موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢٦ أغسطس / آب ٢٠٢٠
القيادة الراعوية في ظلِّ جائحةِ كورونا... القيادة: إيقاظ الرجاء

المطران بشار متي وردة :

 

المُقدمة

 

عندما نتأملُ في نمطِ القيادة الراعوية للكنيسة إبّان الأزمات التي عصفت بها في السابق، نجد أنَّ ولاءَها لشخصِ يسوعَ مكّنها من إتخاذ قرارتٍ حكيمةٍ عبرّت بها مع الرعية "بحر الصعوبات"، مؤمنةً بأنّ الله الآب يقود المسيرة، وعليهم تمييز الطريق الذي يُريده اللهُ منّا أن نتّخذه، وقد يكون هو الطريق الأصعب في مواجهةِ تحدياتِ الواقع لتلمذة أمينةٍ للربِّ والمعلّم، يسوع المسيح، الذي قدّم وهو يواجهِ الموت أروعَ تعليمٍ وصلاٍة سجّلها لنا يوحنا الإنجيلي في الفصول (13- 17)، إذ تقدّم نحو رُسلهِ خادماً ومُعلماً ومعزياً وراعياً وهو يواجهُ الخيانة والرفض والموت؟

 

القيادة: إيقاظ الرجاء

 

تكمُن عبقرية القيادة الراعوية إذاً في قدرتها على مواكبةِ المتغيرات الخارجية، والتي تكون خارج إدارتها وإرادتها، فلا تقف على عتبةِ الطقوسِ والأنشطةِ والفعّالياتِ والإنجازاتِ، وحالةِ الإنتعاش العاطفي المؤقّت الذي تعيشهُ وقتَ السلم والرخاء الإقتصادي، وتشعر بفقدانهِ وقتَ الأزماتِ، بل تُقدّم نفسها أماً ومُعلمة، لها برنامج تنشئة إنساني ومسحي، وقادرةٌ على مرافقةِ مؤمنيها راعوياً على نحوٍ يُوقِظُ الرجاء في حياتهم والعبور بهم نحو برّ الآمان في الأزمة التي تعصُف بهِم. ولا يُمكن القبول بقيادة راعويةٍ تُعلّم الناس بأن ما يختبرونهُ وقتَ الحروب والأزمات والأوبئةِ هو قصاصٌ إلهيٌّ عادل جزاء خطاياهم، فمثلُ هذا الخطاب الغير رصين يعوزهُ أُسس كتابية ولاهوتية، وهو يعني أنَّ على الناس قبول هذه الحالةِ وأن يرفعوا التوسلاّت إلى العدالةِ الإلهية لتعفو عنهم، من دون أن تحثّهم للعمل على مواجهةِ الفايروس وشحذ الهِمَم لإبتكارِ علاجات شافية أو عقارٍ يمنع إنتشار الفايروس. يُمكن أن نُشير وبوضوح إلى أنَّ عبثيّة الإنسان أوصلّت البشرية إلى مثل هذه الحالةِ المُزريةِ، وإنتشار الخطيئة الإجتماعية التي جعلتنا نعاني من هذه الجائحةِ، مثلما حصل في الماضي مع أزمات أخرى، ولكنّ، ليس علينا أن نُلقي الذنب على الله الذي أنعمَ على الإنسان بنعمةِ العقل والتعقّل، وأساءَ الإنسان إستخدام هذه النعمةِ، ونُشعِرُ الشعب بالخجل والخزي من أنفسهم، هم بحاجةٍ إلى كلماتٍ مُعزية.

 

أودّ هنا، أن أدعو الجميع إلى قراءة أسفار الأنبياء إشعيا وإرميا وحزقيال، وهم أنبياء عاشوا فترة ما قبل السبي إلى بابل فنادوا بضررة التوبةِ عن الخطايا الفردية والإجتماعية، ونددوا بقوّةٍ بالظلمِ والشر الذي يفعلهُ الشعب، وطالبوا الجميع بالعودة عن حياتهم الآثمةِ وإلاَّ فعلى الجميع أن يواجه غضبَ الله، وهذا ما حصلَ في السبي إذ شعرَ الشعب أنّ الله تخلّى عنهم، أو بالآحرى، هذه كانت عاقبةُ مَن تركَ الله وتعبّد لآلهةٍ أخرى.

 

في بابل، تغيّر خطابُ إشعيا وإرميا وحزقيال جذرياً وحرصوا في وعظِهم على أن يُوقظوا في نفوس الشعب الرجاء من جديد، والتمسّك بالإيمان بالله أباً ومُخلّصاً: "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: "امْنَعِي صَوْتَكِ عَنِ الْبُكَاءِ وَعَيْنَيْكِ عَنِ الدُّمُوعِ لأَنَّهُ يُوجَدُ جَزَاءٌ لِعَمَلِكِ يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجِعُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَيُوجَدُ رَجَاءٌ لِآخِرَتِكِ يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجِعُ الأَبْنَاءُ إِلَى تُخُمِهِمْ" (إرميا 31: 16- 17). خسروا الهيكل والاحتفال بالأعياد وأُبطِلَ صوتُ التراتيل ولم يعد هناك ذبائح تُقدَم، ولكنّهم، لم يخسروا الإيمان، لأنَّ الله سيُنعِم بالحياة على العظام اليابسّة، بكلمةِ من النبي نفسهِ (حز 37)، لأن موعظتهُ حملت معها الرجاء.

