موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠
مقالات عن القيادة الراعوية في ظل جائحة كورونا: القيادة تُخطىء أيضًا
المطران بشار متي وردة، رئيس أساقفة أبرشية أربيل الكلدانيّة

المطران بشار متي وردة، رئيس أساقفة أبرشية أربيل الكلدانيّة

المطران بشار متي وردة :

 

المُقدمة

 

هدف القيادة الراعوية هو تمكينُ المؤمنين من أن يلتزموا مسؤوليتهم الشخصية إزاء مُتطلّبات الإيمان كلٌّ وفقَ الوزنةِ المُعطاةِ له وفي نطاقِ حياتهِ اليومية التي لها خصوصياتها. فليس للقيادة الراعوية منهاجٌ قياديُّ مُقدّس غير قابِل للتغيير أو التعديل، لأنّ الله جعلَ هذه القيادة من أجل خدمةِ البُشرى السّارة، وهي، أي القيادة، أولَ مَن يتلقّى البُشرى ويعمل بها، والبُشرى السّارة هي: "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ" (مر 1: 15).

 

القائد الراعوي هو إنسانٌ واعٍ، أنه مدعوٌ من قبل الله، راعي جماعة المؤمنين الأوحد، يُصغي إليهم ويسمع لهم، ويرفع عينه للصلاة إلى الله الراعي طالباً منه المشورةِ، ويسعى جاهداً للسير بالجماعة إلى المراعي الخصبةِ، وفقَ ما يفهمهُ هو، وهو يعرِف أيضاً أنَّ فهمهُ للأحداث قد يكون مغلوطاً وقد لا يستوعِب كل أبعاد المُشكلةِ، لذا، عليه أن يُغيّر ويُعدّل رؤيتهُ وفقَ ما تتطلّبهُ خدمتهُ، فالهدف والغاية هو رفاهية الآخرين وليس تحقيق الخُطط والبرامجِ.

 

القيادة: إستعداد للتغيير

 

يروي لنا الفصل العاشر من سفرِ أعمال الرُسل حادثة إمتناع بُطرس عن تناول الطعام النجس بحسب شريعة موسى: "كَلاَّ يَا رَبُّ لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئاً دَنِساً أَوْ نَجِساً"، فجاء الردّ من الصوت يقول: "مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!" (10: 10- 16). يقينا أن هذا الموقف كان له أبعادٌ وتأثيراتٌ على خدمة بُطرس الراعوية، فهو ومع بقيّة الرُسل كانوا يُجبرون الوثنين على الختان وفقَ شريعة موسى قبل أن ينالوا العماد بإسم يسوع المسيح، وهو إجراءٌ عارضهُ بولس في مجمع أورشليم، فغيّر بطرس موقفهُ هذا، ولم يعد لزماً على المؤمنين الختان وفقَ شريعة موسى (أع 15).

 

القيادة الراعوية تعني قُدرة القائد على التعامل مع المُتغيرات على نحوٍ حقيقي، وإمكانية تغيير الموقف حتّى وإن جرت العادة بغير ذلك. ففي لقاء ربّنا يسوع بالمرأة الكنعانية (مر 7: 24- 30)، أظهرَ ربّنا أهميّة تغيير الموقف المُعتاد عليه، فهي طلبت منه أن يُخرِجَ الشيطان من إبنتها، فقدّم لها الجواب الذي تعودّت الجموع أن تُقدّمه في مثل هذه الحالات: "أنتم كلاب ولا تستحقون الرحمةَ". فأجابته بكل تواضعٍ: صحيح، ولكن تبقى أنت مُخلّصنا ومنّك ننالُ ولو القليل، وهذا يكفينا. وأمام هذا الجواب وقفَ ربّنا يسوع مُباركاً للمرأةِ إيمانها العظيم، من دون أن يتمسّك بالمواقف المُعتادةَ لعامّة الشعبِ، أو حتّى التمسّك بآرائه ومواقفهِ الشخصية إزاء قضايا أو إجراءات راعوية يلزم إعادة النظر فيها.

 

هذا يقودنا إلى السؤال: هل تفترِض عصامية القائد أن يلتزمِ بتوجيهاته حتّى وإن أثبتت فشلها؟ وهل يُمكن أن يُخطيء القائد في التوجيه؟ وما عليه أن يفعل لتصحيح المسار؟

 

يعرِف كل مَن يتولّى مسؤولية القيادة أن الخطأ واردٌ جداً لأسبابٍ عديدةٍ، ويسوء الأمرُ وقت الأزماتِ، فعلى الرُغم من الجهود التي يبذلها القائد في سبيل توفير بيئة راعوية آمنةٍ لجماعةِ المؤمنين، تأتي الأحداث مُفاجِئة ومُغايرة لقراءته لها، بمعنى آخر: يفشل في إتخاذ الخطوات الملائمة. وأحياناً نجد بعض القادة الراعويين تعوزهم الجُرأة في مواجهةِ الرأي العام، وهو ما رفضهُ ربّنا يسوع فلم يقبل الإنصياع لرغبةِ أهل الناصرة في أن يصنع لهم المعجزات وكلّفه ذلك طردهُ من المجمع ومحاولةِ رميه من حافةِ الجبل (لو 4: 14-30). هناك مواقف في الحياة على القائد أن يتعلّم أن يقول "لا" في حين أن الجميع يقول: "نعم". فالقيادةِ لا تتبعَ بل تقود، وحتّى لو صار التوجيه إلى الجماعةِ بالسيرِ نحو الأمام إلا أنهم يتطلعون إلى قيادتهم في طلبِ المشورةِ دوماً.

