موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٠
البابا فرنسيس.. هل يضحى وسيط سلام بين الإسرائيليين والفلسطينين؟

إميل أمين | خاص بابونا :

هل يسعى البابا فرنسيس في طريق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين هذا العام مسعى خاص، في محاولة جادة وجدية بعد أن بدأت نظيرتها التي قام عليها السياسيين تبؤ بالفشل لاسيما الصفقة الأشهر التي كثر الحديث عنها مؤخرًا والتي عرفت بـ"صفقة القرن"؟

قبل الجواب، ربما ينبغي علينا القول بأن قضية السلام هي شغل شاغل لكافة بابوات روما، وربما من أهم الوثائق التي خرجت في النصف الثاني من القرن الماضي في هذا السياق وثيقة "السلام في الأرض" Pacem in Terrisلسعيد الذكر الراحل البابا يوحنا الثالث والعشرين، والذي تحدث عن سلام أساسه الحقيقة والعدل والمحبة والحرية.

قبل أن ينصرم العام الماضي، وفي حرم جامعة اللاتيران الحبرية بروما، وخلال اختتام مؤتمر حول موضوع "التربية، حقوق الإنسان والسلام: أدوات العمل ما بين الثقافات ودور الأديان"، تطرق الحبر الأعظم في كلمته إلى مسؤولية تربية الأجيال الناشئة على السلام كيما تتمكن من مواجهة التحديات المطروحة في زماننا الحاضر، ورأى أنه من الأهمية بمكان أن تقدّم اقتراحات خلاقة للمستقبل فضلا عن مساعدة كل شخص على النمو ليصير رائدًا.

قضية السلام إذًا بالنسبة إلى فرنسيس هاجس ملّح عليه في صحوه ومنامه، وفي رسالته للأول من يناير كانون الثاني الحالي، أي رسالة اليوم العالمي للسلام والتي جاءت هذا العام تحت عنوان "السلام مسيرة ورجاء: حوار ومصالحة وتوبة بيئية"، أكد فرنسيس على أن السلام قيّم للغاية، وهو مقصد رجائنا، الذي تتطلع إليه البشرية جمعاء، وترجى السلام هو موقف بشري يحتوي على توق وجودي"، ومضيفًا أن "الرجاء هو الفضيلة التي تجعلنا ننطلق وتعطينا أجنحة للمضي قدمًا حتى عندما تبدو العقبات صعبة التخطي".

■ هل كان فرنسيس يمهد الأرض لزيارته القادمة والثانية إلى الأراضي المقدسة، كما تشير بعض الأخبار الواردة من روما المدينة المقدسة؟

الشاهد أنه على الرغم من أن رسالة السلام كل عام تحمل حديثًا وافرًا عن تلك العطية الربانية ذات الأهمية الكبرى، إلا أن كلمات رسالة العام الجاري جاءت مثيرة للانتباه لاسيما وأنها شملت انعطافة لا تخطئها العين على الضد من السلام، من منطلق الفكرة التقليدية "وبضدها تتمايز الأشياء"، فقد تحدث الرجل ذو الثوب الأبيض عن علامات الحروب والصراعات التي تبقى محفورة في ذاكرة المجتمع البشري وجسده، وقد شدد على أسباب اندلاع الحروب التي تبدأ برفض اختلاف الآخر، وتتعزز برغبة الاستحواذ والهيمنة بواسطة العنف والظلم.

وكأني من على البعد كان فرنسيس يخاطب الطرفين المتصارعين بقوله إن "الحرب تولد في قلب الإنسان"، وأنه "علينا أن نعمل من أجل الأخوّة الحقيقية، التي تبنى على أساسها المشترك في الله، والتي نمارسها عبر الحوار والثقة المتبادلة، ومضيفًا إن الرغبة في السلام مدرجة بعمق، في قلب الإنسان، ويجب ألا نقبل بأقل من ذلك".

في الاسبوع الأخير من ديسمبر كانون الأول الماضي، وفي اختتام زيارته إلى حاضرة الفاتيكان، أعلن رئيس بلدية الناصرة، علي سلام "أن البابا فرنسيس ينوي القيام بزيارة أخرى إلى الأراضي المقدسة خلال العام القادم تلبية لدعوة القادة الإسرائيليين والفلسطينيين، وأنه سيقيم الصلوات في كل من القدس وبيت لحم والناصرة، من أجل كسر الجمود ودفع عملية السلام في الشرق الأوسط".

