موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٣١ مارس / آذار ٢٠٢٠
الاب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني يكتب: الله يتكلم بصمته!
الأب الدكتور ريمون جرجس الفرنسسكاني، متخصص في القانون الكنسي

الأب الدكتور ريمون جرجس الفرنسسكاني، متخصص في القانون الكنسي

الاب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني - دمشق :

 

"لِلصّمْتِ وقتٌ وللنُّطقِ وقْت" (سفر الجامعة 3، 7)

 

إنّ طريقة الله في التكلّم تبدو صعبة. يعلنها صاحب المزامير ذلك ببلاغة: " أللّهُمّ لا تظلّ ساكِتًا. لا تصمُتْ ولا تهدأْ يا أللّه" (مز 83: 2). " لماذا تحجُبُ وجهك؟" ​​(مز 44، 25). " لِم تقولُ الأُمم: (( أين إِلهُهم ))؟" (مز 115: 2). من خلال النص المقدس، تُطرح هذه الأسئلة على شفاهنا وفي قلوبنا: يريد الله أن نطرحها، وأن نتأملها في صلاتنا. هذه أسئلة مهمّة. من ناحية، لأنّها تشير مباشرة إلى الطريقة التي عادة ما يكشف بها الله عن نفسه، إلى طريقة تفكيره: تساعدنا في فهم كيفية البحث عن وجهه، والاستماع إلى صوته. من ناحية أخرى، لأنها تبرهن على الصعوبة التقرب منه، خاصة في الظروف الصعبة في الحياة، وهذه تعتبر خبرة مشتركة بين جميع البشر مؤمنين وغير مؤمنين وإن كانت تتخذ أشكالًا مختلفة في كليهما. الإيمان وحياة النعمة لا تجعل الله واضحًا: حتى المؤمن يمكنه أن يختبر الإحساس بغياب الله.

 

نقرأ في المزمور 19: "السّمواتُ تُحدِّثُ بِمجْدِ الله والجلدُ يُخبِرُ بِما صنعت يداه". يتكلم الله من خلال صمت أعماله. هذا هو البعد الأول لصمت الله، حيث تخبر السماوات مجد الله، لذلك ليست هناك حاجة للكلمات. ما هو موجود، الطبيعة، الأرض، السماء، تتحدث إلينا، وتُصمت الخالق. هذا هو الجانب الأول لظاهرة الصمت: الكتابة الصامتة من السماوات، التي تجعلنا مندهشين أمام جمال الخلق. لذلك الطبيعة هي التي تحدّثنا عن الله نفسه في صمت. ولكن هناك شيء أعمق. الله وحده قادر على كسر صمت السماوات واقتحام صمت القلب: هو الوحيد الذي يستطيع أن يتكّلم معنا بكلمات المحبّة. هذا ما حدث في الوحي، أولاً مع شعب الله المختار، ثم بيسوع المسيح، الكلمة الأبدية الّذي صار جسدًا. "Deus dixit": لقد تكلم الله! في أحداث وكلمات الحياة، والتي كتبت بإلهام الروح القدس، واصبح كتابًا مقدسًا، موطن كلمة الله بكلمات البشر، وجود الله الحي بعلامة كلمته.

 

لذلك الكتاب المقدس الملهم يشارك بالقوة الإلهية: " لِأنّه كما ينزِلُ المطرُ والثّلجُ مِن السّماء ولا يرجِعُ إِلى هُناك دون أن يُروِي الأرض ويجعلها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِي الزّارع زرعاً والآكِل طعاماً فكذلك تكونُ كلِمتي الّتي تخرُجُ مِن فمي: لا ترجِعُ إِليّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتنجحُ فيما أرسلْتُها له"(أشعيا 55، 10). وهكذا، الله، يستمر في الكلام: لم يتم استنفاده بفعل الوحي، لكنه يبقى حياً من خلال كلمات الكتاب المقدس، وحاضرًا في التاريخ وحياة كلّ إنسان، يستمر في التواصل معنا. مصطلح العبري "dabar" القوة الديناميكية والحيوية لكلمة الله: تُرجم "كلمة"، وهذا يعني بشكل صحيح ما يكمن وراء الكلمة ويعطيها القوة، حتى تصبح فعلًا فعّالًا. الرب يقول ما يفعل ويفعل ما يقول. في استمرارية هذا الفعل الأبدي في كلمات وأحداث تواصله الذاتي التاريخي، يتم اكتشاف الوحي الإلهي بأكمله: كيف يمكن لشجرة الاستغناء عن الجذور الذي تأتي منه؟ "إِذا كان الأصْلُ مُقدّساً، فالفُروعُ مُقدّسةٌ أيضاً. فلا تفتخِرْ على الفُروع... وإِذا افتخرت، فاذكُرْ أنّك لا تحمِلُ الأصْل، بلِ الأصْلُ يحمِلُك" (روم 11،16، 18).