 

سبق وأن أشرتُ في مقالٍ سابق، على أنَّ أحدِ أسباب فشل القيادة يكمنُ في مجموعة المُستشارين الذين يُحيطون بها، كما حصل مع مُستشاري الملك رحبعام الذين أشاروا إليه بضرورة عدم الإصغاءِ لطلبات الشعب وزيادة الضرائب عليهم، فتمردت عشرُ قبائل (1 ملوك 12: 1-15). فلا يهمُ كمُّ الشهادات الأكاديمية التي يمتلكها المُستشارون وخبرتهم في مجال الأختصاص، المهم هو قُدرتهم على تفهم الأحداث وإستيعاب جوانب الأزمةِ، والمشورة بتوجيهات عملية تُخِفِف من وطأة الأزمةِ، وتفتح السبيل نحو مخارج آمنةٍ.

 

الخطأ واردٌ جداً في تأدية خدمةِ القيادة الراعوية، فلا يوجد دليلٌ للقيادة الراعوية ليكون مُرشداً له، عليه أن يكون في تواصلٍ مع الله والشعب ليوجّه جماعةَ الإيمان، فكلٌّ حالةً لها خصوصيتها وفرادتها. بيّن سفرِ اللاويين (14) أن الشعب والكاهنِ قد يخطئون وعليهم تقديم ذبائح تكفيرٍ عنها، ولكنه يُعلِن صريحاً: "اذَا اخْطَا رَئِيسٌ وَعَمِلَ بِسَهْوٍ وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَهِهِ الَّتِي لا يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَاثِمَ" (12)، بمعنى أن الله يعرِف القائد سيُخطيء لا محالةَ، فتجربة التسلّط: تتحدّاه دوماً وتُفسد ضميره الأخلاقي، ناهيك عن تجارب الغنى والشهرة، والخطأ الكبير الذي قد يقع فيه القائد هو محاولة خلقِ التوازن ما بين عدّة جهات متمايزة في آرائِها وتطلّعاتها، وقد يجد نفسه أحياناً مرغماً لأن يتبع الرأي العام، ورأي الأغلبية، فيُساير آراءهم ويتبع رغباتهِم مثلما حصل لهارون وقصّة العجل الذهبي (خر 32). فعندما تأخّر موسى على الجبل، شعرَ الشعب أنهم فقدوا وسيلةَ التواصل مع الله، فطلبوا من هارون أن يصنع لهم آلهةً تسيرُ أمامهم، وفعل مثلما أرادوا فغضِبَ الله من فعلتهم هذه، وأمر موسى بالنزول إلى الشعب، والذي تفاجأ بما حصل فكسر لوْحَي الوصايا وأحرقَ الصنمَ، ووجهَ تأنيباً لهارون: "مَاذَا صَنَعَ بِكَ هَذَا الشَّعْبُ حَتَّى جَلَبْتَ عَلَيْهِ خَطِيَّةً عَظِيمَةً؟" فأنكرَ هارون مسؤوليتهُ عما حصل وإتهمَ الشعبَ بأنهم كانوا وراء هذا الطلب.

 

هوذا القائد يتخلّى عن مسؤوليتهِ ويُعلِن أنه كان ضحيّة آراء الآخرين. صحيح أننا نعي جميعًا صعوبة مقاومة رغباتِ الشعب والوقوف بالضدِّ من توجهاتهم، ولربما يخسر القائد مكانتهُ، كما حصل لشاؤول الذي تجاهلَ توصيات صموئيل النبي وفضلَّ عليها رغبات جنودهِ (1 صم 15: 13–21)، ولربما يخسر حياته كما حصلَ مع ربّنا يسوع الذي لم يُجارِ متطلّبات رؤساء الكهنة وكتبةِ الشعب، فُحُكِمَ عليه بالصلب. القيادة الراعوية تتطلّب السماع إلى جماعةِ الإيمان والإصغاء إلى كلمةِ الله، والتطلّع إليه ورفع حاجات الشعب وطلباتهم صلاةً إليه، فمنه المشورة.

 

فالقضية ليست هل يُخطأ القائد أم لا؟ بل، هل له الجُرأة والنزاهةِ ليعترِف بخطأه ويُغيّر رؤيتهُ وتوجيهاتهِ. القيادة تتطلّب الجرأة في إتخاذ قرارتٍ أقرب ما تكون إلى المُغامرة، والتواضع للإعتراف بالخطأ عندما تفشل هذه القرارت.