موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٣١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢
الأب ريمون جرجس يكتب: الحياة المكرسة والشركة الكنسية
الأب ريمون جرجس الفرنسيسكاني، المدبّر الرسولي للنيابة اللاتينية في سوريا

الأب ريمون جرجس الفرنسيسكاني، المدبّر الرسولي للنيابة اللاتينية في سوريا

الأب ريمون جرجس الفرنسيسكاني :

 

أعطت السلطة الكنسية التعليمية، من خلال وثائقها أهمية وقيمة لموضوع الحياة المكرسة كأسلوب حياة الذي يتطلب، داخل الكنيسة نفسها، رسالة تتمحور حول نقل الإنجيل بدءًا من الاتباع الرب يسوع وخبرة الحياة الأخوية الجماعية. ومن هذه الوثائق، المجمع الفاتيكاني الثاني الذي يعتبر أول مجمع كنسي عالج موضوع الحياة المكرسة مخصصًا له فصلًا أساسيًّا في أطروحته العقائديّة حول سرّ الكنيسة. لسوء الحظ، حتى اليوم، يجد بعض اللاهوتيّين صعوبة في أخذ هذه الحداثة المطلقة في الاعتبار، ولا يزال الكثيرون يتحدثون عن الكنيسة دون ذكر الحياة الرهبانيَّة. مع ذلك، يجب علينا انَّ ندرك إنَّه لا يمكننا التحدث بجديَّة عن الكنيسة دون فهم انَّ الحياة الرَّهْبانيّة متضمّنة فيها بعمق.

 

في الحقيقة، كانت مساهمة المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في الحياة المكرَّسة عظيمة والَّذي ناشد بالعودة إلى الجذور، وإعادة اكتشاف جذورها في الكتاب المقدس، وإعادة اكتشاف روح المؤسّسين، وتجديد الأنظمة، والدراسة اللاهوتية. من بين كلّ هذه، هناك لا شك في إعادة اكتشاف المواهب. في الواقع، كان هذا الاكتشاف في قلب الجدل المجمع، ففتح طريقًا مثمرًا جدًا لتطوير علم الإكليسيولوجيا، ودعا إلى الانتقال من نهج قانوني-روحي للحياة المكرَّسة إلى نهج يعترف بأولوية اللاهوت. فحقّق المجمع الفاتيكانيّ الثّاني (1962-1965) نقطة تحوّل في هذه الرؤية الَّتي دامت قرونًا عديدة: مع المجمع أصبح البعد الكاريزماتيّ للكنيسة مركزيًّا، إلى جانب البعد التراتبيّ. نقرأ في الدستور العقائدي نور الأمم، الذي وضع الكنيسة في المقدمة باعتبارها "سر شركة"، كما لم يحدث من قبل، أن "الحالة التي تشكلت من خلال المشورات الإنجيلية، على الرغم من أنها لا تخص البنية السلطة التراتبية للكنيسة، إلا أنها تنتمي إلى حياتها وقداستها" (عدد 44). وتم تعريف الحياة المكرسة على إنَّها هبة إلهيّة أعطاها الله للكنيسة مؤكداً أنها تولد في الكنيسة، وتنمو في الكنيسة، وتتوجّه بالكامل إلى الكنيسة. وهي موجودة في الكنيسة من أجل الكنيسة، «على الرغم من إنَّها لا تتعلق بالهيكليَّة التراتبية للكنيسة، فهي تنتمي إلى حياتها وقداستها».

 

والحياة المكرّسة هي طريقة عمل الكنيسة ورسالتها. وجميع المؤسسات الحياة المكرّسة هي إرث الكنيسة، وهي الكنيسة نفسها المنظمة بطريقة خاصة جدًا لتحقيق أهذافها الأساسية: البحث عن إتباع الرَّب، انتشار ملكوته، كمال المحبّة، عبادة الله بلا انقطاع. لهذا السبب لا يمكن الاستغناء الكنيسة أبدًا عن الحياة المكرّسة، الحاضرة منذ البدء، كعنصر أساسي لا غنى عنه. أكّد البابا يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسوليّ "الحياة المكرّسة" أنه قد عقد سينودسًا حول الحياة المكرسة من أجل "الدور المهم" الذي تلعبه في الكنيسة (عدد 2). وأن الحياة المكرسة، ليست حقيقة معزولة وهامشية، بل هي من مهامّ الكنيسة كلها. ولقد قرّر الأساقفة ذلك مرارًا في السينودس: "تلك مسألة تهمنا" والواقع أن الحياة المكرّسة تقع في قلب الكنيسة، وهي جزء لا يتجزأ من رسالتها، وذلك بأنها تجعلنا نفهم الدعوة المسيحية في صميم طبيعتها" (عدد 3).

