موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢
جورجيا ميلوني: كيف ستدير رئيسة وزراء إيطاليا "المسيحية" علاقتها بالفاتيكان؟

بي بي سي عربية :

 

خلال حملتها الانتخابية، دأبت جورجيا ميلوني على التذكير بهويتها كـ"أم إيطالية مسيحية"، واتخذتها شعارًا محوريًا لاستمالة الإيطاليين. وفيما تستعد لتشكيل حكومة يمينية متشددة، بعد نيل حزبها أعلى نسبة أصوات (26 بالمئة) في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بدأت الصحافة المعنية بالشأن الكاثوليكي بطرح أسئلة حول علاقتها المستقبلية بالفاتيكان والبابا فرنسيس.

 

ولكن فهم علاقة الكنيسة بالسياسة في إيطاليا يحتاج إلى بحث معمق وموسع في تاريخ هذا البلد، وتاريخ الكرسي الرسولي فيه. فصحيح أن فوز حزب "إخوة إيطاليا" بالانتخابات البرلمانية الأخيرة يمثل انتصارًا لتيار يميني متشدّد، وصفه بعض المحللين بأنه امتداد للفاشية التاريخية، إلا أن إيطاليا تعدّ أيضًا من أكبر حواضن القيم اليسارية في أوروبا على المستوى الشعبي.

 

وصحيح أن جورجيا ميلوني اتخذت من ثلاثة "الله، الوطن، العائلة"، شعارًا لحملتها الانتخابية، وهو شعار تقليدي للأحزاب المسيحية اليمينية في القارة الأوروبية، إضافة إلى أنها تعرف نفسها كمسيحية، إلا أن اختلافات أيديولوجية كبرى تفصلها عن البابا فرنسيس وعن توجهاته "التقدمية" في الكنيسة.

 

منذ توليه منصبه، عرف عن البابا فرنسيس "نفوره" من سياسات الأحزاب الشعبوية اليمينية، ورأى محللون كثر خلال الأسابيع الماضية أن صعود التيارات اليمينية في أوروبا خلال الانتخابات الأخيرة لا يمثل خبرًا سعيدًا بالنسبة له. الخلاف واضح، ولا يحتاج إلى شرح معقد: البابا فرنسيس له مواقف مناصرة للفقراء وللقوانين المتسامحة مع المهاجرين، في حين يتبنى السياسيون اليمينيون مواقف معاكسة تمامًا، خصوصًا في موضوع الهجرة.

 

وفي وقت تتفق الكنيسة مع شعارات بعض تلك الأحزاب حول حماية العائلة ورفض الإجهاض ورفض الموت الرحيم، إلا أن محللين رأوا أن جزءًا كبيرًا من الكاثوليك الذين صوتوا لجورجيا ميلوني وحزبها هم من الكاثوليك الذين يصنفون أنفسهم "مناهضين للتيار التقدمي في الكنيسة".

 

في تصريح يعود للعام 2020، تقول ميلوني: "أنا مؤمنة، وأسمع كلام قداسته، ولكني على المستوى السياسي لا أتفق دومًا مع مواقفه". وخلال خطاب إعلان الانتصار، استلهمت رئيسة الوزراء الإيطالية العتيدة قولاً للقديس فرنسيس الأسيزي، شفيع البابا: "ابدأ بفعل الضروري، ثم بالممكن، وفجأة ستجد أنك تحقق المستحيل".

 

على الجانب الآخر، لم يتخذ البابا مواقف علنية من الانتخابات الأخيرة، لكنه حضّ الأساقفة، بحسب مراقبين، على تشجيع الناس على المشاركة في التصويت بكثافة. فقد صدر عن الكاردينال ماتيو زوبي، رئيس مجلس الأساقفة الإيطاليين، بيان تحدث فيه عن ضرورة أن تخصّص الأحزاب برامج للعناية بالمهمشين. ولكنه قال أيضًا إنّ الكنيسة "مستعدة للتعاون مع كل الأحزاب"، ولكن يعرف عنه أنه مناصر لجماعة سانت إيجيدو الكاثوليكيّة العلمانية، التي تتبنى مواقف أقرب إلى يسار الوسط.

