موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ يوليو / تموز ٢٠٢٠
الكنائس الكاثوليكية في مصر معالم ومعاني: بازيليك السيدة العذراء للاتين بمصر الجديدة
 بازيليك السيدة العذراء للاتين بمنطقة مصر الجديدة بالعاصمة المصرية القاهرة

بازيليك السيدة العذراء للاتين بمنطقة مصر الجديدة بالعاصمة المصرية القاهرة

دراسة وتحقيق ناجح سمعـان :

 

ربما يتشابه الحكي عن بناء كنيسة السيدة العذراء للاتين، بحي بمصر الجديدة، مع ما تعيشه العاصمة المصرية القاهرة من نهضة عمرانية وتوسع جغرافي نحو تعمير الصحراء بالمشروعات الإنتاجية ودور العبادة، بجانب المؤسسات الحكومية والقطاعات الخدمية، فأن تقوم بتخطيط مدينة جديدة فإنك تمتلك رؤية استشرافية بعيدة للمستقبل، وأن تقوم بتنفيذ ما خططته، فإنك بلا شك قادر على التغيير والتنمية لا في الحجر فحسب بل في ملامح مجتمع يتشكل وحياة بشر يتطلعون إلى أفق أرحب في الأرض والحلم.

 

وقديمًا عندما شرع البلجيكي الجنسية البارون إدوراد إمبان فى تأسيس "هليوبليس"، حي مصر الجديدة، بالعاصمة القاهرة، أوائل القرن العشرين، أراد أن تكون الكنيسة لؤلوة مشروعه، وفي القلب من حلمه، لذا جاء تصميم كنيسة بازيليك السيدة العذراء للاتين بحي مصر الجديدة، تحفة معمارية ورسالة حضارية تعكس قصتها معنى أن يكون لله باكورة العطية في المادة والروح معًا.
 

لمحة تاريخية

 

منذ عام 1904 بدأ البارون امبان مشروعه بشراء 2500 هكتار في الصحراء، شرق القاهرة، ثم اتسعت عام 1906 إلى 8000 هكتار (ما يقارب 25 كيلو متر مربع). وبدأ في تنفيذ مخططه في إنشاء مدينته الجديدة، تلك التي أراد أن يكون بها جميع مرافق البنية التحتية اللازمة من كهرباء ومياة وفنادق، بالإضافة إلى ملاعب الجولف ومضامير سباق الخيول والمنتجعات الراقية، حتى بدأت الحياة تدب في المكان رويدًا رويدًا.

 

لما كان البارون امبان من عائلة مسيحية تقية، وكان يوجد بالقرب من منزل العائلة بمقاطعة بلوئيل صورة عجائبية للعذراء مريم، تسمى سيدة الطونجر، حيث يفد إليها الزوار من كل صوب فى العالم. أراد البارون امبان تحقيق هذا المشهد الروحي على أرض أحلامه هليوبليس. اختار البارون امبان موقع لبناء كنيسة باسم السيدة العذراء في قلب مدينته الناشئة وعلى مفترق الطرق الرئيسية بها، وقد عهد إلى المهندس ألكسندر مارسيل بوضع خرائط الكنيسة، ثم قام بوضع حجر الأساس في نوفمبر 1910.

اللوحة الرخامية

 

عند مدخل الكنيسة توجد اللوحة الرخامية الموضوعة في الواجهة الأساسية لمدخل البازيليك وتحمل اللوحة اسم الكنيسة "بازيليك السيدة العذراء للاتين". هذا هو اسم الكنيسة ووصفها أيضًا لأن كلمة البازيليك هي كلمة يونانية تعني كنيسة ملوكية لها إنعام خاص تتميز به عن سائر الكنائس، وهو لقب يمنحه قداسة البابا لبعض الكنائس المتميزة، وذلك لخير المؤمنين الروحي.

 

مبنى الكنيسة

 

الكنيسة مبنية على الطراز البيزنطي وقريبة الشبه من الداخل والخارج بكنيسة سانت صوفيا باسطنبول، حيث أنها نموذج مصغر بنسبة الربع عن كنيسة سانت صوفيا. تبدو العمارة الشرقية ممثلة في الطرازات البيزنطي والقبطي والفرعوني ممتزجة مع العمارة الغربية الواضحة في الطراز الروماني البارز فى الشبابيك والأقواس.

 

واجهة الكنيسة

 

واجهة الكنيسة عمل فني بديع تبدو عظمة الطراز البيزنطي في الأعمدة الرخامية والأقواس المزخرفة إلى جانب أدراج الجرانيت عند المدخل. كذلك تعكس الشبكة الحديدية البلجيكية التي تم تركيبها عام 1929 قوة المبنى، والحرص على السلامة.