 

نقرأ في سفر التكوين رواية سدوم، تلك المدينة التي دمرتها أمطار من النار والكبريت (تكوين 18-19). في الفصل 18 نجد حوار بين إبراهيم والله حيث يطلب الأول من الله أن ينقذ المدينة إذا وجد رجلًا صحيحًا أمام عينيه والله يؤكد له أنه سينقذ المدينة بحكم الصالحين. بينما نجد في الفصل 19 لقاء بين ملاكين مع لوط الذي يرحب بهما في منزله وتدخّل الأشخاص الذين أرادوا الدخول لإساءة معاملتهم مدفوعين بالانحراف الأخلاقي القاسي. يقدم لوط بناته في المقابل، لكن عناد الناس يتسبب في أن الملائكين، اللذين أرسلهما الله لتدمير المدينة، يدعوان لوط، الصالح الوحيد، للهروب مع عائلته.

 

يشير الصوت في الكتاب المقدس دائمًا لحضور شخص حتى لو لم يكن مرئيًا وهو أحد الصور المستخدمة للإشارة إلى وجود الله:"صوتُ الرّبِّ على المِياه إِلهُ المجدِ أرعد الرّبّ على المِياه الغزيرة. صوتُ الرّبِّ بِالقوة صوتُ الرّبِّ بِالبهاء. صوتُ الرّبِّ يُحطِّمُ الأرْز يُحطِّمُ الرّبُّ أرز لُبْنان... صوتُ الرّبِّ يقُدُّ شُهُب نار. صوتُ الرب يُزلزِلُ البرية يُزلزِلُ الربُ برية قادِش. صوتُ الرّبِّ يُزعزعُ البُطم ويُعرِّي الغابات كلّ يقولُ في هيكلِه: (مز 29).  وهذا الوجود الإلهي من خلال الصوت هو أكثر من رسالة، هو حضور يحتاج إلى مزيد من المواصفات ليكون مؤهلاً ومعترفًا به. سمع الناس في جبل سيناء صوت كلام الله (تثنية 4، 12) دون أن يروا صورته، وكان إعلان العهد (تثنية 4، 13)، هنا أشار الصوت إلى وجود الله ورسالته، لكن الله لم يكن مرئيًا. بينما في سفر الخروج 19: 19، "كان صوتُ البوقِ آخِذاً في الآشتِدادِ جِدّاً، وموسى يتكلّم والله يُجيبُه في الرّعْد"؛ وفي الفصل 20: 18 ، "كان الشّعبُ كُلُّه يرى الرُّعود والبُروق وصوت البوقِ والجبل يُدخِّن. فلمّا رأى الشّعبُ ذلك ارتاع ووقف على بُعْد وقال لِموسى: كلِّمْنا أنت فنسمع ولا يُكلِّمْنا اللهُ لِئلاّ نموت".

 

دعونا نلقي نظرة على قصة إيليا (1ملوك 19). إيليا هو نبي التوحيد. اسمه El-ià يعني "الله وحده هو الله". يحارب إيليا الوثنية ويدافع عن أولوية الله في زمان هزيمة الله؛ حيث تريد الملكة إيزابيل فرض البعليم، الأصنام، إيليا يدافع عن الله، ونكتشف شيئًا متناقضًا. النبيّ إيليا بعد الفوز في الصدام مع أنبياء بعل على جبل الكرمل، يتعرض للاضطهاد مرة أخرى، ويهرب ويريد الموت، لأنه يبدو له أن كل شيء لا طائل منه. لكن الرب يجعله يأكل خبزا وبفضل القوة التي يمنحه الخبز، يمشي إيليا 40 يومًا و40 ليلة، حتى يصل إلى حوريب، الجبل المقدس، وعلى الجبل سوف يختبر الله.  فإِذا الرّبُّ عابِرٌ وريحٌ عظيمةٌ وشديدةٌ تُصدِّغ الجِبال وتُحطِّمُ الصُّخور أمام الرّبّ. ولم يكُنِ الرّبُّ في الرِّيح. وبعد الرِّيح زِلْزالٌ، ولم يكُن الرّبُّ في الزِّلْزال وبعد الزِّلْزالِ نار، ولم يكنِ الرّب في النار". لذلك الرّب ليس في أي من هذه علامات القوة ولا النار ولا الرياح ولا الزلزال. أين يعيش الله؟ "بعد النّارِ صوِت نسيمٍ لطيف". إيليا عرف الله بصوت الصمت، وبالصمت الناعم.

