موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الجمعة، ١٤ يونيو / حزيران ٢٠١٩
معاني الأحلام بين الأمس واليوم

المطران يوسف توما :

يعطي الانسان في جميع أطواره أهمية كبرى للأحلام، منذ القديم وحتى علماء عصرنا الحديث على السواء، والأسباب مختلفة، القدماء (ومنهم الشامان في أواسط آسيا والتيارات الإحيائية في أفريقيا) كانوا يرون في الأحلام وسيلة اتصال الانسان بالعالم الآخر، أما علماء عصرنا فيرون فيها مظهرا يكشف أعماق الشخصية الفردية. وليس هناك تناقض بين هذين الاعتبارين.

الحلم النبوي معروف في العديد من مجتمعات العصور القديمة، بما في ذلك السامية، كما يتضح من العهد القديم. كانوا في سومر يهتمون بالأحلام قبل 5000 سنة، وفي مصر القديمة قبل 4500 سنة. تشير النتائج الأثرية إلى أن المصريين في السلالة العاشرة اعتقدوا أن الحلم يمكن أن يكشف المستقبل ولجأوا إلى "مفاتيح الأحلام"، واعتُبروا أن الأحلام لا يمكن فهمها على الفور فاستخدموا فنا خاصا لتفسيرها. أما الإغريق فرأوا في الحلم رسالة إلهية، يرسلها الإله زيوس أو رؤى يمنحها أبولو لدلفي. بنيت على الأحلام أيضا ديانة أورفيا Orphism أو مدرسة فيثاغور، حيث يتم التواصل مع الجنة أثناء النوم فقط، أي حين تستيقظ الروح.

كما ارتبطت الأحلام بالديانات كوحي إلهي، فكان لدى سكان بلاد ما بين النهرين وملوك مصر متخصصون في تفسير الأحلام (تك 41: 8، ارميا 27: 9)، ويشير العهد القديم إلى أن بعض الإعلانات الالهية تمّت في بني إسرائيل عن طريق الأحلام فكشف الله وحيه لأشخاص معينين (أيوب 4: 12-21، ابن سيراخ 34: 6) أو حتى للوثنيين (تك 40 إلى 41، دانيال 4)، وإن تفهّم الأنبياء معاني الأحلام، إلا أنهم عدوها ثانوية للوحي، لذا لا يذكر العهد القديم شيئا منها منذ زمن سليمان الملك وحتى النبي زكريا، أي طوال العهد النبوي الكبير. وقد أحصى المفكر الفرنسي جاك ليغوف Le Goff (1924 - 2014) 43 حلما في العهد القديم و9 أحلام فقط في العهد الجديد الذي لم يذكر عن يسوع أي حلم، بل أشار إنجيل متى إلى أن يوسف زوج مريم رأى أحلاما مقارنة وإعلانا نموذجيًا يشبه فيها يوسف الآخر، ابن يعقوب في العهد القديم الذي خلص شعبه، هكذا يخلص يوسف كلا من مريم ويسوع أي يخلص العهد الجديد. كما هناك في أعمال الرسل ذكر لأحلام قليلة لدى بطرس أو بولس (أع 16: 9-10، 18: 9، 23: 11، 27: 23). أحلام يستعملها الله لتعزية رسوله وتشجيعه.

الأحلام في العصور الحديثة

تعد الأحلام اليوم مجموعة ظواهر نفسية تواجه أثناء النوم. وعند الاستيقاظ، غالبًا ما تكون ذاكرة الحلم غير مكتملة، وأحيانًا غير موجودة. مع ذلك، من الممكن استحضار ذكريات من بقايا الأحلام. ويلاحظ أن الأحلام الأكثر تفصيلاً تظهر خلال مراحل النوم المتأخرة، أي قبل الاستيقاظ بثواني، سميت تلك المرحلة بالنوم المتناقض le sommeil paradoxal، إلا أن علماء من الأكاديمية الأمريكية للطب والرابطة الدولية لدراسة الأحلام في عام 1999 عدّوا النوم المتناقض غير معادل للأحلام. لذا يختلف التعريف الدقيق للحلم بين من يحلم وبين ما تقوله العلماء أو الثقافات. لذا تم الاتفاق على عدم استخدام مصطلح الحلم، والاستعاضة عنه بـ "النشاط العقلي المرتبط بالنوم". إنه فعلا نشاط عقلي واعي وواضح بمثابة تحفيز ذاتي للدماغ المنفصل عن العالم الخارجي أثناء النوم العميق.

