موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
د. ميشال عبس يوجه رسالة مع بدء مهمته أمينًا عامًا لمجلس كنائس الشرق الأوسط

بيروت :

 

أصحاب القداسّة والغبطة والسيادة، حضرات القساوسة الجزيلي الاحترام والغزيري المحبّة،

قُدس الآباء الأجلّاء،

السيّدات والسادّة الذين شاركونا اليوم المسكونيّ في بكركي في 18 أيلول 2020،

الزميلات والزملاء في مجلس كنائس الشرق الاوسط،

 

لقد شرّفني صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر يازجي بتقديره وغَمَرني بمحبّته فكلّفني ورشّحني،

 

وقد غمَرتمونا بتقديركم ومحبّتكم بقبول التكليف،

 

فالمسؤوليّة عندي كانت وما برحت وستبقى تكليفًا نُساءل من بعده ماذا فعلنا بالوزنات، والوزنات عزيزة  تمرُّ بمرحلة تاريخيّة فيها من المخاطر ما لا سابق له،

 

هذه المؤسّسة التي أوليتموني أمانتها هي منّي وانا منها، اذ فيها كوَّنت أهمّ جزء من كياني، الجزء المتعلّق بالإيثار ومحبّة الآخر وخدمته حتى النهاية، وكان ذلك تجسيدًا لما تربّيت عليه وتعلّمتُه في بيتي ومدرستي وجامعتي.

 

الموعظة على الجبل تَسكُنني منذ نعومة أظفاري، مذ حفظناها في مدرسة البشارة الارثوذكسيّة حيث كان دليلنا الى التربيّة المسيحيّة، عبر مادة "الدينيات"، سلسلة كتب "التعليم القويم" القيّمة. ليس أهمّ من المدرسة في بناء الإيمان و تشييد منظومة القيَم. النبْتُ الصالح ينمو بالعناية - أما الشوك فينمو بالإهمال. وما بعد الأسرة والمدرسة تتكفّل الجامعة ببناء الإنسان. في جامعتي، جامعة القديس يوسف في بيروت، تتجسّد الخدمة المسيحيّة في تحضير الناس الى الحياة المهنيّة وتأتي الاخلاقيات البحثيّة و المهنيّة أولًا. منها نهَلتُ معرفة وعٍلمًا وقيما.

 

هذا المجلس عزيز لما هو، وعزيز لما لي فيه، عقدٌ من العمل الكثيف وعقودٌ من المتابعة والصداقة والالتزام. إنّه، كما أسمّيه دائمًا، المكان الأفضل للعمل المسيحي الجماعي Christian Togetherness

 

أو العمل المشترك. إنه المكان الذي يمكن أنّ تُحقِّق عبرَه الكنائس مُجتمِعة ما لا يمكنها تحقيقه منفردة، لذلك استمراره و مؤازرته و دعمه تشكّل كلّها أولويّة إيمانيّة لا جدل حولها.

 

إنما في الواقع، هذا المجلس هو مؤسّسة وله من المعاناة ما تعانيه المؤسّسات وعليه ان يواجه من التحدّيات ما تواجهه المؤسّسات، لذلك تحتاج بُناه وأولويّات عمله الى تحديث مستدام كي يواكب التطورات التي تجري في محيطه وكي يستطيع الاضطلاع بالمهام الجسام المناطة به، أي العمل المسكونيّ في خدمة الحضور المسيحي، وتعميم الثقافة المسكونيّة وتجسيدها في مشاريع شتى، بحسب قدرة القيّمين عليه على الريادة والابتكار والابداع وتأمين التمويل.

 

نحن في عصر المعرفة، حيث أصبحت المعرفة والمعلومة هي المورد الأثمن، وحيث تُدار المؤسّسات والمنشآت بواسطة المعرفة، لذلك سيتحوّل المجلس الى مجتمع معرفة، الى حالة معرفيّة في تفاعله مع مكوّناته المؤسّسية كما في تفاعله مع مختلف مؤسّسات الكنائس، معتمدين وسائل شتّى منها تقنيات التواصل الحديثة التي تسهّل تحقيق هكذا أهداف.

 

نحن في عصر الحوكمة، لذلك لا بُدّ من مؤسّسات المجلس أن تعمل وفق مَنطِق الحوكمة. للكل أنّ يقول كلمته، ولكلّ من الشركاء صوته، مما يعني أنّ منطق أخد القرار سيكون عبرَ الحوكمة والمشاركة وعلى كل المستويات.