البهو الخارجي والأبواب

 

في البهو الخارجي للكنيسة يرحب بك قديسان عظيمان، الأول القديس يوحنا دون بوسكو من ناحية اليمين، ويقابله على الجانب الأيسر تمثال القديس الفرير دي لا سال. وفي الوسط منهما يقع الباب الرئيسي للكنيسة حيث تتأمل مجسم فني للرب يسوع يقرع الباب، وعلى الجانب الآخر شمعة مضيئة تقود الداخلين إلى نور الحياة. للكنيسة خمسة أبواب، ثلاث عند المدخل، واثنين بجانبي الكنيسة. الأبواب جميعها من الخشب ومتساوية الحجم، تشبه في تصميمها أبواب القصور أو القلاع الحربية، حيث تحيط أطرافها دوائر خشبية بارزة أشبه براس المسمار الحديدي.

 

صحن الكنيسة

 

يقسم البازيليك من الداخل إلى جزأين أساسيين، الأول هو المذبح المقدس حيث مكان وقوف الكاهن والشمامسة لصلاة القداس. أما القسم الثاني فهو مخصص لجماعة المؤمنين، ويسمى القاعة أو الصحن، حيث تصطف به المقاعد لجلوس المصلين ويتزين صحن الكنيسة بالعديد من الأيقونات والتماثيل والصور.

 

المذبح الرئيسي

 

مائدة من الرخام الأبيض تقع في أول الكنيسة وتقدم عليها القرابين في القداس الإلهي. يوضع على المذبح الأواني المقدسة (الكأس والصينية) إلى جانب كتاب القداس والإنجيل المقدس. تحاط المائدة بالشموع والورود. وعلى واجهة المذبح الأمامية يوجد ثلاث صلبان بنية اللون ومنحوتة في حائط المذبح الرخامي في مواجهة المصلين.

الحنية

 

تشير إلى حضن الآب، وهي نصف دائرية وتحتضن المذبح الرئيس بداخلها. بجدار الحنية سبع أقواس صغيرة تعلق القناديل بأعمدتها. وتعلو الأقواس السبعة نافذات سبع مكسوة بالخشب والزجاج الملون، وفى أعلى الحنية صليب قبطي داخل القبة نصف الدائرية.

 

بيت القربان

 

وسط الحنية يوجد بيت القربان، حيث الحضور الحقيقي ليسوع المسيح في سر الإفخارستيا. وبيت القربان عبارة عن علبة مذهبة أمامها صليب كبير. وأعلى بيت القربان يقع تمثال السيدة العذراء، شفيعة الكنيسة، وهي تحمل طفلها الإلهي على ذراعها الأيسر، وترتدي ثوبًا بني اللون، وعلى رأسها المبارك تاج بذات اللون.

 

أيقونة العذراء

 

عندما ترفع بصرك إلى نهاية القبة نصف الدائرية، أعلى المذبح الرئيسي، تتأمل أيقونة السيدة العذراء والدة الاله تفتح ذراعيها المباركين، ويحيط بالسيدة ملاكين في خشوع. فيما تصور الأيقونة الطفل يسوع في حشى البتول رافعًا يده المقدسة بالبركة، وفي يده الأخرى ورقة مطوية. وما يميز الأيقونة أيضًا النجوم الثلاثة التي تزين كتفي العذراء وجبهتها المباركة وهي تشير إلى بتولية مريم العذراء الدائمة، قبل وأثناء وبعد الحبل الالهي. والأيقونة من عمل الرسام المصري ديمتري فاسيليو.

القبة الكبرى

 

أبرز ما يميز كنيسة البازيليك بمصر الجديدة تصميمها على غرار كنيسة القديسة صوفيا باسطنبول، مع الفارق أن قبة كنيسة القديسة صوفيا بارتفاع 55 متر وقائمة على أربعة أعمدة. أما قبة كنيسة البازيليك بمصر الجديدة فهي بارتفاع 32 متر، كما تبلغ مساحة قطرها 13 متر، وقائمة على أربعة أعمدة كبيرة أيضًا. وبالقبة 20 نافذة مكسوة بالخشب والزجاج، وهو ما يتيح الإضاءة الطبيعية والتهوية لأهم مكونات الكنيسة.

 

الأعمدة

 

في جوانب الكنيسة الثلاث يتوزع اثنى عشر عمودًا. أربعة في كل جانب، ويربط كل عمودين قوس خرساني مدهون باللون الأبيض الحجري ومحاط بإطار من اللون الذهبي. أعمدة الكنيسة من الرخام بنية اللون، ولكل عمود قاعدة مربعة الشكل ورأس مزركش بأوراق الأشجار، ويتوج رأس العمود في جوانبه الأربعة بصلبان بيزنطية ذهبية اللون.

