موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠
19 تشرين الثاني: القديسة ماري ألفونسين غطاس، مؤسسة رهبنة الوردية المقدسة
إن المؤسس الأول والحقيقي للرهبانية هي الأم البتول، سيدة الوردية المقدسة. ليس من السهل أن نقول ذلك، إلا أن هذا القول لا يحمل في طياته أية مغالاة، وهو الحقيقة الواقعية المجردة.
القديسة ماري ألفونسين... بنت بلادنا وفخر أمجادنا

القديسة ماري ألفونسين... بنت بلادنا وفخر أمجادنا

رهبنة الوردية المقدسة :

 

إن القديسة ماري ألفونسين، المؤسِّسة العربية الشرقية لرهبانية الوردية، مع الأب يوسف طنوس يمين، تبدو لنا كإحدى النفوس التي لها مصير محدد منذ الأزل والتي تذوّقت من الحب والعطف الفـريد والخاص مـن قبل العـذراء مريم. فقد حظيت بأن تصبح وسيطة العذراء في تأسيس جمعيّة رهبانية ذات خصوصية كاملة سواء بالنسبة للأعضاء التي تنضمّ تحت لوائها أي راهبات عربيات فقط، أو من حيث عملها المنحصر فقط في منطقة الشرق الأوسط. فمن هي هذه القديسة؟
 

مولدها، طفولتها والطالبة

 

اسمها في الرهبانية الأم ماري ألفونسين. لكن اسمها الحقيقي سلطانة. ولدت سلطانة في القدس في 4/10/1843 من أسرة مقدسية تميزت بالتقوى والحياة المسيحية الملتزمة وحب الفضيلة والخير. والدها دانيل غطاس، يعمل في القدس نجارًا ووالدتها كاترينا ربة بيت تقية فاضلة. ولها ثلاث أخوات وخمسة إخوان. البنات الثلاث اعتنقن الحياة الرهبانية وأخوها أنطون صار كاهنًا للرب.

 

نالت سر العماد بعد شهر ونصف من مولدها، ودعيت في العماد مريم. وكانت طفولتها بسيطة عادية. وعاشت كسائر بنات القدس في ذلك الزمان. وكانت قد ازدهرت في القدس آنذاك مشروعات الكنيسة الجديدة في حقل التربية والتعليم. لكنها كانت أوفر حظًا ممن سبقنها من الفتيات. فقد انصبَّ اهتمام البطريرك فاليرغا على تأمين التربية والتعليم للأجيال الصاعدة. وجدير بالذكر أن حارس الأراضي المقدسة قد طلب من راهبات القديس يوسف بفرنسا أن يأتين إلى الأرض المقدسة لهذا الغرض. فلبت الرهبانية رغبته. ووصلت راهبات مار يوسف إلى القدس في 14/8/1848.

 

التحقت سلطانة بمدرسة راهبات مار يوسف وتلقت فيها كسائر رفيقاتها تربيتها الابتدائية والتأسيسية. وكانت طالبة خلوقة مجتهدة. تتقدم في السن والحكمة وتتفوق على زميلاتها علمًا وأخلاقًا... إلى أن أصبحت فتاة ناضجة. وجاء اليوم الذي تحدثت فيه سلطانة مع أبيها وأمها عن رغبتها في الدخول في رهبانية القديس يوسف. فلاقت من أبيها وأمها معارضة عنيفة. لكنها توسلت في سرها إلى العذراء تبدل موقف والديها وتلين قلبيهما وأن تسهل لها الأمور عليه.

 

في يوم من الأيام، وبعد أن توسلت إلى أبيها وألحت عليه كثيرًا، قال لها أبوها: "وافقت يا ابتي. وسمحت لك بدخول الرهبنة. فإني قد وعدت العذراء أن أمنح أبنائي الحرية في دخول الدير إذا شاؤوا". فرحت سلطانة فرحًا عظيمًا. وسرعان ما انطلقت لتزف بشرى موافقة أبيها إلى راهبات مار يوسف اللواتي ما فتئن يشجعنها ويصلين إلى الله من أجلها.