 

كون الحياة المكرَّسة، جزءًا حيًّا ومشتركًا في الكنيسة، فهي تشترك بصفة خاصّة في الشركة الكنسيَّة، وتعبّر عنها بطريقة مميزة. وبالتالي، تقترح نفسها كمكان مميز لاختبار حياة الثالوث. على الرغم من تنوع الإلهامات والأشكال الَّتي عبرت فيها عن نفسها تاريخيًّا، إلا أنَّ الحياة المكرَّسة كانت دائمًا مدركة لضرورة النظر ليس فقط إلى مثال الشركة الَّذي أشار إليها أعمال الرسل في الجماعة المسيحيَّة الأوليَّة في أورشليم، حيث كانوا جميعًا «قلبًا واحدًا وروحًا واحدة» (أعمال 4: 32) ولكن بشكل أكثر جذريًّا إلى نموذجها الأصلي، إلى النموذج الأولي للشركة الإلهية في الثالوث. فالحياة الثالوثية للشراكة تشكل هوية الكنيسة ورسالتها.

 

لذلك تهدف كلّ مؤسّسة رهبانية بواسطة اعضائها، حياتهم وأعمالهم، إلى استمرار مهمة المسيح الخلاصيَّة نفسها. وجميع أعضاء الكنيسة مدعوون لتشكيل جسد واحد في المسيح، ليعيشوا شركة مشتركة مع بعضهم البعض من خلال رابطة روح الله القدوس. "ذاك الذي رأيناه وسمعناه نبشركم به أنتم أيضاً لتكون لكم أيضاً مشاركة معنا ومشاركتنا هي مشاركة للآب ولابنه يسوع المسيح" (1 يو 1، 3). بالتالي أساس الشركة، هو المسيح، ومن خلاله الثالوث سرّ المحبَّة. أي لا يمكن الحديث عن المسيح بشكل صحيح دون الحديث في الوقت نفسه عن الآب، ولا يمكن الحديث بشكل صحيح عن الآب دون الاصغاء إلى الروح القدس. لدلك "مفهوم الشركة هو «في قلب وعي الكنيسة، كونها سرّ الاتّحاد الشَّخصيّ لكلّ إنسان مع الثالوث الإلهيّ ومع البشر الآخرين، تبدأ من الإيمان، وتكون موجّهة نحو ملء تحقيق الإسكاتولوجيّ في الكنيسة السماويَّة، بوصفها حقيقة واقعة بالفعل في الكنيسة الأرضيَّة».

 

أكّد رسميا البابا يوحنَّا بولس الثّاني عندما كتب أثناء إغلاق اليوبيل الكبير لعام 2000 أنَّ الشَركة «تجسد وتكشف جوهر سرّ الكنيسة». بهذه الكلمات يضع البابا الشَركة الكنسيَّة على مستوى الرؤية الملموسة ويُقنع المؤسّسات بالسعي إلى التعاون المتبادل بين مؤسّسات الحياة المكرّسة ومختلف جمعيات الحياة الرسوليّة مع احتفاظ كلّ منهم بطبيعة مؤسّساتهم.

 

هذا ما أكده القديس البابا يوحنا بولس الثاني عدة مرات، بأن "ما يُطلب من الأشخاص المكرَّسين هو أن يكونوا حقيقة خبراء في ممارسة الحياة المشتركة وتطبيق روحانيتها، بصفتهم "شهوداً ومنّفضين لفكرة الشركة التي تتوّج تاريخ الإنسان بحسب الله.... ولا غرو فحياة المشاركة تصبح آية للعالم وقوة جاذبة تفضي إلى الإيمان بالمسيح [...]. بهذه الطريقة، ينفتح معنى المشاركة على الرسالة، وتصبح المشاركة هي نفسها رسالة"، بل إنّ "المشاركة تولّد المشاركة، وتَظهر جوهرياً بمثابة مشاركة رسولية"(عدد 46). "لقد برهن المؤسِّسون دائماً عن عميق وعيهم لمعنى الكنيسة، وقد تجلّى في اشتراكهم الكامل في حياة الكنيسة في كل أبعادها، وبطاعتهم الفوريَّة للرعاة ولا سيما للحبر الروماني. من منطلق هذا الحب للكنيسة المقدَّسة "عمود الحق وركنه" (1 طيم 3/15) نفهم ما كان يكنه فرنسيس الأسيزي "للسيد البابا" من مشاعر الإخلاص، وما عُرف عن القديسة كاترين السيناوية على الأرض"، وما اشتهر به أغناطيوس دي لايولا من طاعة رسولية وتعاطف مع الكنيسة، وما أعلنته تريزا أمة يسوع، من فعل إيمان بالكنيسة: "أنا ابنة الكنيسة". ونفهم أيضاً ما كانت عليه تريزا الليزياوية من رغبة مضطرمة: "أنا الحب في قلب الكنيسة أمّي!". هذه الشهادات تعبِّر عن ملء الشركة النسيَّة، لدى قديسين وقدّيسات، ومؤسسين ومؤسِّسات عاشوا في عصور وفي ظروف متنوعة وعلى جانبٍ من المشقة أحياناً كثيرة (عدد 46). لدلك، "من المهم جدًا أن تتطابق مهمة الأشخاص المكرَّسون كشركاء أو متعاونين مع مهمة الكنيسة، لأن الكاريزما الَّتي تُمنح للمكرَّسين في الحياة الرهبانية هي لصالح الكنيسة بأكملها، وبالتالي، يجب ألا ينظروا إليها على إنَّها خَير «خاصّ» تُزرع حصريًّا.

