موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢ يونيو / حزيران ٢٠٢٠
د. سامي باشا يكتب من إيطاليا: كورونا ومؤسسات التعليم العالي!
"لا يمكن للجامعات أن تصبح كالمستشفيات التي تعالج الأصحاء وتترك المرضى خارجًا"
د. سامي باشا، رئيس مؤسسة الجامعة الأمريكية في صقلية – إيطاليا، أستاذ العلوم التربوية

د. سامي باشا، رئيس مؤسسة الجامعة الأمريكية في صقلية – إيطاليا، أستاذ العلوم التربوية

د. سامي باشا :

 

منذ أكثر من شهرين بدأت بالبحث والدراسة وعقد ورشات العمل الدولية التي شارك فيها أكثر من 100 جامعة من 47 دولة ومن 50 جامعة دولية، لفهم ما يدور في أروقة معاهد ومؤسسات التعليم العالي في جميع أنحاء المعمورة، وها أنا اليوم قررت أن أشارك وأدلو بما لدي من معلومات وخبرات ونصائح قد تكون جزءًا من عهد جديد مليء بالتحديات والمصاعب، لكن في نفس الوقت يحمل معه رياح تغيير إيجابية لا بدّ من التعامل معها لمواجهة المرحلة القادمة والحتمية.

 

أنا شخص يقدر جدًا فرصة الحوار البنّاء حول القضايا التي تهمنا جميعًا، وخصوصًا في هذه الفترة التي نعتبرها تحديًا كبيرًا على المستوى المحلي والإقليمي والدولي... فلا يمكننا بعد الكورونا أن نعود إلى "القديم الطبيعي"، أو ما كنا نسميه طبيعي. نناقش اليوم قضية التعليم العالي ومؤسساته التي يمكن أن نسميها بالمؤسسات الجريحة، ولا أحد ينكر أن جميع هذه المؤسسات تعيش "الهلوسة اللاارادية" وخصوصًا بسبب جروحها الكثيرة المرتبطة بعدم انتظام العملية التعليمية التعلمية والتخوفات وعدم الوضوح ولا نعلم الى متى يمكن أن تستمر هذه الحالة.

 

ولكوني إيجابيًا، أودّ أن أطرح سؤالاً يمكن نقاشه والتعمق به من خلال هذه المشاركة وهذا السؤال هو: هل يمكن تحويل هشاشة وضعف وعطب التعليم في هذه الأزمة إلى فرص جديدة للنهوض بما نقصد بالتعليم العالي؟ الجواب أعتقد: نعم. ففي هذا الوقت الضائع يمكن أن يصبح التعليم العالي واعدًا، وخصوصًا أن الأزمة كشفت هذه الصفات في كثير من مناحي هذه المؤسسات التعليمية.

 

ولكي أبني موقفي على بيانات علمية، أود تسليط الضوء على الكثير من الدراسات الحديثة التي تبين بأن هذه الأزمة زادت من تدني مستوى تساوي الفرص وخصوصًا للذين كانوا يعانون سابقًا، وخصوصًا في البلدان الهشة التي لا تتوفر فيها المصادر والإمكانية اللازمة. أضف إلى ذلك بأن نسبة 10% من الطلبة ليس لديهم طاولة يدرسون عليها. وتعيش نسبة كبيرة من الطلبة في أماكن مزدحمة دون توفر أجهزة حاسوب وأي أجهزة الكترونية. وبالتالي إذا أهملنا هذه الفئات تصبح مؤسسات التعليم العالي مستشفيات تعالج الأصحاء وتترك المرضى خارجًا.

 

أضف إلى ذلك بأن هناك نسبًا عالية جدًا من الأكاديميين ليس لديهم المهارات الإلكترونية، ويتم استخدام هذه التكنولوجيا لسكب المعلومات فيها دون الاستفادة من الفرص الكثيرة التي توفرها هذه التكنولوجيا، بالإضافة إلى شعور بالوحدة لدى الكثير من الأكاديميين فهم متروكون للقدر امام تكنولوجيا لا يستخدمونها بالشكل الصحيح.

 

وبالتالي فنحن بحاجة لتوازن في استخدام هذه التكنولوجيا، والحوار المستمر مع جهات مختلفة وخصوصا اصحاب القرار وهذا ما يجعل للموضوع أهمية كبيرة. ولكي أتمكن من الدخول بعمق أكثر والى صلب الموضوع دعوني اسرد بعض النقاط الهامة وأشاركها معكم:

 

(1) أعتقد أننا لم نستثمر في بناء علاقة ثقة ما بين الأكاديمي والطلبة سابقا. واليوم نعاني لأن العلاقة كانت فقط علاقة محاضر/علامة/شهادة ولقب.

 

(2) أنا شخصيا أثق جدا بفئة الشباب، وهم على معرفة أعمق حول طبيعة أسلوب التعلم الأفضل بالنسبة لديهم، وبالتالي وللتمكن من إعادة نسيج الجرح، توجب المشاركة والحوار معهم كقاعدة أساسية لإنجاح التعليم عن بعد. وبالتالي يمكن لهذه الفترة ان تكون فرصة ذهبية لتمكين وترسيخ هذه الممارسة التشاركية بين المؤسسات التعليمية مع الطلبة.

 

(3) هناك الكثير من الجامعات التي عملت بطريقة رائعة جدا لاستمرار التواصل مع الطلبة وأثبتت هذه المرحلة أن الأكاديمي نفسه أهم من البيئة التعليمة نفسها. وبالتالي توجب إعادة الدور القيادي للأكاديمي وإخراجه من الأنظمة البيروقراطية التي تقلل من قيمته كباحث وناشط وتجعله موظف ينتظر معاش اخر الشهر. (نعيد النظر بمن هم الأكاديميون وهل كل من يحمل درجة الدكتوراة يستطيع أن يعلم بالجامعة ويحمل معه المهارات البيداغوجية أو التربوية؟) اسئلة مشروعة توجب طرحها!

 

(4) انا أستاذ في العلوم التربوية ومتخصص في وضع الشباب بشكل عام، وأمضيت الكثير من وقتي في دراسة أهمية العلاقة التي يمكنها ان تحدد البيئة التعليمية التفاعلية الصحيحة. فالطلبة لا يريدون أن يكونوا مُراقَبُين بل مُرافَقين. وهذا ما يخلق الفرق بين بيئة صحية للشباب وبيئة مرعبة ومحبطة لهم. الحوار هو من اهم قواعد العلاقة التعليمية، ويجب ان تستمر حتى من خلال التعليم عن بعد. فمن هنا أدعو لنعتبرها مرحلة اكتشاف جديد لطلبتنا ولقدراتهم في الإبحار في عالم التكنولوجيا، ويمكن أن يفاجئونا في قدراتهم وامكانياتهم. يمكن أن تكون فرصة لنا لرفع مستوى المنطق التشاركي في التعلم.

 

(5) تحدي التعليم والتعلم هو ليس بشيء جديد، لكن ما حصل وبسرعة كشف الوضع الحقيقي للعملية التعليمية في الجامعات وكشف أوراق كثيرة توجب التعامل معها وبجدية وبمصارحة.... فالتعليم والتعلم هما عمليتان جديتان تعيدنا الى الوراء قليلا ونتساءل: لما وجدت الجامعات والتعليم العالي في مجتمعاتنا العربية؟ هل من اجل الحصول على الشهادات ام من اجل توسيع افق المعرفة وتطوير مهارات وقدرات الأفراد للتمكن من الإنتاج لصالح الإنسانية وبناء المواطن الصالح.

 

(6) بالإضافة إلى ذلك، تُوَفْر الجامعات بوابة مهمة لممارسة الديمقراطية. وتعطي شكلا من أشكال السلطة الديمقراطية للمواطنين؟ وكلما قمنا بتجريد هذه المؤسسات الوسيطة، كلما أصبحت مجتمعاتنا تفردًا والسلطات أكثر تحكما". ومهما كان الجديد يجب أن يحكم عليه من هذا المنظور! وذلك حفاظا على هيبة مؤسسات التعليم العالي ودورها في صقل شخصية شبيبة المستقبل الواعد.

