موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
عظة رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الثلاثين من الزمن العادي، السنة أ

رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا :

 

(متى ٢٢: ٣٤-٤٠)

 

ما زلنا في سياق الجدل الحاد الدائر بين الفريسيين ومعلمي الشريعة من ناحية ويسوع من ناحية أخرى. يحاول الفريسيون بطرق وبأسئلة مختلفة وضع يسوع تحت الاختبار، لإحراجه والإيقاع به، فيجدوا سبباً لاتهامه وتقديمه للمحاكمة.

 

في المقطع الإنجيلي لهذا الأحد (متى ٢٢: ٣٤-٤٠) يدور الجدل مرة أخرى حول تفسير التوراة. والسؤال يتعلق، بشكل أكثر تحديدًا، بالوصايا: ما هي الوصية الكبرى؟

 

نفهم أن وراء السؤال المطروح تكمن فكرة لاهوتية متكاملة مفادها أن هناك، بين جميع الوصايا الموجودة في الشريعة، تبرز وصية واحدة مهمة، وصية "عظيمة" على وجه التحديد. والى جانبها وصايا كثيرة أقل أهمية، وأقل عظمة من الأولى.

 

والوصية العظمى، بالطبع، لا يمكن أن تكون غير تلك المتعلقة بالربّ، الإله الواحد، الذي على الإنسان أن يُحبَّه من كلّ ذاته، أولاً وقبل كل شيء. وبمجرد أن يحافظ الإنسان على جوهر الشريعة، يمكنه أن يشعر براحة الضمير.

 

لا ينكر يسوع هذه الرؤية اللاهوتية للأشياء، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ويغيّر المقياس.

 

من الواضح أن الربّ واحد ولا مثيل له، وأنه يجب أن يكون محبوبًا فوق كل شيء. لكن هذا التعليم غير كامل. محبة الله ليست الوصية العظمى الوحيدة. هناك وصية عظيمة أخرى، وليس من قبيل المصادفة أن يعرّفها يسوع بأنها "مشابهةً" للوصية الأولى (متى ٢٢: ٣٩). وهذه الوصية الأخرى لا تخص الربّ، بل القريب.

 

وهي مشابهة للأولى لكونها مهمة بنفس القدر، ولأنها تحتوي على نفس المضمون أي المحبة.

 

لذلك يمكننا القول إن الوصية العظمى ليست وصية واحدة بل وصيتين، ويبدو الأمر كما لو أن الوصية الأولى غير كاملة في حد ذاتها.

 

هذا يعني أنه لا يكفي أن نحب الربّ وحده.  لو كان المطلب كذلك لبسط الأمر، لأن كل شيء سيكون مركّزًا على العبادة والصلاة والمحافظة على بعض الوصايا مثل وصية السبت.

 

غير أنه لا يكفي أن نعيش واجب محبة الربّ، دون أن نفعل الشيء ذاته للقريب.

 

يطلب الربّ أن تتم المحبة الأخوية بنفس القدر وبنفس الاحترام الذي يكنه الإنسان لله: كلاهما وصيتان، لذلك لا يمكن القول إن محبة الربّ هي وصية، بينما محبة الآخر هي مجرد موعظة، أو نصيحة.

 

إنّ ما يقوله يسوع، ليس أمرا اختيارياً، متروكاً للإحساس الشخصي، وللثقافة، ولقدرات كل فرد: كلاّ، بل إنّه وصية تخصّ الجميع.

 

في الواقع، لا يقبل الربّ محبة مقدّمة له لا تصبح في ذات الوقت محبة مقدمة للآخر، للأخ.

 

إن كانت هذه الوصية هي في المنزلة الثانية، فليس لكونها أقل أهمية، بل لأنها مشتقة بطريقة ما من الوصية الأولى: ينبع الحبّ للآخر من علاقة حقيقية مع الربّ، من الإصغاء الصادق، من طريقة صحيحة لعيش العبادة وحفظ الشريعة. أولئك الذين يحبّون الرب لا يستطيعون سوى أن يحبّوا قريبهم.

 

في فصل يسبق الفصل الذي نقرأه اليوم من إنجيل متى (متى ١٥: ١-٩)، يوجه الفريسيون والكتبة ليسوع ذما عنيفًا، ويوبّخونه لأن تلاميذه خالفوا التقاليد، وأكلوا دون غسل أيديهم.

 

ولكن في ردّه، يقول يسوع: "وأما أنتم فتقولون: من قال لأبيه أو أمه: كل شيء قد أساعدك به جعلته قربانا، فلن يلزمه أن يكرم أباه" (متى ١٥: ٥-٦). أي أنه يوبخهم لوقوعهم في وهم التفكير أن محبة الربّ هي بطريقة ما أمر مطلق يستبعد محبة القريب، وأن هناك حبًا للرب لا يمرّ بمحبّة القريب.

 

إن الذين يدّعون أنهم يحبون الرب فقط، ويتذرعون بذلك كي لا يوسّخوا أيديهم، يتوصلون، في نهاية المطاف، إلى عدم محبة أي شخص، لا الربّ، ولا القريب، بل أنفسهم، بطريقة مَرَضِيّة، منغلقين داخل أنانيّتهم.

 

وفي الفصل ٢٥ يذهب يسوع أبعد من ذلك، (متى ٢٥: ٣١-٤٥)، ويؤكد في مثل الدينونة الأخيرة أن كلّ مَن أحبّ أخاه مجّاناً، فهو يُحبّ الرب بكل تأكيد، لأن الوصيتين هما فعلا وصيّة واحدة عظمى.