 

هكذا يتجلى ما تتميز به مؤسسات الحياة المكرسة وجمعيات الحياة الرسولية من طابع الشمولية والشركة. ثم إنها بسبب استقلاليتها القانونية عن الابرشيات وعلاقتها الخاصة بالمهمة البطرسية، بإمكانها أن تتطوع لإقامة التعاون بين مختلف الكنائس المحلية” (الإرشاد الرسوليّ ما بعد السينودس «الحياة المكرَّسة» لعام 1996: عدد 47).

 

 

الحياة المكرسة والطابع الاستقلالية

 

"كل مؤسسة تنعم باستقلالية صحيحة، تُمكّنها من المحافظة على نظامها وصيانة ميراثها الروحي والرسولي. ومن واجب الأساقفة المحليين وقاية هذه الاستقلالية وحمايتها. ويُطلب إذن من الأساقفة أن يتقبلوا ويقدّروا مواهب الحياة المكرَّسة، ويفسحوا لها مجالاً في المشاريع الراعوية في الأبرشية. كل هذه المواهب تهدف إلى المساهمة، بشتى الطرق، في بناء الكنيسة، في علاقة منسجمة ومتكاملة مع بعضها البعض. هذه الاستقلاليَّة، كونها حقًّا طبيعيا هي متأصلة في طبيعة مؤسّسة الحياة المكرَّسة الَّتي تنبع من الرُّوح. في الواقع، من خلال الاستقلاليَّة التشريعيّة والحكم ما يجعلها «عادلة»، تستطيع مؤسّسة الحياة المكرَّسة متابعة أهذافها.

 

ولأن الاستقلاليَّة الشَّرعيّة هو حقّ طبيعيّ للمؤسّسات فإنَّ الأَساقفَة المحليّين، يجب أن يحترموها، والحفاظ عليها وحمايتها، كمهمة في خدمتهم الرعويّة من أجل خَير الكنيسة على حدّ سواء الجامعة والخاصّة.

 

يمكننا القول إنَّ لكلّ مؤسّسة رهبانيَّة الحقّ في العيش حياة وفقًا لنظامها الأساسيّ ومن دون تدخّل خارجيّ، كي تسيّر أعمالها. لا ينشأ هذا الحقّ من منحة من السُّلطة الكنسيّة، ولكن من طبيعة كلّ مؤسّسة رهبانيَّة والَّتي، كحقيقة كاريزماتيَّة، هي هبة من الله للكنيسة.

 

نقرأ في الإرشاد الرسوليّ ما بعد السينودس «الحياة المكرَّسة» لعام 1996: «الاستقلاليَّة العادل» الَّذي لا يمكن أن يبرر خيارات ضد ضرورات الشركة الكنسيَّة: «ومن المفيد ألاّ ننسى أنَّ المؤسّسات لا يمكن أن تتذرع، في التنسيق ما بين خدمة الكنيسة الجامعة وخدمة الكنيسة الخاصة، باستقلاليتها المُحِقَّة وحتى بالعصمة الَّتي تتمتّع بها مؤسّسات كثيرة، لكي تبرِّر خيارات قد تنافي، في الحقيقة، مقتضيات الشركة العضويَّة الَّتي لا بدّ منها لحياة كنسيّة سليمة. بل يجب، بالعكس، أن تُقرَّر المبادرات الرعوية الصادرة عن الأشخاص المكرَّسين، وتوضع موضع التنفيذ في حوار ودّي ومنفتح بين الأَساقفَة ورؤساء الرهبانيات» (عدد، 49).

