موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢٨ ابريل / نيسان ٢٠٢٠
الأب عماد علامات يكتب من الولايات المتحدة: حتى لا تضيع الفرصة!

الأب عماد علامات :

 

يتساءل الإنسان في هذه الأوقات عن ماهية المكتسبات التي حققها في زمن كورونا، وعن إمكانية فقدان تلك المكتسبات في حال عادت عجلة الحياة إلى سابق عهدها.

 

ان إختبار الإحساس بالفقدان لأشياء كثيرة في بداية الأزمة، أدخل الإنسان في كل العالم في دائرة الملل والضجر والشعور بالقيود الخارجية والداخلية، وتولدت لديه الرغبة الشديدة بكسر تلك الحالة دون جدوى. ومع إستمرار الحال على ما عليه، أخذ المرء يصارع في ذاته ليبتكر طريقًا يبقيه على قيد إنسانيته وفرحه وحريته، ففتحت تلك الأزمة طريقًا للإنسان إلى ذاته التي كان بعيدًا عنها بسب فوضى الحياة ومواكبة متطلبات المجتمع والعمل وغيره، وهنا تكمن الفرصة الذهبية.

 

وعندما نقول فرصة نعني الإستفادة من التحدي ناظرين الى المستقبل لبناء ذاتي أكثر صلابةً وتماسكًا مما سبق، ولا نعني بالفرصة أن يحيا الإنسان مدى حياته بالتقوقع في دائرة ذاتيته، بل أن ينطلق منها بعد أن نفض الغبار عنها، لعلاقات إنسانية متجدّدة مع الآخرين، فالوقوف أمام الذات هو مهارة يجب تعزيزها وتعميقها وإثراؤها، ولكن يجب ألا تتحوّل تلك الوقفة الى تقوقعٍ وإنغلاق وإعتكافٍ وإنكفاء، فيصبح الإنسان فردًا (Individual)  منعزلاً بدل من أن يكون شخصًا (Person) منفتحًا.

 

يقول الفيلسوف الفرنسي ذو النزعة الإنسانية إيمانويل مونييه: «إن وجود المرء مرهون بتوجهه نحو الآخرين ، فهو لا يستطيع أن يعرف ذاته إلا من خلال الآخرين، فمعنى وجوده يكمن فيهم. الخبرة الأولى للشخص هي خبرة الشخص الثاني "الأنت"، وبالتالي "النحن" تصاحب "الأنا". إذاً، من يغلق نفسه في "الأنا" لن يجد طريقة للآخرين. عندما يصبح التواصل ضعيفاً وفاسداً، يفقد المرء نفسه بشدة. وعليه، يمكن للمرء أن يقول: أنا "موجود" فقط عندما أعيش للآخرين، أنا موجود يعني أن أُحب».

 

الفرصة الذهبية إذًا، هي تلك الفرصة التي تطلقنا إلى الحياة وإلى لقاء الآخر إنطلاقًا من ذاتنا التي إكتشفت أن الحرية تنمو أولاً في داخلنا، وأن الفرح ليس رهن الظروف، وأن التواصل ممكن عبر وحدة الروح، وأن العائلة مدرسة حب وتواصل وإكتشاف ودائرة أمان.

 

الفرصة الذهبية كذلك، هي الحالة التي من خلالها ننفض غبار السلبية عن أصالة قيم البساطة والصمت الخلاق، وقيم التكافل والتضامن والإيثار (اي تفضيل الآخرين على نفوسنا)، وقيمة وتقبل الذات بمحبة لتاريخها الجميل رغم هشاشته، وتقبل ومحبة الآخر رغم محدوديته.

 

الفرصة الذهبية تجد ألقها عندما يدرك الإنسان أن البعدين الروحي والإنساني في حياته لا يقلان أهميةً عن البعد الجسدي، وعندما يدرك أن نموّه وتحقيق ذاته لا يكتمل إلا بنموٍّ شامل لتلك الأبعاد مجتمعة، فكما كان يقول أجدادنا "القِدِر ما يركب الا على ثلاث"، فالنفس والجسد والروح هي تلك "الثلاث" التي تُبنى عليها حياة الإنسان ومنها يستمد كرامته. لذلك، فالعلم والإيمان من الممكن أن يلتقيا، والمختلفون يمكنهم الإجتماع على قواسم إنسانيتهم المشتركة.

 

الفرصة الذهبية هي حالة وعيٍ مجتمعي، يضع السياسي ذاته في خدمة الإنسان مهما كان، متجرّدًا من كل أنانيةٍ ووصوليةٍ وفساد، فيجد في الجهد والتعب في الخدمة لذةً وتحقيقًا للذات، بعيدًا عن الجاه الأجوف، فيقطف ثمر تضحيته حبًا وولاءً وتعاونًا وثقةً من قبل مواطنيه. الفرصة الذهبية للمجتمع تكمن في تحويل الإبداع المؤقت في وقت الأزمة الى نهجٍ إستراتيجيٍّ مبدع يقوده أولئك القادة ذوو الإرادة الحسنة، الممَكنين والمتمكنين لقيادة الدفة. هي فرصة ذهبية للمؤسسة الدينية أن تعود الى ألق شهادتها لشيء مختلف لتفتح القلوب والعيون عندما تُغقلها الأنانية وتنهكها أثقال الحياة، معلنةً أن للعالم ربٌّا محبٌّا، رحوما وغفورا، يفتح القبور ويعطي الحياة بوفرة.

 

لا تخف من عودة الحياة بل ثمنّ ذلك، لكن إجعل دائمًا من العودة إلى الجذور نهجًا ديناميكيًا يطلقك دائمًا إلى فرصٍ جديدة، وإلى حياةٍ جميلة، وإلى خياراتٍ أكثر عمقًا.