 

على الجبل، تفتح كلمة الله طريقاً آخر لتذوق حضور الله، فالكلمة أكثر من أن تنبع من الصمت تنفتح على صمت اللقاء. فالكلمة لها وظيفة الوصول إلى الصمت. ضجيج الكلمات قد ينقطع من الكلمة التي تنفتح على صمت حضور الله وتصل إلى "صوت" الله الذي هو "هدوء خفيف". أحاسيس إيليا (الخوف من الملكة، العزلة، اليأس والرغبة في الموت) تم التغلب عليها بدعوة الملاك لتناول الطعام والشراب، وهو رمز لقبول هبات الله كي يسير في صمت تجاه الهدف الذي يعطيه الله. تبرز الكلمة مرة أخرى على الجبل العالم العاطفي لإيليا والله يساعد إيليا على إزالة العقبات المتبقية من خلال اعطاء قيمة للحواس والجسد. يتم  اللقاء مع الله في صمت العقل والعاطفة والجس: إنّه اللقاء خارج الكهف، خارج عالم الأنا الضيق، ووجهه مغطى كما لو كان إيليا يقول أنّه تخلى عن أي ادعاء بأنه يقترب من الله، وادرك أن الله هو الذي يقترب منه.   وبعد ذلك، أصبح مستعد للقبول بالمهمة التي أوكلها إليه الله. فإنّ الصمت أكثر من مجرد إظهار كلمة جديدة، إنّه يخرج هدفًا جديدًا، وتوجهًا جديدًا للحياة التي هي الرسالة.

 

ماذا يعني هذا؟ أن الله لا يتحدث في علامات قوة وعظمة العالم. يتحدث الله حيث لا ذكائنا وقلبنا لا يعطيه موعداً، والله يتكلّم حيث "الصمت يتحدث عنه إلينا، صوت الصمت.  هذه هي الظاهرة الثانية عن إله الصمت. عندما لا تستطيع أن نفعل شيء، عندما نرغب في وضع حدّ ما لقضية، وعندما يبدو أن كل شيء ضائع، خبز فقط، أمام الله، يجعلنا نمشي باتجاه الجبل المقدس، فإن الله لا يتحدث في القوة والعظمة، بل في الهزيمة. "الله يتكلم بصمته". في الحقيقة، وُلدت كلمات يسوع في صمته على الجبل، في كيانه الوجوديّ  مع الآب. من صمت الشركة مع الآب، تولد الكلمات. الرب يدعونا لنصعد معه على الجبل، وفي صمته نتعلم المعنى الحقيقي للكلمات، ونكتشف عظمة الله وأنّ كلماتنا تصبح صغيرة جدًا.

 

هل يمكننا القول أن إله يسوع هو إله الصمت؟. يكتب القديس يوحنا الإنجيليّ في مقدمة إنجيله: "الكلمة صار جسدًا". هذه الكلمة المتجسد يمكن قبوله إلا بطريقة واحدة: في صمت.  يقول القديس يوحنا الصليب: "نطق الآب كلمته في صمت أبدي، لذلك في صمت يجب أن يسمعها الناس". فعتدما نسمع الكلمة ليس عندما نكررها بصوت عال، ولكن عندما نصمت، ولأن الكلمة يسكن فينا، وهذا الصمت هو ما يسميه العهد الجديد الروح، الإيمان. يكتب الكاردينال روبرت سارة في كتابه "قوة الصمت"، "أنّ الصمت هو الوحيد القادر على التعبير عن الله، والله يعيش في صمت عظيم. الصمت هو قانون مخططات الإلهيّة. بينما القوى الدنيوية التي تسعى لتنشئة الإنسان الحديث تبعده بشكل منهجي عن الصمت".  نحن أمام حالة التخلي عن الصمت باعتباره عقبة أمام قبول الله من خلال الصلاة.

 

ساعة الصليب هي الوقت الذي فيه يسوع المسيح يدخل في صمت ككلمة المتجسد؛ إنه وقت صمت الآب أمام موت الابن؛ إنه وقت التدفق الصامت للروح، شركة حب غير مرئية. عيد الفصح هو الحدث الذي يتألق فيه بلاغة الحب في صمت. كلمة الآب، مستسلمًا حتى النهاية، قال كل كلماته: أصبح تلك الكلمة "المحبة" هي لغة الله. الصمت في لحظة الصليب كلمة لا توصف: يجب البحث عن صورة الإله غير المنظور في الإنسان المعلّق على الصليب، أي الكلمة التي تعبر عن محبته لنا. "الاستماع الأصيل للكلمة هو سماع الصمت وراء الكلمة: "من رآني رأى من أرسلني'' (يو 12، 44).