 

لذلك، الاستقلاليَّة لا تعني عدم الإنابة. لا يمكن تصوّر كيانًا في الكنيسة يمكنه التصرف بشكل مستقل عن السُّلطة العليا. بمعنى آخر، الحياة المكرَّسة الَّتي هي جزء من حياة وقداسة الكنيسة، لا يمكنها فصل نفسها عن الكنيسة وتشكيل كنيسة داخل الكنيسة: هذا الموقف سيكون «حكمًا غير عادل».

 

شدد الشَّرع الكنسيّ الحاليّ على مبدأ الاستقلاليَّة الصحيحة لكلّ مؤسّسة. وأي «تدخل» للسلطة الكنسيَّة يعتبر فقط قانونيًّا في وقت التأسيس لإعطاء «المصادقة» على مخطط خاصّ للمؤسّس، والموافقة على «القانون الأساسيّ» (القوانين أساسيَّة) لكلّ مؤسّسة. وفي الحياة اليوميَّة وفي الحكم يجب ألا تتدخل إلا في حالات استثنائيَّة. لقد تسبب التدخل غير المبرّر دائمًا في إلحاق الضرر بالمؤسّسات ومهمتها، كما يعلم التاريخ الطويل لمؤسّسات الحياة المكرَّسة، في الواقع العملي، تكون كلّ مؤسّسة مستقلة فيما يتعلق بحياتها كمؤسّسة نموذجيَّة أي أيضًا فيما لديها من ميزة وفقًا لطبيعتها. وعلى وجه الخصوص، يتطلب الاستقلال استقلالا في النّظام والحكم، على الصعيدين العامّ والمحليّ، مما يعني إنَّه يمكن للمؤسّسات وهيئاتها الإداريَّة على أي مستوى اتخاذ قرارات مستقلة عن التدخلات أو الموافقات الخارجيَّة، شريطة أن تصدر القرارات وفقًا للقانون.

 

لذلك، «عندما نتحدث عن «الاستقلاليَّة القانونية›› أو «الاستقلاليَّة الصحيحة» فهي تتعلق بحياة المؤسّسة بجملتها، وليس الحكم فقط. يتم التعبير عن هذه الحياة بالتساوي في إشعاعها، في عملها، نشاطها الرسوليّ. الاستقلاليَّة، ثم يتم الإعراب عنها عن طريق روح، طريقة التصرف، طريقة للصلاة، عمل، الرياضات الرُّوحية؛ يتم التعبير عنها أيضًا في الجمعيَّات الَّتي يرغبون في العيش بالرُّوح نفسها والقيم الرُّوحية نفسها، وللقيام بذلك بشكل تلقائي وضعوا أنفسهم تحت إشراف المؤسّسات الَّتي انضمّوا إليها وأنهم ينتمون إليها (ق.لاتينيّ 677 البند 2؛ 303)».

 

في سياق إدراج الحياة المكرَّسة في الكنيسة الخاصّة، تشير الإرادة الرسوليّة «الحياة المكرَّسة» (رقم، 48) مباشرة إلى الاستقلاليَّة العادلة للمؤسّسات في اتّصال مع الأَعمَال الرسوليّة. من المستحسن التذكير بالنصّ الكامل: «طبيعة كلّ مؤسّسة تحمل «سمة» خاصة من سمات القداسة والرسالة تنزع إلى الاستقرار في تقليد معيّن تميّزه عناصر موضوعيّة. من هنا اهتمام الكنيسة بنموّ المؤسّسات وتطورها، في الأمانة لروح المؤسّسين والمؤسّسات ولتقاليدهم السليمة: فكل مؤسّسة تنعم باستقلالية صحيحة، تُمكّنها من المحافظة على نظامها وصيانة ميراثها الروحيّ والرسوليّ. ومن واجب الأَساقفَة المحليّين وقاية هذه الاستقلالية وحمايتها. ويُطلب إذن من الأَساقفَة أن يتقبلوا ويقدّروا مواهب الحياة المكرَّسة، ويفسحوا لها مجالًا في المشاريع الراعوية في الأبرشيّة. وعليهم أن يخصّوا برعايتهم المؤسّسات التابعة للأبرشيّة، والموكلة إلى محبَّة الأُسقُف المحلي وحدبه الخاص. كلّ أبرشيّة بلا حياة مكرَّسة يفوتها الكثير من العطايا الروحيّة والأمكنة الموقوفة للبحث عن الله والأعمال الرسوليّة والأساليب الرعويّة المميّزة. ثم إنَّها تتعرّض لأن تضعف ضعفًا ذريعًا، بسبب فوات الروح الإرسالي الَّذي يتميّز به معظم المؤسّسات.

