مثلما يُصلي المزمّر 121، ويثقونَ بقُدرتها على التعامل مع مُستجّدات الأحداث من دون توترٍ أو تخبّط، مؤمنين جميعاً بتدبيرِ الله الأبوي للكنيسة لتخرُجَ من الأزمةِ أقوى من ذي قبلُ.

 

القيادة: القُدرة على إكتشاف الحلولِ

 

"تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ" (2 كور 12: 8- 9). لم يكن بولس أولَ قائدٍ روحي يتمنّى الموت، فقبلهُ طلبَ موسى وإيليا وأرميا ويونان، فالقيادةَ الروحية والراعوية خدمةٌ مُتطلّبةٌ لاسيما في حياة قادةٍ يشعرون صدقاً بالصداقةِ والأخوّة والتضامنِ والفرحِ والحزنِ والحيرة والقلق والخوفِ. قادةٌ إنسانيونَ في دوافعهمِ ومقاصدِهم ومواقفهم ولهم الجُرأة على المُغامرةِ، ويُدركونَ أن مواصلة المسيرة قد تحمل معها أخطاءً وهفواتٍ غير مقصودةٍ، فيحاولون النهوضَ بعد السقوط، وهذا ما يُميزهم كقيادة. 

 

في أزمةِ بُستان الزيتون، وموجهاً انظارهُ دوماً إلى الله الآب، بقيَّ ربّنا يسوع المُتحكِم في الأحداث منذ لحظة دخول البُستان وحتّى مغادرتهِ (مر 14: 32- 49). نامَ تلاميذه وتخلّى عنه أصدقاؤه المُقربونَ إليه: بُطرس ويعقوب ويوحنّا، وتركوه يواجهُ مصيرهُ لوحدهِ، في هذه الأثناء وفيما كان هو يُصلي: "وظهرَ له ملاكٌ من السماءِ يقويّهِ" (22: 43). في اللحظة التي عرِفَ فيها أنَّ مصيرهُ باتَ بيدِ أعدائهِ وأن ليس له مَن يقفُ إلى جانبهِ، تلّقى التعزية والقوّة من الله ليواصِل المسيرةِ، مؤمناً بأمانةِ الله معه: "لتكُن إرادتُكَ لا إرادتي" (لو 22: 42)، وتمكّن من قيادة التلاميذ وتوجيههم: "قوموا وصلّوا لئلاَّ تقعوا في تجربةٍ" (لو 22: 46) والدفاع عنهم لئّلا يخسر أحدٌ منهم (يو 18: 8-9)، ودخلَ في جدالات حاسمةٍ مع رؤساء الكهنة وبيلاطس (يو 18: 19- 24، 28- 40).

 

واحدة من مهامِ القيادة الراعوية الرئيسة والحيوية هي بيان قُدرتها على التقدّم للقيادة من خلال تقديم التوجيه والمشورة وعلى إيجاد الحلول وقت الأزماتِ، فلا تنقادُ بالظروفِ بل تقود وتُبادِر وتقترِح وتستشير وتُعدّل وتُقيّم مُدركةً أنَّ لكلِّ مرحلةٍ ظروفها الخاصّة: "ثمّ قَالَ لَهُمْ: "حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟" فَقَالُوا: "لاَ". فَقَالَ لَهُمْ: "لَكِنِ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً" (لو 22: 35- 36). 

 

فحين يُعاني المؤمنونَ من أزمةٍ يتطلّعونَ نحو قادتِهم الراعويين طلباً للتوجيه ولإيجاد حلولٍ فاعلةٍ ومعقولةٍ، وعلى القيادة دراسةُ الإمكانيات المُتوفّرة لديها لا تمنيّاً بل واقعاً، آخذين بعين النظر ما يمتلكهُ المؤمنون من مواهبَ وما هو مُتاحٌ في اللحظةِ الآنيةِ للخروجِ بحلولٍ عملية تخدُم الجميع؛ الخيرَ العام، مُثمنين كلَّ مساهمةٍ تأتي من أي طرفٍ كما حصلَ مع قصّة إطعام الخمسةِ الآف رجلٍ (مر 6: 30- 44)، حيثُ قدّم ربّنا يسوع إنموذجاً قيادياً رائعاً من خلال معرفةِ ما يحتاجُ إليه الجموع، وما يُريد أن يفعلهُ، والتوجهُ نحو الصلاة مُصلياً، وتحديد مهامِ التلاميذ في تنظيم الجموع وتوزيع الخبزِ عليهم وجمعِ ما فضُلَ عنهم، وهي مهمّةٌ لا يُمكن أن يؤديها شخصٌ بمفردهِ ما لم يكن مع آخرين، ويشعُر كلٌّ منهم بأنهُ مُساهمٌ على نحوٍ فاعلٍ، لذا، أكدّ بولس الرسول على أننا لسنا مؤمنينَ بالإنجيل فحسب، بل شُركاءَ (روم 8: 17).

 

يُدرِكُ الجميع في وقتِ الأزمات بأنّهم في مركبٍ واحدٍ، إنَّ عليهم تقديمَ تنازلاتٍ عن حقوقٍ وإمتيازاتٍ شخصيةٍ مُستحقّة فالتشبُث بها وقتَ الأزمةِ يُعرّقل مسيرة إيجاد الحلولِ ويُعكّر صفو الأجواء ويُعيقُ التواصل بين المؤمنين. يتطلّبُ الخير العام للكنيسة مثل هذا الموقف الشهِم، لئلاَ تختبرُ الجماعةَ ضغطاً روحياً أو نفسياً أو إجتماعياً أكثر مما يلزَم، فليس المُهم مَن يربح ومَن يخسر، فمثلُ هذا التفكير يعني أنَّ القيادة الراعوية مهتمّةٌ بالمنصبِ وسلطتها أكثر مما يهمّها خيرُ الجماعةِ الكنسية، لذا، وجبَ تقييمُ الإجراءات وتعديلها وتحديثها كلّما تطلّبُ الأمرُ ذلك، فما تُعلّمه القيادة الراعوية وتُوجّه إليه المؤمنين ليس مُنزّلاً أو أنه "الإنجيل الخامس"، كما ويجب أن لا يكون تفكيرُ القيادة وفقَ منطق: "الخروج بأقل الخسائر"، بل كيف لي أن آخذ الجميع إلى المراعي الخضراء مروراً بوادي ظلِّ الموت (مز 23). 

 

هذا كلّهُ مُمكن إن كان للقائد الإستعداد للتأمل فيما تختبرهُ الجماعةِ من منظورٍ شاملٍ والتخلّي عن ما هو حقٌ شخصي من أجل العبورِ بالجميع إلى برِّ الآمان من دون إقحامهم في نقاشات وجدالاتٍ أو خبراتٍ تستنزفُ طاقاتهم حول مَن كان السبب؟ ومدى فاعلية الإجراءات؟ ومَن سيقوم بهذه المهمّة أو تلِك؟: "فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: "مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟ قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: "مِنَ الأَجَانِبِ". قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "فَإِذاً الْبَنُونَ أَحْرَارٌ. وَلَكِنْ لِئَلَّا نُعْثِرَهُمُ اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً وَالسَّمَكَةُ الَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ" (متّى 17: 25-27). لم يكن ربّنا يسوع ضعيفاً أبدا عندما تنازلَ عن حقّهِ كأبنٍ للملك، بل تطلّع إلى ما هو أعظم: "أن يكون دوماً القائد النموذج، فلا يُسبِبَ عثرةً للمؤمنين"، ويكتشِف بُطرس أنَّ هيأ لها تدبيراً سخياً.