موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٩ مايو / أيار ٢٠١٩
البطريرك صفير.. عبادة الله وترقية الإنسان، وسيادة الأوطان والأمن والأمان

الأب د. بيتر مدروس :

<p dir="RTL">فقد لبنان والكنيسة المارونيّة، وكلّ الشرق والعالم، بطريركًا عبقريًّا شديد الورع والحكمة هو نيافة الكردينال صفير. ولا بدّ هنا أن يوضح&nbsp; المرء أنّ لفظة &quot;بطريرك&quot; وهي يونانيّة مركّبة ناسبت تمامًا الراحل الكبير، فكان &quot;اسمه على جسمه&quot;. فالكلمة &quot;باتريارخيس&quot; مكوّنة من &quot;باتير&quot; أي أب، أو &quot;باتريا&quot; أي الوطن &quot;الأب&quot;، في حين تقول العربيّة الحديثة &quot;الوطن الأمّ&quot;. والقسم الآخر من اللفظة هو &quot;أرخي&quot; أي &quot;السلطة&quot;. فالبطريرك هو صاحب &quot;سلطة الأب على الوطن&quot;. والبطريرك الماروني مسؤول عن جميع الموارنة في العالم وليس فقط في لبنان. والموارنة منذ القرن الرّابع كنيسة كاثوليكيّة شرقيّة إنطاكية سريانيّة اللسان والطقس أتت من تجمع المؤمنين حول راهب قدّيس دعي &quot;مارون&quot; (أي &quot;السيّد الصغير&quot;) الذي أقام في &quot;كفر نبو&quot; على جبل &quot;اليمبوس&quot; في سلسلة جبال طوروس. وتميّزت المارونية بأن لا مقابل لها في الكنيسة الأرثوذكسيّة لأنها ما حادت قطّ عن اتحادها بالكرسي الرسولي الروماني &quot;الذي هو بمثابة المنارة لجميع الكنائس تحت الشمس&quot; الممثّل بكرسي روما الرسوليّ&quot; الذي هو &quot;مقرّ العقائد القويمة&quot;. يأتي هذان التعريفان من كتابات القديس صفرونيوس &quot;بطريرك القدس وسائر أعمال فلسطين&quot; (بل كل المقاطعات المشار إليها بـ&quot;الفلسطينات الثلاث&quot;). واحتفظت المارونية بطقسها ولسانها ولغتها السريانية كما احتفظت بطقوسها وألسنتها الأصليّة كل الكنائس الشرقية المتحدة مع روما أي البيزنطية والقبطيّة والأرمنية والسريانية والكلدانية (البراءة البابوية &quot;كرامة الشّرقيّين&quot; في عهد البابا الكبير لاون الثالث عشر).</p><p dir="RTL"><strong>نبذة عن سيرة البطريرك الكردينال صفير</strong></p><p dir="RTL">كفى رئيس أساقفة كاثوليك شرقيّين فخرًا ومسؤولية أن يكون على رأس جميع الأبرشيات في وطنه وسائر المعمور. ولكن الكرسي الرسولي عيّن غبطة البطريرك نصر الله بطرس صفير كردينالاً أيضًا، من باب الإقرار بتفوّقه وقدراته. ولقب الكردينالية هو &quot;نيافة&quot;. ولفظة كردينال&quot; تعني &quot;صاحب الركن أو الزّاوية&quot; إذ كان نيافته -رحمه الله- من رؤساء الأساقفة والبطاركة &quot;الأركان&quot; ورافعي &quot;الزّوايا&quot;. وكانت أيضًا لفظة &quot;كاردو&quot; تشير إلى عمود مركزي، مثل الـ&quot;كاردو الأكبر&quot; بقرب باب &quot;العامود&quot; في القدس القديمة وسط سوق &quot;خان الزيت&quot; في زهرة المدائن.</p><p dir="RTL">يضيق المقام لسرد سيرة مثلث الرحمات صاحب الغبطة والنيافة &quot;أبي&quot; لبنان وسائر الموارنة في &quot;الانتشار&quot;. ويفضّل اشقّاؤنا الموارنة لفظة &quot;انتشار&quot; على &quot;الشتات&quot; لأملهم أن يعود المغتربون، عاجلاً أم آجلاً، لوطنهم المحبوب المفدّى لبنان، الذي هو، ليس فقط في عالم القصائد والأحلام، بالفعل &quot;قطعة من سماء&quot;. وللراحل الكبير فضل في ذلك عميم، بعد حروب طائفية وأهلية طاحنة كادت تدمّر البلد على بكرة أبيه لولا حكماء القوم، وعلى رأسهم الأب البطريرك أبو الوطن صفير!