 

المذابح الجانبية والإمبل

 

إلى جانب المذبح الرئيسي، توجد ثلاثة مذابح أخرى بصحن الكنيسة، وهي: مذبح لقلب يسوع الأقدس ومذبح للقديسة تريزا الطفل يسوع ومذبح للقديس يوسف البتول. أما الإمبل فيقع في مقدمة صحن الكنيسة، وهو كرسي من الخشب يرتفع عن مستوى أرضية الكنيسة بعدد من الدرجات، وكان يصعد إليه قديمًا الأسقف أو الكاهن لإلقاء العظة حتى يتسنى لجميع المصلين رؤيته وسماع تعليمه.

الزجاج المعشق

 

يزين صحن الكنيسة بأربعة نوافذ مربعة الشكل ومكسوة بالزجاج المعشق بالألوان. وعلى كل نافذة ترسم لوحة فنية بديعة وتتضح معالم الرسم عند سقوط أشعة الشمس عليها. واللوحات الأربعة هي: بشارة الملاك لمريم العذراء، ميلاد الطفل يسوع في مغارة بيت لحم، مجيء العائلة المقدسة إلى مصر، وقيامة الرب يسوع من بين الأموات. والنوافذ الأربع موزعة في الزوايا الأربع للبازيليك.

 

جرن المعمودية ولوحة العماد

 

عند مدخل الكنيسة من الجهة اليمنى يوجد جرن المعمودية، وهو جرن على شكل الكاس، يتكون من ثلاثة أجزاء. الجزء العلوي غطاء الجرن وبه تمثال معمودية يسوع على يد يوحنا المعمدان. والجزء الثاني المغطس، وهو المكان الذي توضع به الماء عند نوال الطفل لسر المعمودية. وأخيرًا قاعدة الجرن، وهي مربعة الشكل وبها زخارف، وفي كل جانب من الجوانب الأربعة تمثال صغير للإنجيليين الأربعة متى ومرقس ولوقا ويوحنا.

 

في خلفية جرن المعمودية توجد لوحة زيتية مربعة الشكل تصور عيد الظهور الإلهي حيث معمودية يسوع على يد يوحنا المعمدان وحلول الروح القدس عليه في هيئة حمامة، وأعلى الصورة مشهد للآب السماوي فاتحًا ذراعيه مرددًا: "هذا هو ابني الحبيب به رضيت".

الأرغن الكبير

 

الأرغن من أهم المعالم المميزة لبازيليك السيدة العذراء بمصر الجديدة، وهو أكبر أرغن بمصر إذ يصل ارتفاعه إلى 5 امتار وعرضه 4 امتار، وهو مصنوع في بلجيكا عام 1914. وقد قامت إدارة البازيليك بأعمال صيانة وإصلاح للأرغن مرتين متتاليتين في الاعوام من 1982 حتى 1992، حتى تم إصلاحه بشكل كامل عام 2009، حيث عاد إلى العزف من جديد بأبهى أصواته مع الاحتفال باليوبيل المئوي للبازيليك عام 2010.

 

قبو المؤسس

 

أسفل المذبح الرئيسي للبازيليك، يوجد القبو الذي يرقد به جثماني رجليين جليلين اختارا أن يكون رقادهما الأخير في بيت الله، إنهما البارون ادوار امبان وابنه جون امبان. الغطاء الرخامي للقبو يحمل شارة البارون امبان، وعندما ينحسر قليلاً قليلاً أمام ناظريك ترى المرقد المهيب حيث تظهر عدد من الدرجات الرخامية الهابطة إلى الاسفل، وبنهايتها ترى القبو وهو عبارة عن مستطيل من الرخام الأسود قمته مثلثة ومحفور على واجهته بحروف مذهبة اسمي الراحلين البارون ادوار امبان (1852–1929) وابنه جون امبان (1902–1946)، وعلى الجانبين صورتين فوتوغرافيتين لكل منهما ويوضع بجوار القبر إكليل من الورود.

الموقع والرسالة

 

تحتل بازيليك السيدة العذراء للاتين موقعًا فريدًا ليس في قلب حى مصر الجديدة وحده، بل في قلب الكنيسة الكاثوليكية بمصر كلها، فهي معلم حضاري ومزار ديني كبير تحمل رسالة إشعاع روحي لقاصديه، وهو ما يجعل القائمين عليها في مسيرة دائمة للإصلاح والتطوير لمحتوياتها الثمينة، لقناعتهم الراسخة برسالتها الجليلة، وجلال موقعها، ولسان حالهم يقول: "ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء".