موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢ يونيو / حزيران ٢٠٢٠
3 حزيران: يوم إلقاء القبض على أسقف ماردين الكبير إغناطيوس مالويان

رافي سايغ :

 

"لقد ارتدينا حُلّة الإكليروس لنكون على رأس المؤمنين حيثما كانوا، وأننا مستعدون لأداء واجباتنا تجاه ربّنا وأبناء الرعيّة حتّى الموت، إذا لزم الأمر".

 

قالها جدي، لقد كان هذا جواب الأسقف الشهيد .

 

التاريخ 3 حزيران 1915، المكان ماردين المدينة البطلة، معقل طائفة الأرمن الكاثوليك وعزها. تأتي الأخبار الحزينة بكثرة من ديار بكر وبقية المدن التي يقطنها الأرمن حول عمليات قتل وترحيل منظمة يتعرض لها الأبرياء الأرمن.

 

يحتار الأسقف وهو يعلم بهذه الأنباء منذ أشهر، ويطلب من أبناء رعيته عدم تصديق ذلك، وأن يصلي كل فرد لأجل سلامة الرعية والمدينة الحبيبة التي لطالما بسبب موقعها الجغرافي بقية بعيدة عن المدن الأخرى مما دفع طوائف المدينة إلى تمتين الروابط فيما بينهم لمتابعة حياتهم بمحبة .

 

لكن أحداث مؤسفة وقعت في 30 نيسان في مطرانية الأرمن الكاثوليك حينها، بحقد كبير وبوحشية قامت مجموعة عثمانية من الجنود بالتفتيش بحثًا عن أسلحة ومدافع ادعوا أنها موجوده في مكان ما! وعليه بدأ التخريب، وكان جواب الأسقف لهم: "فتّشوا ما استطعتم، ونقبوا بكلّ طاقتكم، فإنّنا لسنا ممن يُخزّن عنده أسلحة".

 

لم يجد الجنود الأسلحة التي بالأساس لم تكن موجودة، فقاموا بتفتيش غرفة الأسقف وسرقوا جميع الرسائل والأوراق. حزن الأسقف على المراسلات ولم يعد يستطيع التكتم على ما يشعر به. مع بدء الشهر المريمي جمع الأسقف كهنته وتحدث لهم عن الأوضاع الصعبة ، فصلوا وتضرعوا إلى الله لكي يبعد البلاء عن المدينة وانصرفوا إلى غرفهم. أما الأسقف فكتب رسالة وكانت كوصية سلمها إلى مطران السريان الكاثوليك في ماردين جبرائيل تبوني.

 

نعود إلى صباح 3 حزيران، خميس الجسد، احتفل الأسقف وكهنته بالعيد مع أبناء الرعية، هذه الرعية التي أحبت مالويان بشكل كبير، وأجمعت على أن يكون أسقف ماردين وملحقاتها للأرمن الكاثوليك. انتهت الصلوات والزياح. لكن هذا الصباح كئيب والجميع يعرف الأخبار السوداء من قتل وترحيل في مدن أخرى، رحل الجميع والتفكير سيد الموقف حول مستقبل الأيام القادمة.

 

مساء ماردين الحزين، إنها الساعة الثامنة، أرسل ممدوح السفاح جنوده وألقوا القبض على الأسقف ومعه عدد من كهنته، ضمنهم كاهنين من العائلة وهم الأب ليفون خباز والأب أندراوس خباز. كان السجن معدًا لهم. تحمّل الأسقف أشد أنواع العذاب مع كهنته ولكن كان الإيمان معزيًا لهم. لاحقًا قبض على عدد من وجهاء الطائفة وتم التنكيل بهم أيضًا.

 

ظل الأسقف في السجن وهو يُستجوب حول الأسلحة، ويتم تعذيبه لغاية 11 حزيران موعد ترحيل القافلة الشهيرة وكان مصيرها الموت على يد برابرة التاريخ العثمانيين الأتراك. استشهد الأسقف والكهنة ومعه أبناء الرعية ناولهم، ومنحهم بركته الأخيرة. اللقاء على الأرض ينتهي، ولكن تبدأ قيامتنا في السماء.

 

3 حزيران هو يوم إلقاء القبض على أسقف ماردين الكبير إغناطيوس مالويان، هو يوم يبقى في ذاكرتنا مثل ما زرع في ذاكرة أجدادنا. مالويان الأسقف والشهيد، رجل الله الذي عشق الكنيسة وخدمها لأعظم درجة وهي التضحية.

 

أفكر اليوم بهذا الرجل العظيم وأتذكر آلام كنيستنا ونحن نحتاج ونفتقد رعاة يبذلون أنفسهم في سبيل الرعايا والكنيسة.


3 حزيران، نتذكر اللقاء المؤثر بين مالويان ووالدته.

 

3 حزيران بداية قداسة شعب تخلد في 11 حزيران بالشهادة، ونتذكر السحابة التي تشكلت في السماء، والأسقف يمنح المناولة لأفراد القافلة، وأيضًا بركته.

 

أفكر بفتيات ماردين وهنّ يلبسن الفساتين البيضاء، ويحملن الشموع، ويضيئن شوارع ماردين في يوم العرس الكبير، عرس لقاء الآب.