الأحلام إذن حالة غريبة تلعب فيها العواطف أهمية كذلك رؤية الصور

هكذا تغيرت النظرة على أحلامنا في العصر الحديث فصارت تعني أمورا أخرى غير دينية، إذ ربطت باللاوعي لدينا كأفراد. وبعد اكتشاف الأجهزة التي سمحت بقراءة ما يحدث في أدمغتنا، تبيّن أن الكل يحلم، سواء تذكرنا أم لم نتذكر، فالأحلام تحدث خصوصا في مرحلة من النوم لدى الجميع عند الدخول في حالة تسمى "رقصة البؤبؤ" أو "حركة العين السريعة" REM. وحدوث ذلك طبيعي جدا، وهو غير واع، قد يصل إلى ست مرات في الليلة الواحدة لدى البالغين. مع ذلك، وعلى الرغم من انتشار الأحلام، فإن قلة قليلة من الناس تعرف ماذا تعني أحلامهم. بالرغم من كون تفسير الأحلام يقع في اهتمام جميع الشعوب وعد بمثابة فن قائم بذاته. لكن، الأمور اختلفت بفضل الباحثين الجدد من ذوي الخبرة الجيدة الذين دخلوا هذا المضمار، ظهر اليوم علم جديد هدفه خلق فهم جماعي لما نراه جميعًا كل ليلة.

يمكننا أن نسرد بضع أمثلة على ما حصلنا عليه من هذا العلم وما تعنيه بعض الأحلام الشائعة:

- شيء ما مفقود من الماضي: عندما نبحث عن أشخاص في أحلامنا، فذلك يعني أننا نحاول إعادة الاتصال بجوانب مفقودة من هويتنا الخاصة ونشعر أننا فقدنا الاتصال بتلك الهوية.

- التوجس والتخوف من الجديد: إذا ما رأيت شخصا غريبا في منامك، فذلك يعني وجود جزء غير معروف أو غامض لديك من شخصيتك. وإذا ما واجهتك مثل تلك المواقف اليومية، سيظهر ذلك التوجس في أحلامك، وكلما ازداد شعورك بالخوف في الحلم، سيعني ذلك زيادة مخاوفك من حدوث أي تغيير في حياتك العادية.

- عندما تتشبث بمسألة ما: من المحتمل أننا شعرنا جميعًا بإحساس بالسقوط في أحلامنا (في فترة المراهقة خصوصا). هذا يكشف أن لدينا حاجة إلى إحكام قبضتنا والتشبث على أمر ما، إلا أن العكس قد يكون هو الصحيح، فبدلاً من ذلك، قد يشير هذا النوع من الأحلام إلى كوننا متعلقين بشدة بموقف معين في حياة اليقظة، فيقوم العقل الباطن بإخبارنا بضرورة الاسترخاء وترك الأمور وعدم العناد والإصرار بما لا فائدة منه، إن عقلنا منطقي حقا!

- تشعر بأنك منقوص أو عاجز عن الوصول إلى ما هو آخر ومختلف: على الرغم من غرابة الأمر، إلا أن الحلم ببتر الأعضاء أو الأطراف قد يكون أمرا عاديا وشائعا، وقد يشير إلى الشعور بالضعف وعدم القدرة على الحركة. فإذا فقدت قدميك في الحلم، فذلك يشير إلى عدم قدرتك على الاستمرار بالسير في طريقك. وإذا فقدت ساقا بأكمله أو كلا الساقين، فلذلك علاقة بالتوقف التام في مسارك وانسداد الطريق بوجهك.

