موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
خاص أبونا | أميل أمين يكتب: الردّ المكين على فريّة "رؤية البابا للمِثليّين"

إميل أمين :

 

بسرعة شديدة، وكما تنتشر النار في الهشيم، انتشرت في الأجواء اﻹعلاميّة خلال اﻷيّام والساعات الماضية أنباء حتمًا منحولة، موصولةٌ بفيلم وثائقيّ عن البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة، وادّعاءات من حول رؤيته للأشخاص المثليّي الجنس، وحقّهم في تكوين أسرة باعتبارهم أبناء الربّ بحسب النصوص اﻹعلاميّة مُنبَتّة المصدر.

 

ولعلّ التساؤل الجوهريّ بين يدَيْ هذا المشهد والقريب والوثيق بل اللصيق بِـ"حديث اﻹفك"، هل يمكن لحبر رومانيّ أعظم أن يتفوّه بمثل هذه الكلمات المنافية والمجافية للإيمان المسيحيّ عامّة وللعقيدة الكاثوليكيّة على نحو خاصّ؟

 

غالب اﻷمر أنّنا أمام فصل جديد من فصول الزّيْف الإعلاميّ الذي عهدناه، لاسيّما من قِبَل الدوائر الإعلاميّة النيوليبراليّة في الداخل الأمريكيّ، والتي رأتْ في فرنسيس عدوًّا أكبر للرأسماليّة ولحرّيّة السوق، ولتسليع اﻹنسان، وصل الأمر حدَّ اتّهامِه بأنه بابا شيوعيّ، وقد بلغت الفجاجة بأحدهم ذات مرّة أن سأله: "هل أنت كاثوليكيّ؟" فما كان من فرنسيس سوى أن أجابه بابتسامة تنمّ عن طيبة قلب: "يمكنني أن أتلو قانون اﻹيمان".


 

يعنّ لنا أوّل الأمر أن نتساءل: "ما هي نظرة ورؤية الكنيسة الكاثوليكيّة لفكرة المِثليّة الجنسيّة؟

 

من غير إغراق في تفصيلات لا تهمّ سوى علماء اللاهوت وخبراء الأخلاقيّات والنواميس اﻹلهيّة، يمكن القطع بأنّ الكنيسة الكاثوليكيّة في كلّ بقاع المسكونة وعبر القارّات الستّ، تعلم وتهذب بالرفض القاطع لمثل هذا الاندماج بين المثليّين، ولا تعتبره أبدًا زواجًا بحال من اﻷحوال، بل ترى فيه فسادًا خطيرًا، وانحرافًا يتعارض مع الشريعة والطبيعة على حدٍّ سواء، لا سيّما وأنّ الفعل هنا لا يتّسق والرؤيةَ الإلهيّة للتكامل اﻹنسانيّ الحقيقيّ في الحبّ والجنس بين الرجل والمرأة، ولا يمكن الموافقة عليه بأيّ حال من اﻷحوال.

 

يكتب الكاردينال جوزيف راتزينجر، عميد مجمع العقيدة والإيمان (البابا بندكتوس السادس عشر لاحقًا)، بتاريخ 3 يونيو 2003 ما يلي: "تعلم الكنيسة أن احترام الأشخاص المثليّين جنسيًّا لا يمكن أن يؤدّي بأيّ شكل من اﻷشكال إلى الموافقة على السلوك المثليّ أو الاعتراف القانونيّ بالاتّحادات المثليّة. كذلك أكَّدَ راتزينجر على أنّ الكنيسة لا يمكن أن تتوانى في الدفاع عن هذه القيم لصالح الرجال والنساء ولصالح المجتمع نفسه.

 

جاءت العبارات السابقة في خاتمة وثيقة صادرة عن مجمع العقيدة واﻹيمان بروما تحت عنوان "الاعتبارات المتعلّقة بالمُقترَحات لإعطاء الاعتراف القانونيّ إلى الاتّحادات بين اﻷشخاص المثليّين". وفي عمق الوثيقة نجد رؤية إيمانيّة عقديّة كاثوليكيّة لا تهتزّ ولا تختلّ، ترى أنّ الصالح العامّ يتطلّب أن تعترف القوانين بالزواج وتعزّزه وتحميه كأساس للأسرة، والوحدة الأساسيّة في المجتمع .

 

وأبعد من ذلك، ترى الوثيقة أنّ الاعتراف القانونيّ بالاقتران بين المثليّين أو وضعه على نفس مستوى الزواج لا يعني فقط الموافقة على السلوك المنحرف، ممّا يؤدّي إلى جعله نموذجًا في مجتمع اليوم، ولكنّه أيضًا يحجب القيم اﻷساسيّة التي تنتمي إلى الميراث المشترك للإنسانيّة.


 

علامة الاستفهام التالية والأكثر قربًا من فرنسيس: ماذا عن موقف الفقير وراء جدران الفاتيكان هذا من تلك الإشكاليّة ومن قبل ارتقائه السدّة البطرسيّة؟

 

الجواب نجده في التصريحات التي أدلى بها العام 2010، حين كان رئيس أساقفة اﻷرجنتين، وفي خضمّ اﻷزمة التي ثارت هناك في فترة تصويت الشعب على قانون يسمح بزواج المثليّين مدنيًّا.

 

يومها صرَّحَ فرنسيس بأن: "ما يجري سيُلحِقُ ضررًا خطيرًا  بالعائلة... وعلى المحكّ، ستضحي هويّة وبقاء اﻷسرة، اﻷب واﻷمّ واﻷطفال مهدَّدة... العديد من اﻷطفال سيتمّ التمييز ضدّهم مسبَقًا، وسيُحرَمون من نموهم البشر من قِبَل اﻷب واﻷم بإرادة الله... باختصار القول... على المحكّ الرفض التامّ لقانون الله المحفور في قلوبنا.