 

وإذا لم يتم الاعتراف بـ«الاستقلاليَّة» في النشاط الرسوليّ، فإنَّ المؤسّسة لن تصل إلى هدفها وفقًا لروحها. الحياة الداخليَّة لمؤسّسة لا تنعش الحياة الأخويَّة وممارسة المشورات الإنجيليَّة فقط، ولكن أيضًا تلهم العمل الرسوليّ، الَّذي هو هبة من الرُّوح، وهكذا الاستقلاليَّة الداخليَّة تنطوي أيضًا على درجة من الاستقلاليَّة في الحياة الخارجيَّة للكنيسة. في الواقع، هذا الاستقلال أقل في ما يتعلق بالأعمال الرسوليَّة الخارجيَّة، وهو أوسع في ما يتعلق بالحياة الداخليَّة والرَّهْبانيّة والتنظيميَّة. يمكننا أن نفهم حقّ أي مؤسّسة رهبانيَّة ذات الحقّ الحبريّ وأيضا ذات الحقّ الأبرشيّ في أن تعيش حياة خاصّة به وفقًا لقوانينها الخاصّة ودون تدخل من الخارج، مع ما يترتب على ذلك من ميزة في أداء أعمالها. وهذا الحقّ ينبع من جذور المؤسّسة الكاريزماتيَّة أي وفقًا للطبيعة الخاصّة، هدف، لروح وطابع المؤسّسة فلا ينشأ عن منحة من السُّلطة الكنسيَّة، لأنَّ طبيعة كلّ مؤسّسة رهبانيَّة كواقعة كاريزماتيَّة ومؤسّساتيَّة، هبة من الله للكنيسة، تتمتّع بهبة خاصّة من الرُّوح القدس.

 

 

المؤسسات الرهبانية وعلاقاتها مع الكنيسة الخاصة (الأبرشية)

 

من المستحسن إذا، أن نرحب بموهبة الحياة المكرَّسة التي يبعثها الروح في الكنيسة الخاصة ونتلقاها بسخاء وشكر». منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، كان هناك وعي متزايد بأن كل حقيقة الكنيسة تظهر نفسها وتعمل في الكنيسة الخاصة، حيث يشكل الأساقفة "المبدأ المنظور والأساس لوحدتهم" (نور الأمم رقم 23). وهذا حدث أيضًا في الحياة المكرسة. يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني أنه "يتوجب على الرهبان كلهم الذين ينضم إليهم أعضاء من سائر المؤسسات التي تجاهر بالمشورات الانجيلية، وكل واحد حسب دعوته الخاصة، مايلي: أن يعملوا جاهدين وباستمرار لبناء جسد المسيح السري وازدهاره وخير الكنائس الخاصة" (قرار في مهمة الأساقفة الراعوية، السيد المسيح، عدد 33). وأن الأساقفة، بصفتهم رعاة الكنائس المحلية، لديهم واجب تنسيق كل أعمال الرسالة تنسيقًا متينًا وعميقًا فتردّ هكذا إلى عمل متناغم كل المبادرات والمؤسسات التعليمية، والرسولية، والخيرية، والاجتماعية والعائلية والمدرسية، ومن أي طبيعة رسولية كانت. وهكذا تبدو ايضاً بأكثر جلاء وحدة الأبرشية. (قرار في مهمة الأساقفة الراعوية، السيد المسيح، عدد 17). ويعلّم يوحنا بولس الثاني، منذ بداية حبرتيه، أن الرهبان للكنيسة الجامعة من خلال رسالة المؤسسة رهبانية في كنيسة خاصة ويضيف أن دعوتهم للكنيسة الجامعة تتحقق ضمن البنية الكنيسة المحلية. هذا لا يعني التأكيد بالضرورة أن كل النشاط الرسولي للرهبان في خدمة الكنيسة الجامعة يتحقق من خلال اندماجهم المباشر في الكنائس المحلية، ولكن العلاقة بين الكنيسة الخاصة والحياة المكرسة، وخاصة المؤسسات الرهبانية، تصبح أكثر أهمية لكل من الأبرشية والمؤسسة. كرر لاحقًا البابا يوحنَّا بولس الثّاني في الإرشاد الرَّسولي ما بعد السينودس «الحياة المكرَّسة» لعام 1996 أن اندماج الأشخاص المكرسين في الكنيسة الخاصة يمكن أن يشكل حافزًا مهمًا "لترسيخ التزامهم حياةَ التأمل والصلاة، وإلى تجديد ممارستهم للحياة الجماعية المشتركة وللضيافة، وتحثيث رعايتهم للأشخاص واحترامهم للطبيعة" (عدد 79).