يضيف سلام أنه في لقائه مع البابا، لمس رغبة جامحة لديه لدفع عملية السلام، وأن مصادر في السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية أبلغته بأن هناك اتصالات تجريها الجهتان مع الفاتيكان، لتنسيق موعد الزيارة وبرنامجها التفصيلي، وأكد أن الحديث يجري عن إمكانية اتمامها في عام 2020، وأن لم يتحدد بشكل رسمي حتى الآن".

■ هل لبابا روما أن يلعب دورًا حقيقيًا على صعيد نشوء وإرتقاء سلام حقيقي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؟

من دون إختصار مخل أو تطويل ممل، يعرف الجميع أن حاضرة الفاتيكان قد رفضت فكرة "تيودر هيرتزل" بإقامة وطن لليهود في أرض فلسطين، ففي السادس والعشرين من شهر يناير كانون الثاني من العام 1904، التقى هيرتزل البابا بيوس العاشر، والذي طلب من الحبر الأعظم أن يساعده على إقامة وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية.

يومها أجاب البابا بيوس بقوله: "نحن لا نستطيع أن نساند هذه الحركة (الصهيونية)، ولا يمكننا منع اليهود من الذهاب إلى القدس، كما أننا لن نضع قيودًا عليها. إن أرض القدس، وإن لم تكن دائمًا مكرسة لعبادة الله، قد قدسها يسوع المسيح بحياته فيها. وأنا بصفتي رئيسًا للكنيسة لا أستطيع أن أجيبك خلاف ذلك. اليهود لم يعترفوا بسيدنا يسوع المسيح، لذلك لا يمكننا نحن الاعتراف بالشعب اليهودي، والقدس على هذا الأساس لا يمكن وضعها في أيدي اليهود".

كان الرفض الفاتيكاني، أي رفض الكنيسة الكاثوليكية لطلب هيرتزل إقامة وطن لليهود في فلسطين منشأه أمران، الأول هو عدم اعتراف اليهود بالسيد المسيح، والثاني رفض الفاتيكان وقوع الشعب الفلسطيني ضحية، وهو ما حدث لاحقًا بالفعل.

استمر الفاتيكان في وضعه الرافض لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل طوال خمسة وأربعين سنة، إلى أن عقدت اسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية إتفاق اوسلو، وفي ذلك الوقت وجدت علاقات دبلوماسية كاملة بين الفاتيكان وإسرائيل منذ نهاية العام 1993، غير أن الفاتيكان بقي على موقفه المؤكد والمعضد لقيام دولة فلسطينية مستقلة تعيش بأمن وسلام بجوار الدولة الإسرائيلية. وفي العام 2015 تم الاعتراف رسميًا من قبل الفاتيكان بدولة فلسطين، وتم توقيع اتفاق ثنائي بين الكرسي الرسولي ودولة فلسطين، الأمر الذي يعد إقرارًا رسميًا بوجود هذه الدولة.

والثابت أنه حين قرر الرئيس الامريكي دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة موحدة للشعب اليهودي، دعا البابا فرنسيس إلى احترام الوضع القائم في القدس والتحلي بـ"الحكمة والحذر". وقال في مقابلته نهار الأربعاء اللاحق لقرار ترامب: "لا يمكنني أن أكتم قلقي الكبير حيال الوضع الذي نشأ في الأيام الأخيرة حول القدس، وأوجه نداء من القلب حتى يلتزم الجميع باحترام الوضع القائم في المدنية، بما يطابق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة".

ويومها تابع البابا فرنسيس أمام آلاف المؤمنين "القدس مدينة فريدة، مقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين الذين يصلون فيها كل في المواقع المقدسة لديانته، ولها رسالة خاصة من أجل السلام". وأضاف: "أرجو من الله أن يتم الحفاظ على هذه الهوية، وترسيخها بما هو لصالح الأرض المقدسة والشرق الأوسط، والعالم أجمع، وأن يتم تغليب الحكمة والحذر لتفادي زيادة عوامل توتر جديدة إلى مشهد عالمي تسوده بالاساس الاضطرابات وتهزه العديد من النزاعات الضارية".

لم تغلق أبواب الفاتيكان في وجه الفلسطينين أبدًا، وفي عهد فرنسيس كانت مفتوحة لكبار القادة منهم، فقد زار الرئيس محمود عباس (أبو مازن) البابا فرنسيس عدة مرات، فيما كانت الاتصالات الهاتفية في أوقات الأزمات قائمة ومستمرة.