المبتدئة الناذرة وبجوار مهد المسيح

 

دخلت سلطانة دير الإبتداء وهو مكان الاستعداد للدخول في الحياة الرهبانية. وفي عشية استقبالها العام السابع عشر من عمرها عام 1860 لبست الثوب الرهباني وعرفت باسم الأخت ألفونسين على حسب العادة المتبعة عند الرهبانيات في تغيير الاسم عند ارتداء الثوب الرهباني. ومرَّ زمن الإبتداء والاختبار بسرعة كما يمر طيف الأحلام السعيدة. وحانت الساعة لتلتزم الأخت ألفونسين فأقبلت على اعتناق النذور الثلاثة، الفقر والعفة والطاعة بين يدي غبطة البطريرك فاليرغا على جبل الجلجلة. ولبست على صدرها الصليب علامة على تكريس ذاتها للمسيح. ولم تهجر هذا الشعار حتى آخر لحظة من حياتها، متخذة من المسيح الذي قال "إذا شاء أحد أن يتبعني فليحمل صليبه كل يوم" (لوقا 23: 9).

 

بعد أن نذرت الأخت ماري ألفونسين نذورها الأولى، وكُّل إليها، نظرًا لمعرفتها باللغة العربية، مهمة التعليم الديني في جميع صفوف المدرسة في القدس. وأفلحت في إنشاء أخوية بنات مريم اختارتهن من صفوة طالبات المدرسة، وقدمتهن إلى كاهن الرعية. فسُرَّ بالمشروع. وأطلق على الفرقة اسم: أخوية الحبل بلا دنس. ونجحت نجاحًا باهرًا. مما دفعها إلى تأسيس أخوية أخرى للأمهات المسيحيات. الأمر الذي دفع كاهن الرعية إلى أن يعينها هي نفسها مرشدة روحية للفرقة لما تتمتع به من حماس متقد وغيرة رسولية. وما زالت هاتان الفرقتان مزدهرتين إلى يومنا هذا. ولا نقدر أن نحصي الأعمال الخيرية التي قامت بها في المدينة المقدسة.

 

وبينما كانت الأخت ماري ألفونسين دائبة على عملها بهمة لا تعرف الكلل، جاءها الأمر بالانتقال إلى بيت لحم للقيام بالمهمة ذاتها. فانصاعت للأمر بحب لتعيش بجوار مهد المسيح. وحين وصلت إلى بيت لحم لم تكن حالة المكان تختلف عما سبق. فقد كانت رعية بيت لحم تفوق رعية القدس أهمية. وكان لها مدرسة مزدهرة. وكما كان متوقعًا من الراهبة الفاضلة، فإن غيرتها المعتادة كانت سوف تعطي النتائج المرجوة. لذا فقد أسست هناك فرقًا كثيرة للفتيات والأمهات لأخوية بنات مريم، على غرار ما فعلت في القدس.

الظهورات السعيدة

 

حظيت الأم ألفونسين بنعم كثيرة من الرب وظهورات سعيدة من أمه المباركة.

 

الظهور الأول: كان صباح اليوم السادس من شهر كانون الثاني عام 1874 وفيه عيد الغطاس. كانت الأخت ألفونسين تصلي السبحة الوردية في مكان مزدان بأبهج زينة لعيد ميلاد الرب في المدرسة الرعوية ببيت لحم، عند البيت الخامس من أسرار الحزن وفيه ذكر موت المسيح على الصليب. عند ذلك تركزت أفكارها على العذراء أم الأوجاع. فتجلى لها بغتة نور بهي ساطع لا يمكن وصفه. وفي وسط النور ظهرت السيدة العذراء باسطة يديها منتصبة وسط غمام منير. وكانت أكثر من النور نورًا. وشاهدت بين يديها سبحة تتدلى من بين يديها المبسوطتين وتتدلى حتى أطراف ثوبها. ويتدلى من السبحة صليب. وكانت خرزات السبحة التي تفصل بين حبات المسبحة تلمع كالنجوم في ليالي الصيف الجميلة. وعلى هامتها تاج مرصع  بخمسة عشر  نجمة وتحت قدميها سبعة كواكب تتلألأ في الغمام المحيط. وقد شاهدت هذه المناظر في وقت واحد.

 

تقول الأخت ألفونسين في مشاعرها وما أحست به من الشغف والحب مما يتعذر شرحه. وأخذت تسكب الدموع الغزيرة. وانفتحت يداها لمعانقة العذراء. بينما تزداد العذراء ألقاً ونوراً وكأنها تريد أن تدنو منها. وحتى تلك اللحظات كانت الأخت ألفونسين مدركة ما تشاهد أمامها. لكنها عندما همت بالاقتراب من العذراء غشي عليها. وكأن الرؤيا سلبتها حواسها. فلم تعد تعي شيئًا وقالت: "ما عرفته في هذا الاختطاف السعيد الممتع من الساعة التاسعة حتى الساعة الواحدة بعد الظهر عندما تركتها وهي في حالة هدوء وسلام وتعزية روحية فائقة الوصف". ولما استعادت الأخت ألفونسين وعيها شعرت أنها خلقت خلقًا جديدًا. ومنذ ذلك اليوم طرأ على حياتها تغيير ملموس. وأخذت تمارس الزهد والتقشف وإنكار الذات.

 

الظهور الثاني: تسنى للأخت ألفونسين أن تشاهد العذراء ثانية ولكن بشكل خاطف. ففي الأول من أيار وبينما كانت في طريقها إلى مغارة الحليب والسبحة في يدها، سمعت من فوقها هاتفًا يردد معها بصوت عذب: "السلام عليك يا مريم". فرفعت نظرها إلى أعلى وإذا بها تشاهد العذراء مرتين متتاليتين. ولما انتهت إلى مدخل المزار أبصرتها مرة ثالثة، حيث قدر لها أن تتأملها مدة أطول، فما لبثت العذراء أن غابت.

 

الظهور الثالث: كان مساء عيد الغطاس 1875 بينما كانت في نفس مكان الظهور الأول تصلي وتتأمل محاسن العذراء، وتطلب منها أن تعطيها النعمة الفعالة لتقتدي بها في ما تبقى لها من حياتها، وتزينها بالفضائل. فلما انتهت من تأملاتها تغيّر المشهد. فشعرت أن أفكارها تتجمع تجمعًا غريبًا أبصرت نورًا عظيمًا بهيًا جميلاً يبهج النظر. وظهرت لها العذراء في وسط هذا النور حاملة مسبحة الوردية، وبجمال أبهى وأكمل مما رأت سابقًا. وطرأ على المشهد التقليدي شيء جديد. وكأن العذراء تنوي الكشف عن مقاصدها تدريجيًا لا دفعة واحدة.

 

وشاهدت صفين من البنات إلى يمينها وإلى يسارها، وهيئتهن كهيئتها، وثيابهن كثيابها. ولمحت حروفًا منيرة مكتوبة في ذلك النور: "بتولات الوردية. رهبانية الوردية". وفي هذه المرة ستطلع الرائية "الأخت ألفونسين" على المهمة المعهودة بها إليها. فبينما كانت تتأمل المشهد الماثل أمامها، قررت البتول أن تتكلم لا كأهل الأرض، بل كما يخاطب أهل السماء. فيكون للكلمات رنين في القلب لا في الأذن. إذ ذاك سمعت صوت العذراء في قلبها وهي تقول: "أريد أن تبدأي رهبانية الوردية".

 

الظهور الرابع: بعد أن بينت سيدة الوردية مقصدها بوضوح وجلاء أخذت تستعجل عملية التنفيذ وتشحذ همة بعض الأشخاص لتقديم العون والمساعدة. فبعد الظهور الأخير بثلاثة أيام أقبلت إحدى طالبات الأخت ألفونسين تهمس في أذنهـا أمرًا يتعلق بالمهمة الجديدة. فأدركت أن غيرها قد اطلع على مشروع السماء. فذهلت وأطلعت مرشدها بهذا الأمر مما سمعت من هذه الطالبة. وآثرت أن تتريث. فأجابت الفتاة: "يجب أن نصلي إلى أمنا مريم البتول كي نعرف إرادة الله".

 

وتضاعفت دهشتها عندما علمت في الأيام التالية أن عددًا من بنات مريم يصلين ويكثرن من أفعال الإماتة الجسدية كالصوم والتضحيات وأعمال المحبة للحصول على نعمة تأسيس هذه الجمعية الرهبانية. فسرت الأخت ألفونسين بكل ما رأت  وفاض قلبها حمدًا وعرفان جميل للرب والسيدة العذراء لهذا السيل المتدفق من النعم. ولكنها عادت إلى الانتظار فعسى أن يحدث على الساحة أمر جديد.

 

ومرة أخرى أخذت العذراء بزمام المبادرة وأوحت إلى الراهبة حلمًا نبويًا يرسم معالم المستقبل، بوضوح أكثر: رأت في الحلم العذراء تحيط بها بنات عديدات متشحات بثاب بيضاء وزرقاء. غير أنهن في هذه المرة كن متسربلات بثوب من نور. ثم تقول الأم ألفونسين: "قبضت العذراء على يدي بشدة". وقالت: "أريد أن تؤسسي رهبانية الوردية. أما فهمت بعد"؟ فأجابت الأخت ألفونسين: "إني مستعدة لكل تعب تقتضيه الرهبانية". فأجابتها العذراء: "إتكلي على رحمتي. ولا تخافي. وأنا أعينك". "ثم أمسكت بيدي وعلقت في عنقي الوردية التي كانت بيدها".

