موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
مقالات عن القيادة الراعوية في ظل جائحة كورونا: التواصل يعني الإصغاء
التواصل مع المؤمنين وقت الأزمة يتطلّب إذاً من القيادة الراعوية الوصول إليهم والحديث معهم فيسمعوا صوتَهم ويُصغوا إلى حاجاتهم

التواصل مع المؤمنين وقت الأزمة يتطلّب إذاً من القيادة الراعوية الوصول إليهم والحديث معهم فيسمعوا صوتَهم ويُصغوا إلى حاجاتهم

المطران بشار متي وردة :

 

المُقدمة

 

توفّر الخدمة الراعوية وقت السلم والرخاء فرصة اللقاء مع المؤمنين وجهًا لوجه، والتواصل معهم  على نحوٍ تلقائي من دون إجراءاتٍ احترازية، كتلكَ التي نختبرها مع جائحة كورونا. فالتواصل مع المؤمنين خلال الأزمة له سياقهُ الخاص، وهو يفتح المجال رحبًا أمام القيادة الراعوية لتكون خلاّقة في هذا المجال، وهذا الإبداع ممكن إن كان التواصل سليمًا بين مَن هم ملتزمون بالخدمة، القيادة الراعوية، مع مؤمنيهم الذين لهم حُرية اختيار التوّجه الذي تُشير إليه القيادة، فالقيادة المُبدعة لا تسلبُ الآخرين حُريتهم ولا تفترِض الطاعة العمياء من المؤمنين، وعندما نتحدّث عن كُتب التوراة الخمسة، نجدّ أنها مصدر لـ613 وصيّة، ومع كلِّ ذلك لا تفرضُ "الطّاعة"، بل، "السماع والإصغاء: "إسمع"، فالطاعة العمياء ليست فضيلة مسيحية، لأنَّ إلهنا يتطلّع إلى سماعنا وإصغاءنا وتأملّنا وتفهمّنا، ثم الإستجابة إلى كلمتهِ، فخيرٌ ما يُمكِن أن نُقدّمه للآخر هو: "أن نُصغي إليه"، لذا، دعا ربّنا يسوع الجموعَ ولأكثرِ من مرّةٍ: "مَن كانَ له أُذُنانِ تَسْمعان فَلْيَسمَعْ!" (مر 4: 9).

 

القيادة: لقاءٌ وتواصل

 

كشفَ لنا القديس لوقا في قصّة تلميذي عمّاوس (24: 13- 35) أنَّ موتُ ربّنا يسوع على الصليب ودفنهِ شكلَّ "أزمةَ إيمانٍ" مُحيّرة لدى جماعةِ الرُسل. فمن جهةٍ أخبرنَّ النسوةَ الرُسل أن رجلين كانا عند القبرِ قالا أنه: "حيٌّ"، ومن جهةٍ أخرى ليس لهما معه أيٌّ تواصلٍ. صحيح أنَّ ربّنا يسوع أخبرهم إذ كان في الجليل بكلِّ ما سيحصّل، إلاَّ أنهم لم يكونوا قادرين على إستيعابِ ما حصل، وتوقفت المسيرة وعادوا إلى حياتهم الأولى حاملين خيبةَ أملٍ مُحزِنةٍ. فجاءت إستجابةُ ربّنا يسوع متميّزة، فهو الراعي الذي يعتني برعيّتهِ، فذهبَ للقائهم حيثما هم ورافقهم مُصغياً إليهم أولاً، قبل أنَّ يتأمل معهم معاني التدبير الإلهي ويشرح لهم عن نفسه من الكُتب، الإصغاء قبل التوجيه والتعليم، وهذا الذي كان يفعلهُ مع الذين هم في أزمةٍ، فكان السؤال الأول له: "ماذا تُريد أن أعملَ لكَ؟" (لو 18: 41)، فحاجةُ الآخر أضحت أولويةً، ويُشير بذلك إلى دور الكنيسة في أهمّية الإصغاء إلى الآخرين والتعرّف على حاجاتهم التي يُعبّرون عنها بأشكالٍ مختلفةٍ، قبل البدء بتوجيههم وتعليمهم والوعظِ عليهم، فكثيرون هم القادة الذين يتكلّمون، ونادراً ما نجد قيادةٌ تحترِمُ الآخرين من خلال الإصغاء إليهم.

 

عندما نتأمل في طبيعةِ ومضمونِ ظهورات ربنّا يسوع، نكتشِف أن لكلِّ لقاء خصوصيةٌ ورسالة، لأنّ الربَ القائم من بين الأموات يعرِف أنّ لكلِّ إنسانٍ واقعٌ يختلِف عن غيره فظهرَ له وإلتقاهُ على نحوٍ متميّز، وحتّى أنّه تعامل مع شمعون بر يونا، بُطرس، على نحوٍ مُختلفٍ في لقاءٍ واحدٍ جمعهُ معه على شاطئ بُحيرة طبرية (يو 21: 1- 24). فما هو نافعٌ في هذا اللقاء ليس بالضرورة نافعاً في لقاءٍ آخر، وعلّم في كلِّ لقاء ما يحتاجُ الآخر تعلّمهُ.