وعلى هامش الأزمة الخاصة بنقل السفارة، كان البابا فرنسيس أيضًا يلتقي الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، في محادثات تتطرق إلى مسألة تعزيز السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، مع الإشارة الخاصة إلى مسألتي مدنية القدس، والدور المتمثل بالوصاية الهاشمية على المقدسات، والذي تقوم به المملكة الهاشمية الأردنية.

ولعلّ ما يفتح الأبواب واسعة أمام فرنسيس في مهمته القادمة، وما يساعد على حلحلة الوضع المتأزم والمعقد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، هو أن فرنسيس رجل له داله على الجماعة اليهودية حول العالم، وهو موقف بابوي يتسق مع مسارات ومساقات بقية بابوات روما منذ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وحتى الساعة، والذي يختلف كثيرًا عما كانت عليه العلاقة قبل قرون بين البابوية والجماعة اليهودية، الأمر الذي لا تزال تحتفظ به كتب التاريخ وسطور الأدباء.

في أكتوبر تشرين الأول الماضي، وفي مناسبة الاحتفال بالأعياد العبرية روش هشانا، يوم كيبور وسوكوت، بعث فرنسيس رسالة إلى حاخام روما الأكبر ريكاردو دي سينيي، لتهنئته وتهنئة الجماعة اليهودية في روما. كانت الرسالة تحمل كثيرًا من المعاني الظاهرة والباطنة، إن جاز التعبير، وربما كانت تهيىء الرأي العام إلى خطوات فرنسيس القادمة على صعيد سلام حقيقي بين الجانبين.

قال فرنسيس في رسالته: "إنني أتوجه بفكري إلى الجماعة اليهودية في العالم أيضًا، راجيًا أن تعود هذه الأعياد بوافر البركات وأن تكون ينبوع فرح ". وخلص البابا متضرعًا "لكي يساعدنا الله كلي القدرة على الشهادة له بالتزامنا من أجل الآخرين، وتعزيز العدالة والسلام، وأن يقوي في كل مكان برحمته اللامتناهية روابط الصداقة والرغبة في تشجيع حوار مستمر من أجل خير الجميع".

والشاهد أن ما يجعل فرنسيس رجل مقبول من كافة الأطراف هو أنه يدافع عن الإنسان بغض النظر عن دينه أو مذهبه، كما أنه يرفض فكرة تحقير شأن الكائن البشري، وكما وقف ضد كل أشكال الاضطهاد والقمع التي يتعرض لها المسيحيين في بقاع وأصقاع الأرض. انتصب قائمًا أكثر من مرة للدفاع عن حقوق بقية أتباع الأديان، ففي مواجهة الجرائم التي تصل إلى حد الإبادة بالنسبة لمسلمي الروهينجا، رفع الحبر الأعظم صوته منددًا بما يجري لهم من جراء إيمانهم ودينهم الإسلامي. وبالقدر نفسه في اكتوبر الماضي أيضًا، عبر فرنسيس عن تضامنه مع الجماعات اليهودية بعد الاعتداء الذي حصل أمام كنيس ألماني في مدينة هاله، وذلك خلال افتتاحه أعمال سينودس الأساقفة لأجل الأمازون.

■ هل من علائم أخرى في الأفق تبيّن أن هناك حراكًا ما يجري في عمق الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لتحريك عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟

يمكن أن يكون هناك بالفعل بعض الإشارات المثيرة للانتباه، ففي منتصف يناير كانو الثاني الحالي اختتم أساقفة كاثوليك من أوروبا وأميركا الشمالية زيارتهم إلى الأرض المقدسة، متوسلين حكوماتهم للمساعدة على بناء حل سياسي جديد متجذر في الكرامة الإنسانية للجميع في إسرائيل وفلسطين، الأمر الذي يؤكد حتمية قيام دولة فلسطينية مستقلة في فكر هولاء.

وفي بيان لهم أشار هولاء الأساقفة إلى أن هناك حاجة ملحة أن تلعب حكوماتهم في أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية دورها، مشددين على أنه يجب تطبيق القانون الدولي، واقتراح الكرسي الرسولي المطالب بالاعتراف بدولة فلسطين بالإضافة إلى التنبّه إلى المسائل الأمنية في إسرائيل وحق الجميع في العيش بأمان.

هل يفعلها "فقير الفاتيكان" وينجح فيما أخفق فيه العظماء والحكماء من رؤساء ومشيري العالم، ويأتي بالسلام إلى حيث ولد أمير السلام، والذي رنمت له الملائكة يوم مولده: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة"؟