 

ففي وقت الأزمات، تكون الناس أحوجَ إلى رسالةٍ رجاءٍ مُعزيّة تسندهم وهم يواجهون تحديات وصعوبات على كافّة الأصعدة، ويتوجهون نحو الله ليطمئنّوا أنهم ليسوا وحدهم على الطريق، بل هو معهم للتغلّب على هذا الوباء. وحتّى لو افترضنا جدلاً أن ما تعانيه البشرية من جرّاء جائحةٍ هو عقابٌ من الله، فما هو دورُ الواعِظ، خدامُ يسوع، الطبيبُ الشافي، أيكونُ إبراهيمَ أكثرُ وعياً منّهُ برحمةِ الله، الذي تضرّع إلى الله من أجلِ سدوم وعمّورة (تك 18: 16- 33)؟ وكيف نُفسّر لنا تضّرع موسى من أجل شعبهِ الخاطئ في البرية: "آهِ قَدْ اخْطَا هَذَا الشَّعْبُ خَطِيَّةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لانْفُسِهِمْ الِهَةً مِنْ ذَهَبٍ. وَالانَ انْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ، وَالا فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ" (خر 32: 31- 32). ربُنا يسوع نفسه صلّى من أجلِ أعدائه: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو 23: 34).

 

هل يعني أنَّ علينا أن نعِظَ بتعليمٍ يُجانِبُ الحقيقةَ؟ فنُجاملُ الناس في واقع حياتهِم الذي لا يتوافق والبُشرى السّارة لربّنا يسوع؟ هل نتغاضى عن فايروسات: "الظلم الاجتماعي وعدم تكافؤ الفرص والتهميش والنقص في حماية الأكثر ضعفًا"، والتي أشارَ إليها الاب فرنسيس في المقابلة العامّة يوم الأربعاء )19 آب 2020(؟ أعلينا تناسي كل هذه الخطايا؟ بالتأكيد لا، يجب التنبّه لها وتوجيه الناس حولّ جسامتها، ولكننا لا نملُك سلطةً على اختياراتهم الحياتيّة، حتى الله نفسهُ احترمَ حُرية قرار شعبه: "أُشْهِدُ عَليْكُمُ اليَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلتُ قُدَّامَكَ الحَيَاةَ وَالمَوْتَ. البَرَكَةَ وَاللعْنَةَ. فَاخْتَرِ الحَيَاةَ لِتَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ" (تث 30: 19)، وعادَ ربّنا يسوع وأكّد بعد خُطبةِ الجبل أنَّ هناك إحتمالية أن يسمعَ الإنسان لتعليمهِ ويشرعُ في تطبيقهِ وفقَ رؤيتهِ الشخصيةِ، ولكنّه مسؤولٌ على نحو شخصي على اختيارهِ هو (متّى 7: 24 – 29).

 

الكنيسة أمٌّ ومُعلمةٌ، تفرح لاختيار أبنائها وبناتها اختيارات للحياةِ، وتتألم لاختياراتهم المُميتةِ، ولكنّها، لن تسعى لسلبِ حُريتهم، أو تجلدُهم بالوعظِ الغضوب، بل تُوقظهم على مسؤوليتهم الشخصية مؤمنةً أنّهم: "جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيب" (1 بط 2: 9). فالجميع مسؤولٌ عن إيمانُ الجماعةِ لاسيما في وقت الأزمات، إيمانٌ يعبُر بهم من الظلمةِ إلى النورِ.

 

الجماعة التي نخدُمها هم إخوتنا وأخواتنا، علينا أن نُحدِثَهُم بلطفٍ وإحترامٍ ومهابة، نحملُ معهم أتعابهم وهمومهم بل غضبهم وعنادُهم وقصورهم وجهالتهم بل خطاياهم، لاسيما في وقت الأزماتِ، فلا مجال لقيادةِ تُمارِس خدمتها بسوطِ التخويف والترهيب لنٌشعِرهُم بالخجل من شهادةِ حياتهِم، علينا يقعُ واجبُ تصحيحِ مسارَ الجماعةِ والتنبّه لإنحرافِ سلوكياتهِم، فيكون شعورُ الذنب تنبيهاً لهم للعودة عن هذه السلوكيات الخاطئة. لربما نغضبُ، مثلما حصل مع بولس الذي لم يتحمّل تعاسة الأخبار التي سمعها عن سلوكيات جماعةِ كنيسة كورنثس الفاضحةِ، ولكنَّ غضبهُ لم يمنعهُ من كتابة أروع أناشيد المحبّة (1 كور 13: 1-13)، لأنه كبُر ونضجَ في خدمتهِ، ويؤسفنا أن قلّةً من مَن هم في الخدمةِ الراعوية مازالوا أطفالاً في كلامهم وإدراكهم وأفكارهم وسلوكياتهم.

 

 من واجبنا كرُعاة أن ندعوَ الناسَ لتحمّل مسؤولياتهم الشخصية والأخلاقية بل العالمية في مواجهةِ المحنةِ معاً. فيجتهدوا في الإلتزام بالإجراءات الوقائية والمحافظة عليها، ويكونوا بقُرب المُصابين لتقديم العون والتعزية. يُسعفوا الفقراء الذي لم يبقَ لديهم موردٌ للعيشِ الكريمِ. ويتضامنوا مع العالم كلّه في الصلاةِ من أجلِ أن يمنح الله الحكمة للخُبراء والأطباء والباحثين والسياسيين والإقتصاديين لهزيمةِ الفايروس، وتُسجّل البشرية من خلال تضامن الجميع إنتصاراً للخير والحياة الصحيّة للجميع.