 

الخدمة القيادية الراعوية تتطلّب هذا الشكلُ من الإصغاءِ المُتبادّل، من أجلِ أن يكون التواصلُ سليمًا وصحيحًا وصحيّا مع المؤمنين، لأنَّ أزمة جائحةُ كورونا، مثلها مثلُ أيّ أزمةٍ أُخرى، ليست أزمةً صحيّة أو إقتصادية أو إجتماعية فحسب، بل هي أزمةُ إيمان أيضاً: "أين هو الله من كلِّ هذا؟ كيف يسمح أن يحصل كلُّ هذا؟ ما الذنب الذي اقترفتهُ حتّى يُجازينا الله بهذا العقاب؟ لذا، تكوّن مهمّة خدمةُ القيادة الراعوية التركيز على الأهم وليس المُهِم لاسيما في وقت الأزمات، وفي فترة أزمةِ جائحةِ كورونا تكون حياة الناس وسلامتُهم أولويةً، فنحن لسنا شعبًا يحتقرُ الحياة على الأرض ويتطلّع إلى الحياة الأبدية سريعًا، فهذه مواقف الأصوليين المتطرفة، نحنٌ نؤمنٌ أنّ الله أوكلَ إلينا خدمةً على الأرض وعلينا أن نُحققها له. نحن كنيسةُ المسيح التي دعاها الله لتخدُم البُشرى السّارة، إنجيل ربّنا يسوع المسيح، وعلينا الإهتمامُ بصحةِ الناس وسلامةِ حياتهم كما فعلَ الرُسل الأوائل في الإهتمام باليتامى والأرامل والمعوزين لكي لا يبقى بينهم مُحتاجٌ (أع 2: 43-47)، والعمل على أن تكون معنوياتهم عالية ليكونوا مُستعدين لمواجهةِ الأزمة والعبورَ معاً بسلام، وهذا يتطلّب تعارفاً مُتبادَلاً بين الكنيسة والمؤمنين، فنجد أنَ بولس الرسول طلب من مؤمني كنيسة روما الإهتمام بشخصيّاتٍ يعرفهم بالإسم، ساعدت جماعةِ الإيمان وقت الحاجةِ، ويعرِفهم عن قُربٍ (روم 15: 1-15).

 

التواصل مع المؤمنين وقت الأزمة يتطلّب إذاً من القيادة الراعوية الوصول إليهم والحديث معهم فيسمعوا صوتَهم ويُصغوا إلى حاجاتهم، حتّى وإن كان إتمامها أعظم من إمكانيات الكنيسة المادية أحياناً. الرسائل التي تُرسل إلى المؤمنين عبرَ وسائل التواصل الاجتماعي مهمّة جداً ولها تأثيرٌ إيجابي في العلاقة الراعوية، ولكّن، الأفضل هو الحديث معهم عبرَ الهاتِف أو في لقاءات مُباشرة إذا سنحت للطرفين الفرصةَ لذلك. وسائل التواصل الإجتماعي رائعة في نقلِ المعلومات والتعريف بما يُريد الإنسان أن يعرفهُ، ولكنَّ هذا لا يعني أننا نتواصل مع الآخرين الذين لنا عناوينهم البريدية. يتطلّب التواصل تعارف الوجوهُ أولاً وتكون الوجوه مألوفةً، ومتى تأسس هذا اللقاء الأول، يكون التواصل عبر وسائل التواصل الإجتماعي ممكناً، فأحيانا تكون اللقاءات الجسدية صعبة، فيتم الإستعانة بالرسائل النصيّة، مع معرفتنا أن قراءة الرسالة عن بُعدٍ ليس لها فاعلية اللقاء الشخصي. سيكون صعباً بل مُحالاً أن تكون هناك علاقةً سليمة مُتبادَلة إذا لم يكن القائد عارفاً بشخصيّة الآخر وواقعِ حياتهِ حيثمُا هو.

 

"فأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْباً فَهِيماً لأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، لأَنَّهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ الْعَظِيمِ هَذَا؟" (1 مل 3: 9)، هذا كان طلبُ سليمان الملك من الله الذي وعده بأن يُعطي له كلَّ ما يرغبُ به قلبهُ، فلم يطلب لحياته سنينَ طويلة على الأرض أو إنتقاماً من أعداءه أوجاهٍ أو ثروةٍ، بل قلباً فهيماً (مُصغياً)، وكان له ذلك، فيُصغي إلى المشاعِر الصامتة خلفَ الكلماتِ التي لا تُقال من قبلِ المؤمنين، أو حتّى الكلمات التي نعتقد أنها ليست بذات الأهمية. من هنا نفهم دعوة الله لموسى الذي إحتجَّ على اختيار الله له ليقود الشعبَ خارجَ مصرَ: "لَسْتُ انَا صَاحِبَ كَلامٍ مُنْذُ امْسِ وَلا اوَّلِ مِنْ امْسِ وَلا مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ بَلْ انَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ" (خر 4: 10)، لأنَّ الله لم يكن بحاجةٍ الى قائدٍ له لسانٌ وكلامٌ، بل آذانٌ ليسمَع وقلبٌ ليُصغي.