 

(7) الأكاديمي ليس الهة معرفة انما مسهل لعملية التفاعل ما بين المتعلم والمعرفة، والناتج هو التعلم. هذه قناعات أساسية لإنجاح عملية التعلم عن بعد. وبعيدا عن طرح أساليب جديدة نريد توجهات وقناعات بيداغوجية عاملة ومؤثرة. من هنا نقول بأن البيداغوجية هي من يدير التعليم والتعلم وليست التكنولوجيا سوى وسيلة لذلك. فمن الضروري توزيع المهام وعدم احتكار المنصة، فالتشاركية في التعلم تزيد من دافعية الطلبة، وترفع مستوى انتمائهم للبيئة الجديدة. انها خطوة نحو زيادة ورفع مستوى الثقة الممنوحة للطلبة من خلال التواجد الفعلي واشراكهم في عملية التخطيط وتزويدهم بالمواد وبسخاء دون التردد.

 

وبما أن التعليم الإلكتروني ليس بشيء جديد، فنحن نحتاج للوقت والتدريب للتعرف على ما يمكن أن يقدمه لنا من خدمات وتوسيع آفاق معرفتنا، وهناك تكلفة عالية وخصوصا في الحصول على المعلومات والاشتراكات في برامج التواصل وبالتالي توجب اشراك أصحاب القرار. من هنا توجب فتح اعيننا على الفروق الفردية بين الطلبة، ليس من ناحية القدرات والمهارات، انما من ناحية توفر الإمكانية اللازمة للمشاركة.

 

(8) المشكلة تكمن أيضا بأن المناهج والخطط الدراسية أصبحت كالعقيدة في الجامعات ولا يمكن تغييرها. ويمكن أن تتهم بالخيانة إذا حاولت الإجابة على بعض الأسئلة الخاصة بفعاليتها. كثرت البرامج والمسميات وكثرة الجامعات التعليمية (شهادات ومن ثم شهادات وألقاب وضمائر مرفوعة ومكسورة) وابتعدنا عن صلب هدف التعليم العالي، وأصبحت الجامعات ربحية بتميز دون التركيز على جودة الناتج ومتابعته.

 

(9) عملت سابقا كمستشار لمؤسسة الأميديست في عدة مجالات وكان أهمها في خلق الطاولات المستديرة الإفتراضية (Round tables)، ولهذه الفرص مزايا كثيرة وخصوصا في خلق مساحات تشاركية ما بين الأكاديميين وخصوصا من نفس التخصصات لنقاس المواضيع المختلفة في كيفية مواجهة المرحلة. ومن هنا أعتقد بأنه من الهام جدا إيجاد الفرص مع الزملاء للتشارك بما لا نجد له حلولا ونواجهه يوميا.

 

أعتقد، ان رواية غسان كنفاني حول ابن الملك الذي طلب منه أن يُدخِل الشمس الى عقر دار الولاية، يناسب وضعنا الحالي، حيث توجب هدم الأسوار التي تحيط بنا وتبقينا في كثير من الأحيان بعيدين عن حرارة العلاقة المهنية الإنسانية مع الطلبة ومع المجتمع الذي نعيش به حتى عن بعد. فلنبدأ بهدم جزء من هذه الأسوار التي تحيط وتمنع التقدم الى الأمام.

 

أود أن أنهي بجملة تنبؤيه أخيرة: اعتقد انه من الحكمة أن تسارع مؤسسات التعليم العالي لعقد اتفاقيات مع المؤسسات التكنولوجية الكبيرة: جوجل ومايكروسوف وغيرها لأن هذا هو العالم الجديد. وبالرغم انني من مؤيدي ومحبي المحاضرات الشخصية التفاعلية وجها لوجه الا أن الجامعة الحقيقية التي تواجدت بين ايدينا منذ فترة طويلة (الأيفون) لا نستطيع أن نتجاهل وجودها بعد الآن.