 

لم يكتفِ فرنسيس بذلك، بل أكَّدَ على أنّ الأمر ليس مجرّد صراع سياسيّ، بل محاولة لتدمير خطّة الله. إنّه ليس مجرّد مشروع قانون، ولكنّه خطوة من قِبَل أبي الكَذِب (إبليس) الذي يسعى إلى إرباك وخداع أبناء الله.


 

هل يمكن ﻷسقف روما، خليفة بطرس أن يبدّل أوضاعه ويغيّر طباعه، هكذا مرّة واحدة، وبما يتساوق مع الكتابات "الفيسبوكيّة" المنحولة، والتي لم يُقدَّر لها حتّى أن ترى الفيلم المزعوم وتدرك أبعاده؟

 

ليس مثيرًا ولا غريبًا وجود دوائر متصيِّدة وكارهة لكلّ ما هو مرتبط برباطات اﻹيمان مع خليفة بطرس، وكنيسته التي تُعَدّ قوّة إقناع معنويّة حول العالم، بحسب اللاهوتيّ الكاثوليكيّ اﻷمريكيّ جورج ويغل، لا سيّما داخل دوائر اﻹعلام اﻷمريكيّ المخترقة من جماعات ظلاميّة، لا تعرف طريقًا إلى مسارات ومساقات "شمس البرّ"، وكنيسته الجامعة المقدّسة الرسوليّة الكاثوليكيّة بالمبنى والمعنى.

 

فريّة البابا والمِثليّين تتساوق مع ما تمّ ترديده قبل نحو عام أو يزيد وقت انعقاد سينودس شعوب الأمازون، فقد رَوَّج المغرضون وقتها شائعات حول إصرار البابا على سيامة كاهنات من النساء، وكهنة متزوّجين، والمشاركة في مراسم ذات مسحة من عبادات وثنيّة قديمًا، ولم يكن الأمر برُمّته سوى ضرب من ضروب "فتنة اﻹنترنت"، في زمن وسائط التواصل الاجتماعيّ القادرة على صناعة الصيف أو استدعاء الشتاء كما يحلو لها.

 

والثابت أنّه وحتّى عرض الفيلم، فإنّ الموضوعيّة تقتضي أن نقترب من رؤية البابا فرنسيس المعمّقة لهذه الإشكاليّة الإيمانيّة واﻷخلاقيّة، بل والعلميّة كذلك، إذ لم يحسم العلماءُ بعدُ اﻷسباب الكامنة وراء المثليّة، وهل هي نتاج خلل جينيّ أم عقليّ، وهذه قصّة أخرى قائمة بذاتها.

 

مهما يكن من أمر، ففي مقابلة صحفية داخل الطائرة، وفيما كان فرنسيس عائدًا من البرازيل، نراه يُصرِّح بأنّ "المثليّين مرضى بمرض عُضال  Grand Maladesيحتاجون إلى علاج، ويجب أن نرعاهم ونحيطهم بالمحبّة الواجبة تجاه أيّ شخص ضعيف. من حقّهم أن يكونوا في أسرتهم، ويُحاطوا بالعناية والرعاية والحبّ".

 

مرّةً أخرى، وفي مقابلة أجراها الحبر اﻷعظم مع الفيلسوف والكاتب الفرنسيّ دومنيك وولتون، نُشِرت بالعربيّة في كتاب يحمل عنوان "جسور لا أسوار"، قال البابا: لا أريد أن يتمّ خلط موقفي في شأن السلوك الواجب تجاه الأشخاص المِثليّين مع موضوع نظريّة نوع الجنس... زواج المثليّين ليس زواجًا، إنّه اتّحاد مدنيّ... الزواج كلمة تاريخيّة منذ أصل الإنسانيّة، وليس في الكنيسة وحدها. الزواج هو  بين رجل وامرأة، لا يمكننا أن نغيّر اﻷمر هكذا في ليلِ سمرٍ".

 

في المقابلة عينها، تعرّض فرنسيس لكارثة أخرى تجري بها اﻷقدار مؤخّرًا، لا سيّما في الداخل اﻷمريكيّ، وهي مسالة اختيار النوع أو الجنس، بمعنى ما يتمّ تعليمه في بعض المدارس من حرّيّة الذّكَر أن يضحي أنثى أنّى شاء، وإطلاق يد اﻷنثى أن تصير ذَكَرًا كيفما وأينما يحلو لها، مفسِدين بذلك ناموس الخليقة الطبيعيّ... اﻷمر الذي اعتبره فرنسيس نوعًا من الضلال... فيما الزواج عنده في نهاية المطاف فِعْلُ محبّةٍ بين رجل وامرأة. إنّه التعبير الدقيق.. أمّا  المثليّون فيمكن أن يُطلَق عليهم اتّحادٌ مدنيٌّ.


 

هل السطور المتقدّمة جامعة مانعة، شافية وافية؟

 

بالقطع لا، بل اجتهاد متواضع لتبيان ملامح اﻷشكال وأبعاده، ومحاولة التفريق بين الحقيقة والادّعاءات، إلى حين مشاهدة الفيلم الوثائقيّ الذي أخرجه المخرج اليهوديّ يفغيني أفينييسكي.

 

وفيما نحن ننتظر، يبقى قولُ السيّد المسيح للقدّيس بطرس: "أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (مت 16-18).