 

اليوم 3 حزيران ولدينا طوباوي في السماء، وقريبًا قديس على مذابح الرب. الشهيد والطوباوي والمثال والقدوة، رمز كنيسة ماردين للأرمن الكاثوليك، الأسقف الذي نتمنى وجوده معنا في أيامنا البائسة ليمنحنا الهدوء والقوة .


استشهد مالويان في 11 حزيران 1915، مرت السنوات وفتح ملف دعوى تطويبه، أنعم الله على كنيستنا الأرمنية بطوباوي من شرقنا في عام 2001، في الثاني من شهر تشرين الأول، وعلى يد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني.

 

25 شهادة، كانت الأساس لهذه الدعوى، والقسم الكبير كان من مدينة القامشلي.


شهادة جدي فرج خباز، وهو أحد الشهود الـ25 في التحقيق الأبرشي في دعوى تطويب مالويان ، وهو يعطي شهادة مفصلة ومهمة.


وُلد فرج إبن داود خباز في العام 1899 من عائلة أرمنيّة كاثوليكيّة. يعطي شهادة مفصّلة عن اعتقال المطران مالويان، ورفضه الهروب من السجن، وإنقاذ نفسه من الموت. هو أحد الشهود الــ25 في التحقيق الأبرشي في دعوى تطويب المطران مالويان. تولّى المطران جوزف جنانجي، مطران القامشلي على الأرمن الكاثوليك، التحقيق معه في العام 1966، فقال:

 

أَذكر أنّه، في شهر أيار من العام 1915، وكنتُ في السادسة عشرة، جاءت جماعة من الأرمن الكاثوليك، من قرية تلّ أرمن، لمقابلة المطران مالويان، وإقناعه باصطحابه سالمًا إلى جبال سنجار حيث سيكون بأمان، بعد أن كانت الحكومة التركية قد بدأت بإلقاء القبض على الرؤساء المسيحيين الموجودين في مدن أخرى، فأجاب: "لقد ارتدينا حُلّة الإكليروس لنكون على رأس المؤمنين حيثما كانوا، وأننا مستعدون لأداء واجباتنا تجاه ربّنا وأبناء الرعيّة حتّى الموت، إذا لزم الأمر".

 

وفي هذه الأيّام العصيبة، كان المؤمنون يقيمون القدّاسات، ويتلون الصلوات الحارّة إلى الربّ ومريم العذراء، والمطران مالويان يحثّهم على الثبات في الايمان المقدّس، والطاعة للسلطة المدنيّة.

 

وفي عيد خميس الجسد، الواقع فيه 3 حزيران 1915، ألقى رجال الشرطة القبض على رئيس الأساقفة المطران مالويان وكهنته، مع أعيان الأرمن الكاثوليك، الذين بلغ عددهم 417، وزجّوهم في السجن. هناك، قام رجال الدرك بضرب رئيس الأساقفة الموقَّر بالعصا على باطن قدميه، وأساؤوا إلى كهنته وأبناء رعيّته. وبعد ذلك، قامت الميليشيا بإخراج هؤلاء الأبرياء إلى خارج ماردين، مكبَّلين بالسلاسل، وكان عددهم 417، وقتلوهم كلّهم.

 

وقد سمعتُ القسّ اسحق أرمله، السرياني الكاثوليكي، يقول: "في طريقهم إلى مكان العذابات، مرّ المطران مالويان ورفاقه أمام دير مار افرام في ماردين، وسمعته يقول: إنّه لشرف عظيم لنا أن نموت موت الشهداء من أجل المسيح، ويسعدني أن أكون مقيّدًا بسبب الإيمان، مثل شفيعي القدّيس أغناطيوس الأنطاكي الذي سار مقيّدًا نحو الاستشهاد… وداعًا أيّها الكهنة والإكليريكيين الأعزاء".

 

وأخيرًا، أشهد أنّني رحتُ إلى سجن ماردين، في هذه الأيّام العصيبة، أُرافق والدتي لزيارة خالي يوسف قاصيو الذي كان مسجونًا مع الأبرياء الآخرين. فقال لنا إنّ سعيد بطانه، مختار الأرمن الكاثوليك في ماردين، المسجون هنا، تعرّض للضرب بقسوة، فتألّم كثيرًا ولم يعد باستطاعته المشي.

 

وإثباتا لما تَقدَّم، أَضعُ توقيعي.

 

القامشلي، في 8 آذار 1966."

 

3 حزيران تاريخ لنتعلم منه ونتذكر آلامنا، ولكن لنشهد أيضًا لقيامتنا.

 

3 حزيران نصرخ إلى طوباوينا في السماء ليتشفع بنا، ويبارك أبرشياتنا ويبعد عنا الأيام الحزينة.

 

ستبقى لنا يا حبرنا الجليل المثال والقدوة بمحبتك وتضحيتك. وكم نحن نحتاج إلى من يجمعنا ويشرع الأبواب لنا، من يقف إلى جانبنا ويشاركنا هموم مستقبل الكنيسة والرعية.

 

ستبقى ماردين المدينة البطلة، والحلم والقضية والأرض، المدينة التي تعيش فينا، هي وروايتها وبيوتنا وذكرياتنا التي لا تقدّر بثمن، خالدة وقصة عشق نعلمها لمن بعدنا إلى أبد الابدين.