</p><p dir="RTL">ولد نيافته في ريفون من أعمال مقاطعة كسروان في الخامس عشر من أيار سنة 1920 ودخل لاحقًا إكليريكية غزير. وكان هدفه خدمة الله &quot;بالمحبة الكاملة&quot; ووقف للذات كامل. وعاش حياة نسكية حتى لما خدم الرعايا. وبقي على هذا المثال النسكي الزاهد في أمور الدنيا ببساطة عيشه وقناعته وقربه من الطبيعة، إذ كان وهو بطريرك وبعد استقالته بسبب بلوغه السن القانونية (وهو ثاني بطريرك ماروني يقدم استقالته) كان يسير كلّ يوم صباحًا في الخامسة لمدة ساعتين. وكان أمام ناظريه وفي فكره وادي قاديشا أو وادي قنوبين، مقرّ الشهادة والبطولة المارونية الأثيلة. وما عتم الكاهن الشاب أن ألّف الكتب الروحانيّة (على مثال سلفه الفذّ التقيّ البطريرك اسطفان الدويهيّ الذي هو من أساطين علماء الكتاب المقدس والطقوس في الشرق الأوسط). ومن مؤلفاته: &quot;من ينابيع الإنجيل&quot;، و&quot;غابت وجوه&quot;، وعظة الأحد، ورسائل الصوم، ورتبة العماد ورتبة الزواج. ومن أول خدمته في الرعايا، طلبه البطريرك والأساقفة ليكون أمينًا لسرّ أبرشيّاتهم إلى أن رقّي إلى الدرجة الأسقفية. وكان علمًا من أعلام التواضع والبساطة واقتضاب الكلام (على فصاحته التي كانت مضرب الأمثال) والتجرد والعادات النسكية حيث يتألق الزهد والعيش الكفاف. وأنعم الله عليه بصحّة ممتازة ساعدته في تحمل مسؤولياته الجسام بعمر طويل مبارك أي 99 عامًا!</p><p dir="RTL"><strong>الأسقف صفير بطريركًا (1986&ndash;2011)</strong></p><p dir="RTL">نقتبس هنا بعض المعطيات من مصدر فرنسي اسمه &quot;الصالون البيج <span dir="LTR">Le salon beige</span>&quot; وما توفّقنا في إيجاد اسم الكاتب. وسنرسل نسخة من هذه المقالة إلى فرنسا لتكملة معلوماتنا وتدقيقها، خصوصًا إلى صديقنا الوفيّ المصري الفرنسي السيد فرنسوا سويدان. أتت بطريركية صفير في جوّ مكهرب قاتل من الحروب بين الأشقّاء أي حروب أهلية وطائفيّة. وبعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها دخلت سورية لبنان أيضًا. وعرف لبنان ظاهرة الخضوع القسري والضغوط. وشابه شعبه شعب فلسطين لدرجة معيّنة. وبقي البطريرك صفير صامتًا لا يقول من الكلام إلاّ ما قلّ ودلّ، ببلاغة وفطنة وحيطة جعلت من المحال، نوعًا ما على مثال السيد المسيح، أن يمسكه أحد بكلمة&quot;، حتى أكثر الصحفيين خبرة وحنكة ومكرا. واهتدى البطريرك الفاضل بنور الإنجيل ملتزمًا حدوده، وهو يردّ &quot;ما لقيصر لقيصر وما لله لله&quot;. ولكن وجد نفسه كبطريرك وحيدًا في ميدان الدين والوطن لرأب الصدع - وهو المتغذي بالمجمع المسكوني الثاني حول &quot;الكنيسة في عالم اليوم&quot; ودورها في المجتمع، وبالريادة الحكيمة &ndash;وإن كانت حالمة&ndash; للمفكر والمناضل الكبير ميشيل شيحا. وكان نيافته العرّاب لاتّفاق الطائف الذي قد يكون لامه عليه كثيرون، ولكنهم سرعان ما أدركوا حكمة غبطته وواقعيته. وما توانى البطريرك صفير في أن يستمر في رسالته، مع أنّ اعتداء حصل عليه في الصرح البطريركي في &quot;بكركي&quot; سنة 1989. وما فات البطريرك أن يحاور مسلمي لبنان بالمودّة التي يتميّز بها &quot;الذين قالوا إنّا نصارى&quot; (سورة المائدة 83) وربط غبطته أواصر الصداقة مع الإمام محمّد مهدي شمس الدّين ومفتي لبنان الراحل حسن خالد الذي اغتيل لاحقًا.</p><p dir="RTL">وما اكتفى نيافته بالسهر على لبنان وعلى رعيّته على مستوى محلي وعالمي. ولا أنسى تقديمه مبلغ مليون دولار لإقامة إسكانات لرعاياه. وما حصر نفسه في حدود لبنان والشرق الأوسط بل ساهم في توعية الغرب ولا سيما فرنسا، آملا غير مرّة ألاّ تقع وسائر أوروبا الغربية في الحروب الأهلية والطائفية التي وقع فيها لبنان (في حديثه مع جمعية &quot;التضامن&quot; الفرنسية مع مسيحيي الشرق).</p><p dir="RTL"><strong>خاتمة: خير خلف لخير سلف</strong></p><p dir="RTL">إذ يقدّم المرء حارّ التّعزية لجلل الخطب المحتوم، يشكر للعناية الإلهية اختيارها للمطران المريميّ بشارة الراعي المقدام المفوّه وفعلاً &quot;الراعي والمعلم&quot; على انتخاب غبطته خلفًا للراحل الكبير. وقد قال البطريرك الكردينال الراعي: &quot;لقد علّمنا البطريرك صفير بصمته بقدر ما علّمنا بكلامه&quot;، وأتى فعله إثباتًا لقوله ومصداقيّة.</p><p dir="RTL">رحم الله البطريرك صفير وليقيمنّ الله بيننا في الشرق الأوسط كلّه &quot;رجالاً نجباء أتقياء&quot; يعنيهم الخير العامّ &quot;لمجد الله الذي يتجلى في الإنسان الحيّ&quot;، كما كتب&nbsp; القديس إيريناوس تلميذ &nbsp;بوليكاربوس تلميذ الحبيب يوحنّا. وليعطنا الرب الأمن والأمان والسلامة التي ننشدها &quot;لكي نعبده بلا خوف كل أيام حياتنا&quot;!</p>