 

الحياة الرَّهْبانيَّة جزء أساسيّ في الكنيسة الَّتي يجب أن تكون في شركة كاملة مع السُّلطة التعليمية في الكنيسة. والعلاقة الجيّدة مع الأُسقُف المحليّ هي مؤشّر على وحدة الكنيسة. فالأُسقُف هو راعي الأبرشيّة، وهو أيضًا نقطة التقاء للجماعة المسيحيّة في الأبرشيّة بكاملها. فعليه واجب الحفاظ على وجود هذا اللقاء وهذه الشَّركة. فالجماعات الرَّهْبانيَّة المقيمة في الأبرشيّة، حتّى وإن كانت تتمتّع بدرجة من الاستقلاليَّة، يجب أن تكون في وئام مع الجماعة المسيحيّة المحليَّة ومع الأُسقُف ومعاونيه كي يكونوا قادرين على نقل رسالة الإنجيل من دون صعوبة أو غموض.

 

إن العلاقات بين الكنيسة المحلية والرهبان في الوضع الملموس للرسالة تكون أحيانًا صعبة لأسباب مختلفة. من ناحية، هناك إصرار على البعد الجامعي الرسالة، ومن ناحية أخرى، هناك ضرورة للعمل المحلي؛ من جهة، هناك دعوة إلى المواهب (كاريزما)، ومن جهة أخرى للسلطة الرسولية والمسؤولية الرعوية. هناك توتر بين الإبداع الرسولي وثبات الأعمال الرعوية، حيث يجب دائمًا إيجاد توازن بينهما. في الواقع، فإن نشاط المؤسسة الرهبانية المكرس للرسالة له، من ناحية، أهمية كبيرة لحياة المؤسسة لأن هذا العمل، الذي ينتمي إلى طبيعته يؤثر على الهوية، ولكن، من ناحية أخرى، يمكن للنشاط الرسولي أن يكون مشاركة في خدمة الأساقفة في الكنيسة الخاصة.

 

في هذا الصدد، قد يكون هناك توتر بين جانبين: من ناحية، نشأت المؤسسات من أجل خير الكنيسة، وبالتالي، يجب أن تكيف أعمالها مع الاحتياجات الملموسة للكنيسة عند وجودها؛ من ناحية أخرى، لا يمكن القيام بمهمة ما لم يكن هناك إلهام أصلي في المؤسسة لتلبية هذه الحاجة الكنسية. لا يجوز للمؤسسة أن تقوم بأعمال أو أنشطة لا تتوافق مع موهبتها التأسيسية. من الضروري أن تنص دساتير المؤسسات الرهبانية بوضوح حول شرعية تولي عمل رسولي خارجي أم لا، على سبيل المثال الرعاية الرعوية للمؤمنين في الرعية.

 

كي تكون العلاقات بين المكرسين أعضاء في المؤسسات الرهبانية وجمعيات الرسولية، والأسقف بناءة للشركة الكنسية، من الضروري أن تستند إلى بعض المبادئ الأساسية، مع تطبيقات ملموسة للغاية. أ)- يعود إلى الأسقف، الأب والراعي للكنيسة الخاصة الاعتراف بالمواهب واحترامها وتعزيزها وتنسيقها. سيعرف في محبته الرعوية كيف يرحب بمختلف أشكال الحياة المكرسة، ويقبلها بخصوصياتها حتى تكون مثمرة رعويًا في الأبرشية. ويُطلب من جميع أعضاء مؤسسات الحياة المكرّسة وجمعيات الحياة الرسولية، بحكم تكريسهم ووظيفتهم الكنسية، أن يبدوا احترامًا صادقًا لسلطة الأسقف في الأبرشية، فيما يتعلق بحكمه الرعوي، أي ممارسة العبادة الإلهية، ورعاية النفوس، الوعظ، والتعليم الذيني والأخلاقي، والتعليم المسيحي، والتنشئة الليتورجيا، والأعمال الرسولية والخيرية المختلفة.

 

في تنظيم الأنشطة الرسولية، بهدف خطة التفاهم المتبادل، سيعقد أسقف الأبرشية والرؤساء المختصون في المؤسسات والجمعيات اتفاقيات تحدد بدقة طبيعة العمل الرسولي، والأشخاص الذين يجب أن يكونوا. والجوانب الاقتصادية.

 

وبالمثل وللأسباب نفسها، يجب على الأَساقفَة، عند إسناد أعمالهم الرسوليّة إلى المؤسّسات أو مطالبة راهب بالقيام بأنشطة محدّدة، أن يأخذوا في الاعتبار طبيعة كلّ مؤسّسة، وتجنب المطالبة بقدر ما يستطيع أن تكون مخالفة للكاريزما وأسلوب حياتهم. «الأُسقُف هو للكنيسة الخاصة كلها أبوها وراعيها، وله أن يقرّ مختلف المواهب ويحترمها ويعزّزها وينسّق بينها. وعليه إذن أن يقبل، في محبته الراعويَّة، موهبة الحياة المكرَّسة قبوله لنعمة لا تتعلق بالمؤسّسة وحسب، بل تفيد الكنيسة كلها. وعليه أن يسعى إلى دعم الأشخاص المكرَّسين ومساعدتهم، فيطلّوا، بالشركة مع الكنيسة، على آفاق روحية ورعائية تلبي مقتضيات عصرنا، مع التمسك بفكرة المؤسّس. وعلى الأشخاص المكرَّسين، من جهتهم، أن يسخوا في التعاون مع الكنيسة الخاصة وفقًا لقدراتهم، وفي مراعاة موهبتهم، والعمل بملء الشركة مع الأُسقُف، في مجالات البشارة والتعليم الذيني وحياة الرعايا. «إنَّ ما يبديه الأَساقفَة من اهتمام لدعوة المؤسّسات الرَّهْبانيّة ورسالتها وما تبديه هذه المؤسّسات من احترام لمهمّة الأَساقفَة الراعويَّة والعمل الحثيث بتوجيهاتهم الراعويَّة المتصلة بحياة الأبرشيّة، يمثّلان وجهين متلازمين تلازمًا وثيقًا من تلك المحبَّة الكنسيّة الواحدة الَّتي تدفع كلَّا من الطرفين في خدمة الشركة العضويَّة –المؤلفة مواهبيًّا وتراتبيًّا– القائمة ما بين أبناء شعب الله برُمّته» (عدد 49).

 

يشير الشَّرع الكنسيّ صراحةً فيما يتعلّق بعلاقة الأُسقُف مع المكرَّسين إلى واجب الأُسقُف في تعزيز الدعوات للحياة المكرَّسة في سياق تعزيز الدعوات لمختلف الخدمات (ق. لاتينيّ 385). فإنَّ الأُسقُف «بحكم خدمته، مسؤول بشكل خاصّ عن نموّ قداسة جميع المؤمنين، لأنَّه الموزّع الرَّئيسيّ لأسرار الله وكمال الله. قطيعه «حسب الدعوة الخاصّة لكلّ واحد («في مهمة الأَساقفَة الراعوية» رقم، 15)؛ لذلك أيضًا، وقبل كلّ شيء، وفقًا لدعوة الرَّاهب».

 

في هذا السياق، من المهمّ أن نلاحظ أنّ القانون اللاتينيّ 678 البند 3 يطلب من الرّهبان الشَّركة مع السُّلطة الهرمية والسير جنبًا إلى جنب مع الرُؤَسَاء الكنسيّين المحليّين فيما يتعلّق بالأَعمَال الرسوليّة: «البند 3- على الأَساقفَة ورُؤَسَاء الرّهبان تبادل المشورة فيما بينهم، لتنظيم الأَعمَال الرسوليّة للرهبان». في هذه الحالة، فإنَّ العمل الرسوليّ في المؤسّسة واقع مختلط تحكمه سلطتان، الأولى من الرعاة (الحبر الرومانيّ والأَساقفَة)، وذلك لأنّ النشاط الرسوليّ للرهبان مدعوّ لتحقيق نفسه في الشَّركة الكنسيّة العضويَّة والثّانية من رؤسائهم الداخليّين، لأنَّه لا يمكن لمثل هذا النشاط أن يتخلّى عن وجود «ختم» من خصوصيّات كلّ مؤسّسة، وهذا يتطلّب التّنسيق والاتفاق -الشَّركة- بين الأَساقفَة ورُؤَسَاء المؤسّسات، فضلًا عن الاحترام الواجب من كلا الجانبين للاتفاقيّات.

 

والاتفاقيَّة تهدف إلى تجنب المخاطر والإزعاج لكلا الطرفين بشأن ما يشير إلى النشاط الرسوليّ. لا يعني هذا سوى تقديم استقرار أكبر للرهبان، وكذلك طمأنة الأُسقُف على التزامه المتخذ. ومن المستحسن أن تكون الاتفاقيَّة لفترة محدّدة ويمكن تحديثها أو حتى إنهاؤها عند انتهاء صلاحيّتها؛ ويمكن إنهاؤها فقط وفقًا للشروط المحدّدة في الاتفاقيَّة نفسها. قد لا يكون التّجديد الفعلي بحكم الواقع أمرًا حكيمًا، حتى إذا تمت الإشارة إلى أن الاتفاق الضمنيّ يمكن أن يجعل ذلك ممكنًا.