ويرى محللون أن النتائج الأخيرة ستجعل العلاقة بين حكومة ميلوني والفاتيكان مضطربة، ليس فقط لموقفها المعلن من ملف الهجرة، ولكن أيضًا لتبنيها مواقف التيار الأكثر تشدّدًا في القضايا الاجتماعية والعائلية من التيار الذي يقوده البابا.

 

في خطابات البابا فرنسيس الأخيرة، حثّ الإيطاليين على الإنجاب، مع انخفاض نسب الولادة في البلاد بشكل غير مسبوق. ولكن، في الوقت ذاته، فهو يرى أن احتضان اللاجئين يمكن أن يكون حلاً لمسألة شيخوخة المجتمع الإيطالي، وذلك ما لا يوافق عليه اليمين المتشدد.

 

ولكن، في المقابل، يرى مراقبون أن هناك ملفًا ساخنًا مهمًا جدًّا، قد يجمع بين البابا فرنسيس ومليوني، وهو الموقف من أوكرانيا، فمع معارضته الحرب، إلا أنه يبدو من الأصوات المنفتحة للحوار مع بوتين، وذلك موقف ميلوني أيضًا.

 

يبقى ذلك كله في إطار التوقعات والتكهنات، ولكن نظرة تاريخية على العلاقة بين الكنيسة والسياسة في إيطاليا يمكن أن توضح لنا أنه لن يكون من السهل على ميلوني العمل بتجرّد كامل من تأثير الفاتيكان.

لم تكن العلاقة بين الكنيسة والدولة الإيطالية جيدة، ففي نهاية القرن التاسع عشر أثّر توحيد إيطاليا، عام 1861، بشكل سلبي على الممتلكات البابوية. وبعد فصل الدولة عن الكنيسة، صدر قانون "الضمانات البابوية" عام 1871، فمنح "امتيازات سيادية" للحبر الأعظم، ولكنه جرده من ممتلكات وأراضٍ كانت تابعة للكرسي الرسولي.

 

رفض البابا بيوس التاسع في ذلك الحين القانون، وأعلن نفسه "سجينًا في الفاتيكان". وفي العام 1874 أصدرت الكنيسة قرارًا يمنع الكاثوليك في إيطاليا من الانخراط في السياسة بشكل كامل، وبقي ذلك القرار ساري المفعول حتى العام 1919 حين شارك "حزب الشعب الإيطالي" في الانتخابات. ذلك الحزب، الذي كان يتبنى سياسة مسيحية ديمقراطية مستوحاة من التعاليم الكاثوليكية، حظي بدعم صريح من الفاتيكان، وحصد مقاعد في البرلمان.

 

بعد تسلم الحركة الفاشية الحكم في إيطاليا، وقعت الكنيسة مع موسوليني معاهدة لاتران عام 1929، والتي نتجت عنها استقلالية أكبر للفاتيكان، وحرية أكبر للمدارس والجمعيات الكاثوليكية. وكان موسوليني يحظى بدعم من شخصيات في الفاتيكان، ولكن العلاقة ساءت مع انتقاد الكنيسة لسياسات الفاشيين العنصرية.

 

بعد الحرب العالمية الثانية، بات تأثير الكنيسة الكاثوليكية على العملية السياسية في البلاد واضحًا، من خلال "حزب الديمقراطية المسيحية" الذي كان يحظى بدعم الفاتيكان، والذي بقي في صدارة المشهد لأكثر من 45 عامًا. شهد عهد "الديمقراطية المسيحية" محطتين بارزتين، وهما استفتاء عام 1974 حول تشريع الطلاق، واستفتاء عام 1981 حول منع الإجهاض. وفي المرتين، وبالرغم من دعم الكنيسة، فشل الحزب المسيطر في فرض قوانين تتناسب مع أجندته لناحية منع الإجهاض ووضع قيود على الطلاق.