- عندما تحلم أنك فقدت هويتك أو جوازك: في المنام، قد يكشف الحلم لك بالفعل أنك تفقد عقلك. ووفقا للباحثين، إن هذا علامة على الإرهاق والتعب والرغبة بالقضاء على تفكير معيّن أو الشعور بفقد جزء من شخصيتك.

- الاستعداد للتنازل أو التخلي عن شيء ما: لا بد أن سبق لك وواجهت فكرة الموت في منامك وشعرت بنوع من الراحة والسلام مع تلك الفكرة. هذا يدل على أنك "تربط" في مشاعرك بين أمور قديمة وأحداث جديدة. ويمكن أن يكون لديك أمر ما أنت على استعداد للتخلي عنه بالرغم من كونك تعتبره ضرورة قصوى إلا أن نداء التخلي يكون أكثر الحاحا.

- قد لا تكون مستعدا للتخلي عن شيء ما: بعكس ما جاء في الفقرة السابقة، إذا كنت تشعر بألم شديد أو فزع من فكرة الموت في حلمك، هذا يعني أنك حتى الآن لم تحسب أن عليك قبول فكرة التجرد والتخلي عن كل شيء ولم تتذوّق راحة الترك بعدُ.

- قد تحتاج إلى التدرب على ترك شيء ما: إضافة إلى ما قلنا أعلاه من مساومة مع التعلق والترك، إذا كنت تحلم بالحاجة إلى استخدام الحمام في أحلامك، فقد يدل ذلك على أنك تريد حقا أن تتخلص من كل ما يقرفك كي يخرج من حياتك. إن الحمام يرمز أساسا إلى ضرورة التحرّر والتخلص من شيء ما، وقد يشير أيضا إلى الرغبة بالإفصاح عن شيء ما تجاه شخص يقيّدك.

- قد تحتاج بكل بساطة إلى التبوّل: عندما تحتاج فعلاً إلى القيام للمرحاض، ستنبهك أحلامك إلى ذلك من خلال رؤية صور الماء، أو ستجد نفسك تبحث عن حمام من دون جدوى.

- أنت على استعداد للعمل من أجل تحقيق هدف أو إنجاز معين: إذا كنت تحلم بأنك تتسلق جبلا أو مرتفعا ما، وتشعر بالتعب وتبذل جهدًا مع كل خطوة، قد يكون هذا إشارة إلى أنك شخص يحب التحدّي وتجاوز الذات، فهي فرصة للقيام برحلة ما، وإن كانت صعبة، لكنها ستعدك بالمكافأة في نهاية المطاف.

هكذا تكشف لنا دراسة الأحلام منذ العصور القديمة، أي مذ وجدت لها آثار على الألواح الحجرية في سومر ومصر كأقدم حضارات عرفتها البشرية، ومنذ اعتقدت بعض الشعوب القديمة كالإغريق أن الأحلام هبة من الآلهة لكشف معلومات للبشر وزرع رسالة معينة في عقل الشخص النائم، إلا أن الاكتشافات الحديثة قالت إن الأحلام إنما تكشف ما فينا لنا، وهذا لا يزال عالما خفيا وسريا، يحتاج إلى من يساعدنا على فهمه، إذ به بدأت كل فلسفة منذ قرأ سقراط ما كتب على رتاج معبد "دلف" في اليونان، فسقراط، الرجل الحر، فهم ما مفاده: لا أحد يستطيع التفكير في مكانك، لا أحد يستطيع أن يتفلسف عوضا عنك، لا أحد يستطيع أن يقرّر ماذا يكون مفهومك عن الوجود في مكانك، لا تسأل فقط عن معارف البشر لكن ماذا تعرف أنت، ضميرك، وعيك، تساؤلاتك، واليوم بفضل ما تم اكتشافه في عالم الأحلام يمكنك حتى أن تستشير أحلامك لتعرف ماذا يسكن في اللاوعي لديك...