موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٧ يونيو / حزيران ٢٠٢٠
التنشئة المسيحية: قراءة في الإرشاد الرسولي "فرح الإنجيل" (8)

البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي :

 

نبدأ اليوم نقل مضمون الفصل الثاني من الارشاد الرسوليّ "فرح الإنجيل"، وهو بعنوان: "وسط أزمة الالتزام الجماعيّ". فنستعرض منه بعض تحدّيات العالم المعاصر.

 

1. تعيش البشريّة منعطفًا تاريخيًّا

 

التقدّم العلمي والتكنولوجيّ في كلّ الميادين: رفاهية، صحة، تربية، تواصل، معرفة وإعلام مع ما لهما من سلطان، وبالمقابل القسم الأكبر من النساء والرجال يعيشون في حالة عدم الاستقرار يوميًا، وأمراض تتفاقم، وخوف ويأس يمتلكان القلوب، حتى في البلدان الغنيّة.

 

غالبًا ما ينطفئ فرح الحياة، وتتفاقم قلة الاحترام والعنف، ويتّضح أكثر وأكثر التمييز الاجتماعيّ.

 

وثمّة من يصارع من أجل الحياة، غالبًا مع قلّة من كرامة (الفقرة 52).

 

2. لا اقتصاد إقصاء

 

وصيّة "لا تقتل" التي تحمي قيمة الحياة البشريّة، تتكامل مع وصيّة "لا لاقتصاد إقصاء وتفاوت اجتماعي". إن مثل هذا الاقتصاد يقتل. حدثُ وفاة مسنٍّ من دون مسكن بردًا في الشَّارع لا يشكّل نبأ. أمّا هبوط علامتين في البورصة فيُعدّ نبأ كبيرًا.

 

هذا نوعٌ من الاقصاء. كم من طعامٍ يُرمى ،فيما أشخاص يتضوّرون جوعًا؛ هذا هو التفاوت الاجتماعيّ. اليوم تسود لعبة التنافس وشريعة الأقوى، حيث المقتدر يأكل الأضعف. بنتيجة ذلك كثيرون يرون ذواتهم منبوذين، مهمَّشين، بدون عمل ولا آفاق مستقبليّة ولاسبل خلاص.

 

لقد أطلقنا "ثقافة النفاية" وهي اعتبار الكائن البشريّ بحذ ذاته كسلعة استهلاك، يمكن استخدامها ثم رميها. المقصَون، الذين لا مكان لهم في المحتمع، ليسوا أشخاصًا مستغَلّين فقط، بل نفايات، "بقايا" (الفقرة 53).

 

وجاءت عولمة اللامبالاة التي تجعلنا غير قادرين على الاحساس بالشفقة أمام صراع وجع الاخرين؛ ولم نعد نبكي أمام مأساة الآخرين؛ وبات الاعتناء بهم لا يهمّ،ا، كما لو أنّ كلّ شيء هو مسؤولية غريبة ليست من اختصاصنا.

 

ثمّ إنّ ثقافة الرفاهة تخدّرنا، فنفقد هدؤنا إذا ما عرض السوق سلعة لم نكن قد اشتريناها بعد، فيما حياة الكثيرين التي همّشها انعدام الامكانات تبدو لنا وكأنها مجرّد مشهد لا يقلقنا على الاطلاق (الفقرة 55).

 

3. لا لصنمية المال الجديدة

 

من أسباب هذا الوضع الذي ذكرناه، العلاقة مع المال الذي تركناه يسيطر علينا وعلى مجتمعاتنا. تنسينا الازمة المالية أنّ مصدرها أزمة انتروبولوجية عميقة، أي نكران أولوية الكائن البشري.

 

قديمًا وُجدت عبادة عجل الذهب (راجع تك 32: 1-35). أما اليوم فيوجد صنمية المال النابعة من ديكتاتورية الاقتصاد الذي لا وجهًا انسانيًا حقيقيًا له، ولا هدف.

 

الأزمة العالمية التي تحاصر المال والاقتصاد تكشف عن اختلالات في توازنها، وعن غياب خطير لتوجيه انتروبولوجي. إنها تقلّص الكائن البشريّ إلى واحدٍ فقط من احتياجاته: الاستهلاك (الفقرة 55).

 

ثمّة اختلال بين المواطنين: أقليّة من الناس تتصاعد أرباحهم، وأكثريّة تتباعد أرباحها أكثر فأكثر عن رفاهية تلك الأقليّة. هذا الاختلال ينجم عن ايديولوجيات تدافع عن استقلالية الاسواق، وعن المضاربة المالية المطلقة، وتمنع الحق في المراقبة على الدول التي عُهد اليها بالشهر على حماية الخير العامّ.

 

لقد سيطر استبداد جديد خفي وأحيانًا افتراضي، يفرض شرائعه وأحكامه بطريقة أحاديّة الجانب متصلّبة. وفوق ذلك يأتي الدَّين وفوئده ليُبعد البلدان عن قدرتها للإيفاء، والمواطنين عن قدرتهم الشرائية الحقيقية.

 

يُضاف إلى ذلك فساد متشعّب، وتهرّب ضريبيّ أنانيّ، بلغا أبعادًا عالمية. وما القول عن التوق، الذي لا حدود له، إلى السلطة والمال. كل هذا النظام يسعى إلى ازدراء كل شيء بغية تضخيم الارباح. أصبحت هكذا مصالح السوق "مؤلَّهة" (الفقرة 56).