موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
أحلام البابا فرنسيس الأربعة لأوروبا: صديقة وعائلة ومتضامنة وعلمانيّة منفتحة
في رسالة إلى الكاردينال بييترو بارولين بمناسبة مرور خمسين عامًا على التعاون بين الكرسي الرسولي والمؤسسات الأوروبية، يستعيد البابا فرنسيس تاريخ القارة وقيمها، آملاً بنقطة تحول في الأخوة في مرحلة من عدم اليقين الكبير ومخاطر الانجرافات الفردية.

فاتيكان نيوز وأبونا :

 

أربعة أحلام تعضدها قناعة جوهرية واحدة: لا يمكن أن يكون هناك أوروبا حقيقية بدون الركائز التي صُممت عليها منذ الحدس الأول، أي فسحة من الشعوب يوحدها التضامن، بعد أن كانت مسرحًا مأساويًّا للحرب والجدران. ما يوجهه البابا فرنسيس إلى الكاردينال بيترو بارولين هو نوع من رسالة مفتوحة إلى القارة القديمة، تُطعَّمُ فيها رؤيته بأحلام اثنين من أسلافه اللامعين، روبرت شومان، أحد الآباء المؤسسين لأوروبا، والقديس يوحنا بولس الثاني، الذي دافع بقوة عن جذورها المسيحية.
 

مناسبة الرسالة

 

إنَّ المناسبة التي ألهمت قداسة البابا فرنسيس في رسالته الطويلة هذه، هي سلسلة الأحداث والاحتفالات التي سيشارك فيها أمين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين، وهي: 40 عامًا على إنشاء لجنة مجالس أساقفة الاتحاد الأوروبي، و50 عامًا لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الكرسي الرسولي والاتحاد الأوروبي، و50 عامًا على وجود الكرسي الرسولي بصفة مراقب دائم في مجلس أوروبا.

 

وبالتزامن مع هذه الأحداث السنويّة، كان من المخطط أن يزور الكاردينال بارولين لزيارة بروكسل، خلال الأيام 28 إلى 30 تشرين الأول اكتوبر الحالي، ولكن تم إلغاء هذه الزيارة بسبب تفاقم الحالة الطارئة الصحية جرّاء جائحة كوفيد-19. ومن المتوقّع، أن يتم عقد الاجتماعات مع سلطات الاتحاد الأوروبي وأعضاء لجنة مجالس أساقفة الاتحاد الأوروبي عن طريق الاتصال بالفيديو.

 

كما تم إدراج حدثان في الإطار الأوسع للذكرى السنويّة السبعين لإعلان شومان، والذي بواسطته أدارت أوروبا ظهرها لانقسامات الحرب. والانقسامات التي أصبحت ممكنة اليوم، في منعطف تاريخي يدعو إلى التماسك، هي التي تدفع البابا إلى تكرار مفهوم عميق: "يشكّل الوباء -كما يكتب- نقطة تحول تجبرنا على الاختيار: إما أن نسير على الدرب الذي سلكناه في العقد الماضي، تدفعنا تجربة الحكم الذاتي، ونواجه سوء الفهم المتزايد والصراعات والنزاعات؛ أو نعيد اكتشاف "درب الأخوَّة".

 

ويلاحظ الأب الاقدس في رسالته أنّ أزمة فيروس الكورونا قد سلطت الضوء على هذا كلّه: تجربة أن نتصرف بمفردنا، من خلال البحث عن حلول أحادية الجانب لمشكلة تتجاوز حدود الدول، بينما أن أوروبا بعد الحرب تولد من الإدراك بأننا معًا ومتحدون نكون أقوى، لأنّه –وكما يؤكّد البابا فرنسيس في الرسالة العامة "فرح الإنجيل"- الوحدة هي أسمى من النزاع، وأن التضامن يمكنه أن يكون أسلوبًا لبناء التاريخ.

إعادة اكتشاف المثل العليا

 

ففي قلب البابا فرنسيس يتردد صدى ما هتف به البابا القديس يوحنا بولس الثاني في التاسع من تشرين الثاني عام 1982 من سانتياغو دي كامبوستيلا، في نهاية رحلة حجّه إلى إسبانيا. وتلك العبارة الشهيرة التي أطلقها آنذاك: "أوروبا اكتشفي نفسك مجدّدًا، كوني نفسك".

 

ويعيد البابا فرنسيس ترجمة هذه العبارة الشهيرة، مجدّدًا وبطاقة مماثلة، ويكتب إلى القارة الأوروبيّة: "أرغب في أن أقول: لقد كُنتِ على مر العصور صائغةً للمثل العليا ويبدو الآن أنك تفقدين زخمك، لا تتوقفي للنظر إلى ماضيك باعتباره ألبومًا للذكريات، لأنه مع مرور الوقت، تتلاشى حتى أجمل الذكريات وينتهي بكِ الأمر إلى عدم تذكّرها أبدًا".