 

ومن الأسباب الأساسية لإبرام الاتفاقيَّة هو منع أي نزاع محتمل قد ينشب عن أحد الطرفين، وهي طبيعة العمل الَّذي يتعين القيام به، والترتيبات الماليَّة. والسبب الثّاني هو أن هذه الاتفاقيَّة تُلزم الأُسقُف ورئيس الرهبنة على التعاون بشكل أوثق؛ وبعبارة أخرى، فإنها تمنع إما الأُسقُف أو السُّلطة الكنسيّة من التصرف بشكل مستقل. والسبب الثالث هو أن هذا التعاون يساهم في الحفاظ على مسؤوليَّة رئيس الرهبنة، واحترام استقلاليَّة المؤسّسة الرَّهْبانيَّة ودور الأُسقُف الأبرشيّ بأنه «رأس ومركز وحدة العمل الرسوليّ في الأبرشيّة». والسبب الرابع المتعلّق بالسابق يشير إلى أن هذه الاتفاقيَّة تريد أن تضمن لكلّ طرف متعاقد ممارسة حقوقه والتزاماته. خامسًا، تضمن هذه الاتفاقيَّة المدى الطويل للأشغال الموكلة إليها. في مثل هذه الاتفاقيَّة، يلزم الأُسقُف الأبرشيّ أيضًا خلفاءه.

 

الاتفاقيَّة يجب أن تتم كتابةً وليس شفويًّا، صريحًا. وهذا يعني، على وجه التحديد وبدقّة أو أفضل بعد دراسة متأنيَّة، على محمل الجد وأخذ المعلومات اللازمة بحيث يعمل كلا الطرفين عن علم بالمسألة. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب القانون 681 البند 2 ثلاث نقاط في الاتفاقيَّة: أولًا-وصف موضوع المهمة الممنوحة والَّتي توضح بدقّة وبالتفصيل العمل والمهمة (مثل الرعيَّة، عيادة طبيَّة، مستشفى ومدرسة أو غيرها) حيث أنّ أُسقُف هذه الأبرشيّة يعهد إلى هذه المؤسّسة وأن هذه المؤسّسة توافق على إدارة أو ممارسة ذلك، بحسب توجيهات هذا الأُسقُف.

 

 

الخاتمة

 

في الواقع، الشركة ليست حقيقة لاهوتية فحسب، بل هي أيضًا حقيقة رعوية تُفهم على أنها لاهوت متجسد. هل من الممكن أن نتحدث عن الشركة فقط؟ لقد تم التفكير والتعليل، كُتب الكثير عنها، وتم إنتاج الكثير ويجري إنتاجه، خاصة على مستوى المبادئ ... ولكن كيف تتم هذه الشركة، وكيف يتم تفسيرها؟

 

أ) هناك حديث عن الشركة كاحترام للتنوع. بالتأكيد هذا جانب مهم، لكن هذا البيان يخفي أحيانًا الرغبة في أن يتمكن الجميع من الاستمرار في فعل ما يريدون. من الواضح بهذه الطريقة لا توجد توترات، لأن المرء يفكر في الشركة على أنها غياب التوترات. إنها فكرة الشركة التي تقترح رؤية الجماعة المسيحية كحاوية للخبرات.

 

ب) هناك حديث عن الشركة باعتبارها تكيف الجميع مع هيكلية محددة مسبقًا. نحن في شركة عندما نتعرف على أنفسنا في هيكلية كنسية محدد مسبقًا. إنها فكرة عن المجتمع المسيحي كمنظمة بيروقراطية، حيث يتم إضفاء الطابع الرسمي على كل شيء من حيث التمثيل (التواجد في المجلس الرعوي، مجموعات العمل، اللجان الأبرشية، وما إلى ذلك)، حيث لا يتم استبعاد أحد، حيث الجميع له مكان، حيث يجب على الجميع، مع ذلك، طاعة القائد.

 

ج) لا توجد فكرة أخرى عن الشركة تنبثق من المادة، والتي أعتقد أنها أكثر دقة. يمكننا أن نتحدث عن اللاهوت الكنسي للشركة، عندما داخل الجماعة الكنسية يتم اختبار عملية تحديد مشترك للأهذاف، ومشاركة الروح التي تحيي المسارات الملموسة والقدرة على مناقشة الأولويات والأساليب. هناك التركيز كبير على الشركة باعتبارها بعداً (أو مشكلة) داخل الكنيسة، تتعلق بالعلاقات بين مختلف الدعوات. الشركة هي مصدر لرسالة الكنيسة، وهي مصدر تعيش به الكنيسة رسالتها. تعلن الكنيسة أن الخلاص حاضر في التاريخ كشركة: جعل المسيح قلب العالم. الشركة هي عندما تتمكن الكنيسة من تحرير نفسها بدون حدود، في احتضان جامعيّ يجد فيه كل الناس مكانًا ومكانًا متميزًا على أقل تقدير: أليس هذا ربما من حدس مؤسسينا؟