 

بموجب اتفاقية بين الدولة الإيطالية والكرسي الرسولي، عام 1984، لم تعد الكاثوليكية الديانة الرسمية في إيطاليا، ولم يعد تدريس المسيحية إلزاميًا في المدارس الحكومية، وباتت ممتلكات الكنيسة مشمولة بالضراب، وألغيت رواتب الكهنة التي كانت تمنحها الدولة، ما أفقد الكنيسة جزءًا كبيرًا من مكانتها في السياسة.

 

انهارت شعبية "الديمقراطية المسيحية" بعدما هزّت فضيحة "الأيدي النظيفة" إيطاليا في التسعينيات، وكشفت تحقيقات قضائية عن تجذر الفساد في الأحزاب والدولة، ما أدى إلى حلّ الأحزاب القديمة جمعاء، وبداية الجمهورية الثانية.

بعد تراجع دور الأحزاب التقليدية تغيّرت علاقة الكنيسة بالعملية السياسية، إذ لم يعد تأثيرها مباشرًا على الأحزاب، بل باتت تمارس تأثيرًا غير مباشر من خلال الجمعيات، ومن خلال انتشار السياسيين الكاثوليك في عدد من الأحزاب عوضًا عن حزب واحد يدعمه الفاتيكان.

 

وفي بحث عن جامعة "برغن" النرويجية، يكتب الباحث أندرس كيولن، أنه منذ التسعينيات تعزز تأثير الكنيسة في الحياة العامة من خلال هيئات كاثوليكية خيرية واجتماعية، تلعب دورًا في التأثير السياسي، ولها صلات جيدة مع السياسيين، أبرزها مجلس الأساقفة الإيطاليين، وهو تجمع رسمي لجميع الأساقفة الكاثوليك في إيطاليا، و"أخوية المناولة والتحرير".

 

خلال تلك الحقبة، لعب رئيس المجلس حينها كاميلو رويني دورًا مهمًا في السياسة، ودعم ترشح برلوسكوني لرئاسة الحكومة. وعرف رويني بابتداع مبدأ "القيم غير القابلة للتفاوض" في وجه السجالات البرلمانية التي سادت في إيطاليا خلال التسعينيات ومطلع الألفية، حول الموت الرحيم والتلقيح الصناعي والاجهاض.

 

وبالرغم من غيابها عن التأثير السياسي المباشر، تمارس الكنيسة دورًا معنويًا مهمًا على الناخبين، خصوصًا عند طرح قوانين للاستفتاء. فعام 2005، وعند طرح قوانين الخصوبة والأبحاث على الأجنة للاستفتاء، حثت الكنيسة الناخبين على المقاطعة، ما انعكس على مشاركة منخفضة في التصويت، وبالتالي عدم تمرير القانون.

 

من الأمثلة المعاصرة على علاقة الكنيسة بالسياسة في إيطاليا، بحسب كيولن، عهد رئيس الوزراء ماتيو رينزي (2014-2016)، من "الحزب الديمقراطي" (يسار الوسط)، وكان يعرف نفسه كسياسي كاثوليكي، ويتبنى أفكارًا مسيحية يسارية واشتراكية.

 

كانت سياسات رينزي توصف بأنها تقدمية، ورغم اتفاقه مع الكنيسة على بعض القيم الأساسية كان داعمًا للشراكات المدنيّة بين الأشخاص من الجنس نفسه، ودعم قانونًا لتسريع إجراءات الطلاق. ولكنه في المقابل، كان يتبنى سياسات تدعم الفقراء، ودعم قوانين متسامحة مع المهاجرين، وكلاهما موقفان تبناهما البابا فرنسيس منذ توليه منصبه.

 

رغم ابتعاد البابا عن اتخاذ موقف رسمي من الانتخابات، إلا أن الأساقفة شجعوا الكاثوليك على المشاركة الكثيفة في الانتخابات الأخيرة. ولكن بعض المحليين يرى أن تبني بعض الأحزاب الكاثوليكية التقليدية في إيطاليا لمواقف تقدمية، من بينها قانون مناهض لكراهية المثليين، جعل شريحة من الناخبين تتجه لمرشحة تتبنى مواقف تخاطب قناعتهم.