 

وفي هذا السياق، يؤكد البابا أن تكتشف أوروبا نفسها يعادل إعادة اكتشاف المثل العليا التي تملك جذورًا عميقة. وبالنسبة لقداسته، فإنّ هذا يعني عدم الخوف من التاريخ الطويل الذي هو نافذة على المستقبل، وليس على الماضي. ولذلك يشدّد البابا فرنسيس على أنّه لا يجب أن نخشى "الحاجة إلى الحقيقة" التي أثارتها أسئلة الفكر اليوناني القديم، والحاجة إلى العدالة التي طورها القانون الروماني، والحاجة إلى الأبدية، التي يغنيها اللقاء مع التقليد اليهودي المسيحي.

أربعة أحلام

 

من هذه القيم تنبعث رؤية البابا فرنسيس الذي يؤكِّد قائلاً: "لذلك أحلم بأوروبا صديقة للإنسان وللأشخاص. أرض تُحترم فيها كرامة الجميع، ويكون فيها الإنسان قيمة في حد ذاته وليس موضوع حساب اقتصادي أو سلعة". وبالتالي، فإن أوروبا بهذا الوعي والإدراك هي بالنسبة للبابا، أرض "تحمي الحياة" والعمل والتعليم والثقافة، وتعرف كيف تحمي "الأشخاص الأشدّ هشاشة وضعفًا، ولاسيما المسنين والمرضى الذين يحتاجون إلى رعاية باهظة الثمن وذوي الاحتياجات الخاصة".

 

وكنتيجة طبيعية نوعًا ما، تؤدي هذه الرؤية الأولى إلى الثانية، مما يحمل البابا فرنسيس على القول: "أحلم بأوروبا تكون عائلة وجماعة"، وبعبارة أخرى "عائلة من الشعوب" قادرة على "العيش في وحدة، وتقدّر الاختلافات ابتداء من الاختلاف الجوهري بين الرجل والمرأة". وهنا يلخص الأب الأقدس الحلم بالحديث عن "جماعة أوروبية"، في تضامن وأخوّة، عكس أرض مقسّمة إلى "وقائع منعزلة ومستقلة"، ستجد نفسها بسهولة "غير قادرة على مواجهة تحديات المستقبل".

 

أما الحلم الثالث فهو "أوروبا متضامنة وسخية"، "مكان يستقبل ومضياف، تتغلب فيه الفضيلة المسيحية الأسمى، المحبّة، على جميع أشكال اللامبالاة والأنانية". وبما أن "التضامن يعني ضمنًا أن تكون قريبًا من الآخر"، فإن هذا الأمر "بالنسبة لأوروبا يعني بشكل خاص أن يكون المرء جاهزًا وقريبًا ومستعدًا لكي يدعم، من خلال التعاون الدولي، القارات الأخرى. وفي هذا السياق، يقول البابا: أفكر بشكل خاص في "أفريقيا"، وفي مساعدتها على مداواة العديد من الصراعات التي تمزقها. وبأوروبا تعتني أيضًا بالمهاجرين، ليس فقط من خلال المساعدة في الاحتياجات العاجلة، بل ترافقهم أيضًا في مسيرة الإدماج. باختصار، يصرّ البابا فرنسيس على "أوروبا تكون جماعة متضامنة" الطريقة الوحيدة القادرة على مواجهة هذا التحدي بطريقة ناجحة، بينما أثبتت جميع الحلول الجزئيّة عدم فعاليّتها.

 

من ثمّ الحلم الرابع الذي يعبّر عنه الأب الاقدس هو التالي: "أوروبا علمانية بشكل سليم، يكون فيها الله وقيصر متميزان ولكنهما غير متعارضَين". وهو ما يعني بالنسبة للبابا فرنسيس أرضًا "منفتحة على البعد الإلهي، يكون فيها المؤمنون أحرارًا في المجاهرة بإيمانهم واقتراح وجهة نظرهم الخاصة في المجتمع". ويؤكّد الأب الأقدس بأنّ أوروبا قد ولّت فيها أزمنة الطائفية، ولكننا نأمل –وهذه رغبة البابا أيضًا- أن تكون قد ولّت أيضًا أزمنة علمانية معينة تغلق الأبواب أمام الآخرين ولاسيما أمام الله، لأنه من الواضح أن الثقافة أو النظام السياسي الذي لا يحترم الانفتاح على البعد الإلهي هو لا يحترم الشخص البشري بشكل كاف.

أما الاعتبارات الأخيرة فتتعلق "بالمسؤولية الكبيرة" للمسيحيين في إحداث التغيير في جميع المجالات "التي يعيشون ويعملون فيها" ولتسليم "أوروبا العزيزة" إلى شفعائها القديسين، القديس بندكتس، والقديسَين كيرلُّس وميتوديوس، والقديسة بريجيدا، والقديسة كاترين السيانيّة، والقديسة تيريزا بينيديتا للصليب. في "اليقين -الذي يعززه البابا فرنسيس- بأن أوروبا لا يزال لديها الكثير لتقدمه للعالم".