 

نحن في عصر إدارة الجودة حيث تتسابق مؤسّسات المعمورة الى خطب ودّ الجودة التي أثبتت فاعليتها في تحسين بُنى المؤسّسات وتطوير وسائل عملها وتحسين إنتاجيتها. لذلك لا بد للمجلس من البدء بمسيرته نحو إدارة الجودة علمًا أنّ بُناه وذهنية العاملين فيه مؤهلة لذلك.

 

نحن في عصر الإدارة الاستراتيجيّة للموارد الانسانيّة، لذلك لا بدّ من متابعة المسيرة التي بدأت في هذا الاتجاه: إرساء قواعد الإدارة العِلميّة للموارد الانسانيّة من أجل رفع إنتاجيتها وتأمين عدالة أفضل في التعامل معها. في هذا السياق لا بدّ لكنائسنا من أن ترفدنا بمواردها الإنسانيّة و كفاءاتها إمّا للاستخدام حين تشغر وظائف وإمّا لتعيين أعضاءٍ للجان الدوائر والأقسام أو لتكوين مجموعات التفكير المشترك لمواضيع مستجدّة يريد المجلس أنّ يتعامل معها Think Tanks

 

لكنّنا في زمن التحولات الكبرى حيث يشهد العصر أحداثًا جسام من شأنها تغيير وجه البشريّة. الخطب جَلل و"على الكتف حمّال" كما يذهب القول الشعبي، فهل سنكون على مستوى التحدّيات؟ التاريخ لا يرحم، وهو لا يسجّل الأماني و النوايا بل الوقائع و الأفعال، و دَرَجَ أنّ يكتبه المنتصرون. فهل سنكون نحن منهم؟

 

أمّا التحدّي الأكبر و الأساس الذي نواجهه فيكمُن في صيانة الوجود المسيحي في منطقتنا، على مختلف مسمّياتها، وكل ما أسلفتُه يصبّ في هذا الهدف - التحدّي الذي لا يحتمل لا التأويل و لا الجدل. ولكن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلّا عبر تعاون كنيسة المسيح مع بعضها البعض. نحن في المجلس موئل ومعقل التعاون المسيحي، نحن مؤسّسة الـ Interchurch  والعمل المشترك. هناك حقول كثيرة غير مزروعة بين الكنائس نحن مدعوون لتحويلها الى أماكن خصيبة حيث تنمو التجارب المشتركة والتناضج فتتحوّل هذه الأماكن الى مساحات محبّة و معرفة.

 

الحفاظ على أهلنا في أرضهم، حيث هُمّ منذ أكثر من الفين، يحتاج الى جهود جبّارة خارجة عن المألوف، تستوجب اعتماد وسائل جديدة على مستوى التحدّيات ونحن مدعوون أنّ نكون لها.

 

إنّ التجدّد الروحي والتربية والثقافة المسيحيّة هي أدوات اساسيّة للصمود والبقاء. لكن للحياة أبعاد ماديّة أيضًا لا يمكن تجاهلها ولا بدّ من التعامل معها مثل التأهيل المهنيّ والسكن والعناية الصحيّة و التعليم.

 

لا أدّعي أن على الكنيسة الحلول مكان الدولة وملئ فراغها في منطقتنا، لكني أشهد فقط أنّ الكنيسة شكّلت شبكة الأمان عندما انهارت الدولة وتفكّك المجتمع في لبنان، وتجربتي الشخصيّة في هذا المجال تنبئني بذلك.

 

إنّ أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على المجموعات البشريّة الحيّة، فلا يكون لها خلاص منها إلّا بالإيمان المدَعَّم بالخدمة لأنّ الحياة مادّة وروح.

 

على الرغم من صعوبة الزمن الحالي وعلى الرغم من الأزمات التي تعصِف بنا، أن نكون واحدًا هو الحلّ. إمّا أن نكون رُزمة متراصّة فلا يقوى أحد على كسرنا، و إمّا ان نكون شراذم فنُكسَر عودًا عودًا. و ما أوردِه بالنسبة الى المسيحيين ينطبق على الوطن.

 

لقد أثبت التاريخ ودراسات العلم - اجتماعيّة أنّ القيَم التي ينضَحُ بها إيماننا هي التي كانت وراء نهضة البشريّة وتقدّمها العلميّ، وهي التي كانت وراء اختراع المدرسة والجامعة والبحث العلمي والخدمة الاجتماعيّة ومظاهر الحضارة كافّة، لذلك عندي يقين راسخ أنّ هذه الكرمة التي زرعها الربّ منذ الفين ستستمر بالنمو لتشمل مساحات أكبر من هذا الكون.

 

إنّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها!