موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
العالم
نشر الجمعة، ١٤ سبتمبر / أيلول ٢٠١٨
11 سبتمبر.. الحوار والوصل، لا العداء والفصل

إميل أمين :

تمر هذه الايام الذكرى السابعة عشرة لاحداث ذلك اليوم الحزين والمأساوي الذي ضرب فيه الارهاب الاسود نيويورك وواشنطن، في ملمح وملمس لفعل العداوة والكراهية، وفي محاولة لقطع الوصل الانساني، وتجذر الكراهية بين بني البشر من مشارق الشمس الى مغاربها.

لعل ما حدث في ذلك اليوم يدعونا للتأمل مليًا في حال الانسانية واي طريق باتت تفضل: طريق الوصل الانساني والحوار والجوار، ام طريق القطع والفصل وظهور الانبياء الكذبة اولئك المنفرين بأحاديث الصدام الحتمي بين بني البشر، من عينة صموئيل هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات، والذي ارسى من قبل برنارد لويس بدوره رؤية خلافية تقود الى تقسيم العالم الى قسمين الاشرار والاخيار؟

لا يهمنا في هذه السطور الاشارة الى ما جرى في ذلك اليوم كحدث جنائي ومن الفاعل، وهو سؤال لا يزال الجواب عليه غير واضح حتى الساعة، لكن جل ما يهمنا هو التوقف امام اشكالية الحقد التي خلفها هذا الحدث والحروب التي ولدها، وليس خافيا على احد ان حروب افغانستان والعراق، وحروب الارهاب ما ظهر منها وما خفي، جميعها قد تركت اثارا سلبية على مفاهيم الحوار والتواصل الانساني، وجعلت الاحقاد بديلا جاهزا عن المحبة الانسانية التي يتوجب ان تسود العالم، وليس شرطا ان يكون عالما يوتوبيا طهرانيا، بل عالم انساني يصارع مسارب الشر، ويحاول جاهدا القضاء على خططهما استطاع الى ذلك سبيلا.

لم تخلو الساحة العالمية من رجالات نبهوا الناس الى فخ الكراهية الذي وقع فيه العالم في ذلك النهار الحزين، سيما بعد الانجرار المباشر في طريق الحرب، وما افرزته من حزازات في الصدور ومرارات على الالسنة لا تزال باقية حتى الساعة، واغلب الظن انها ستترك اثارا كبيرة عالقة في النفوس، ما يفتح مجالا واسعا للمزيد من العنف ويولد الاكثر من الرغبة في الانتقام، وهكذا يجد التطرف والارهاب حواضن جديدة يستقطب منها وقدوا لمعركة الكراهية والشر.

من بين الاصوات التي انبرت بسرعة شديدة تنبه لخطر السقوط في جب الخوف والكراهية كان البابا يوحنا بولس الثاني، في الثاني عشر من سبتمبر، وفي لقائه الاسبوعي مع شعوب العالم في ساحة الفاتيكان نهار الاربعاء، يؤكد على ان البشرية عاشت يوما مظلما في تاريخها، وان ما جرى شكل تعديا على كرامة الانسان. وتساءل كيف يستطيع شخص ما ان يقوم بعمل وحشي كهذا! لكن مع ذلك ترك يوحنا بولس الثاني فسحة من الامل، اذ اكد ان المؤمن يدرك ان الكلمة الاخيرة ليست للشر والموت، مع ان قوة الظلمة تسود في بعض الاحيان، ويومها كانت الصلاة من اجل الا تطغى دوامة الحقد والعنف على القلوب والنفوس.

بعد ايام قليلة على تلك الواقعة الاممية الحزينة كان البابا على موعد مع زيارة جمهورية كازاخستان، وهي احدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة ذات الغالبية العظمى الاسلامية، وقد نصحه المسؤولون الامنيون بعدم القيام بهذه الزيارة لاسباب امنية، سيما وان امريكا كانت قد اعلنت عن نوايها للقيام بعمل عسكري كبير تجاه افغانستان البلد المجاور لافغانستان، لكن البابا الراحل لم يستمع وقرر الذهاب عسى ان يكون في الامر خيرا عوضا عن الشر الذي ساد.

من العاصمة الكازاخية "استانه" اطلق البابا نداءً دعا فيه المسيحيين واتباع باقي الديانات الى التعاون المتبادل من اجل بناء عالم خالٍ من العنف، عالم يحب الحياة وينمو في اطار العدالة والتعاضد. يومها قال الرجل ذو الثوب الابيض انه لا ينبغي ان يشكل الدين سببا للصراعات، وشجع المسلمين والكاثوليك على الصلاة معا الى الله لكي يسود السلام الخليقة كلها.

من ذلك اليوم وحتى الساعة لا تزال البشرية حائرة، وقد اثبتت التجربة ان الردود العسكرية المسلحة قد لا تكون هي الحلول الناجعة لمقاومة الكراهية، بل هناك حاجة الى منظومة فكرية عقائدية انسانية متكاملة للوقوف صفا في مواجهة سر الاثم الذي يعمل في الناس حتى الساعة، ولينبت عوضا عنه سر المحبة واسرار البعث والقيامة.

الذين قدر لهم زيارة موقع "غراوند زيرو" في مدينة نيويورك في موقع سقوط البرجين سوف يرى لوحة منقوش عليه اسماء نحو ثلاثة آلاف من ضحيا الثلاثاء الحزين، ينتمون الى تسعين جنسية من دول العالم. هل للعالم الذي تألم معا ان يأمل ويعمل ايضا معا في تجاوز بحور الكراهية ويقفز على ازمنة ليل الروح التي قادت الى تلك الماساة الانسانية، ويصل بنا الى فجر انسانية جديدة قوامها التصالح والتسامح مع الذات ومع الاخرين؟

نعم قد تكون الطروحات والشروحات الكلامية والبلاغية يسيرة فيما الحلول الحقيقية على الارض صعبة وعسيرة، لكن مهما يكن من امر فان رحلة الالف ميل تبدا بخطوة، وليس افضل من خطوة التقارب الانساني، وتضافر الجهود البشرية، وفتح آفاق الحوار بين البشر من جسور في مواجهة جدران الخوف والكراهية من الاخر، وحتى نعبر الى الثاني عشر من سبتمبر من دون احساس بالمرارة والالم التاريخيين اللذان يلازمان الشعب الامريكي بنوع خاص والخليقة باسرها بشكل عام حتى اليوم.

سوف تنتصر الحياة على الموت، هذا مؤكد، لكنه انتصار في حاجة الى جهود على الارض حتى وان جاءت في الساعة الحادية عشرة.