نحو رهبانية الوردية

 

هناك العديد من أحلام الرؤى التي تتابعت على الأخت ألفونسين، وكلها تدور حول المهمة التي اختارتها لها العذراء.

 

مرت الأيام وكان على الأخت ألفونسين تلبية أوامر العذراء. وكم كان صعبًا عليها الانفصال عن جمعيتها الرهبانية ومكاشفة رؤسائها بالمشروع الجديد لجهلهم ظهورات العذراء. وكان رد فعلها أنها طلبت من العذراء أن تعين لها مرشدًا حكيمًا ومسموع الكلمة تنقل إليه الرسالة فيساندها في تنفيذ المشروع: ففي إحدى الرؤى وبينما كانت تصلي وتطلب مرشدًا كفوًا شاهدت الأب يوسف طنوس وعلى رأسه إكليل مرصع بالنجوم وسمعت هاتفًا داخليًا يقول لها بأنه هو المرشد الذي اختارته لها السماء.

 

كانت العذراء تعمل على محور آخر. فألهمت طالبات من أخوية الحبل بلا دنس فكرة إنشاء رهبنة محلية للفتيات العربيات. فأكثرت من أعمال الإماتة والصلاة والصوم والمحبة للحصول على تلك النعمة. وجاءت إحداهن تهمس في أذن الأخت ألفونسين شيئًا يمت بصلة إلى ذلك المشروع. فاحتارت الأخت ألفونسين كيف تستطيع أن تلبي طلب العذراء ورغبة الفتيات. أتتحدث مع رئيستها أولاً أم مع البطريرك أم مع مرشد المدرسة. ولا تملك من الشجاعة ما يحملها على مقابلة رؤسائها في مشروع على هذا المستوى الرفيع. وفي إحدى الليالي رأت العذراء تقبض على يدها بشدة وتقول لها: "أريدك أن تؤسسي رهبانية الوردية، أما حان الوقت لتفهمي"؟ ثم أمرتها أن تمضي لمقابلة البطريرك وأن تبلغه تلك الرسالة. لأن إرسالياته ستزدهر بالوردية.

 

في هذه الفترة طلبت عدة فتيات من القدس في مقتبل العمر من الأب يوسف طنوس إنشاء جمعية رهبانية عربية لرفع مستوى المرأة العربية دينيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا وجعلها قادرة على تربية أولاد صالحين. وجاء تطوع الفتيات في أوانه من حيث كانت الحاجة ملحة لتحقيق نفس الأهداف التي تأسست من أجلها البطريركية اللاتينية في القدس عام 1847. وبينما كانت هذه الأفكار تدور في خلد الأب يوسف طنوس كان لا يزال يجهل أمورًا كثيرة، منها من سيؤسس الرهبانية الجديدة، وما هي روحانيتها، وما واسمها، وما وأهدافها وقوانينها؟ وأين سيكون مقرها؟ ومن سينفق عليها؟ في تلك الفترة الحرجة أقبلت الأخت ماري ألفونسين حاملة رسالة هامة فيها جواب العذراء على أسئلته. فوجىء الأب يوسف أولا. ولما اطمأن إلى رجاحة عقل الرائية واقتنع بصحة الرؤيا، طلب منها أن تكتب كل ما شاهدته وسمعته من العذراء بشأن الرهبانية الجديدة.

حياة التكريس

 

عين الأب يوسف طنوس للمبتدئات معلمة قديرة جدًا هي الأخت روزالي ناصر من راهبات الناصرة. وفي عام 1885 اعتنقت المبتدئات النذور الرهبانية الثلاثة، وكرسن ذواتهن للرب وللسيدة العذراء. وأخذن ينتظرن التعيين في إرسالياتهن الجديدة. وعندما تم التعيين ذهبن بكل نشاط وحماس إلى عدة مناطق من فلسطين والأردن. وعينت الأخت ألفونسين مع الأخت كاترين أبو صوان في يافا الناصرة، وسكنتا في بيت فقير متواضع من الطين يتكون من غرفة نوم واحدة كانت للنوم والطهي والأكل واستقبال الضيوف. لكن بالرغم من هذا البيت الفقير الضيق فقد أظهرت الأخت ألفونسين ارتياحًا شديدًا لذلك الضيق. وكانت الأختان تتلوان المسبحة في كل مكان حتى لقبتا بـ"راهبتي السلام عليك يا مريم".