موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تؤكد كتب المؤرخين الكنسيين أنه وفي عام 313م صدر مرسوم التسامح تجاه المسيحيين حيث مَهَّد هذا المرسوم للمسيحية لتأخذ طريقها في الاستمرار، وتبع ذلك اعتراف قسطنطين بالمسيحية ديناً رسمياً مسموحاً به في الدولة، وقد نقل قسطنطين عاصمة إمبراطوريته من روما إلى القسطنطينية عام 330م، كما اعترف هذا الإمبراطور بالديانة المسيحية ديانة رسمية لإمبراطوريته مع بداية القرن الرابع الميلادي، فأصدر مرسوم ميلان الشهير اعترف فيه بوضع المسيحية على قدم المساواة مع بقية الديانات الأخرى المعترف بها داخل الإمبراطورية، فرفع هذا المرسوم الاضطهاد وجميع وسائل التعذيب عن جميع المسيحيين.
المؤرخ الكنسي يوسيبيوس القيصاري
اهتم قسطنطين بنشر الديانة المسيحية، فقام في شتاء 324-325م بإرسال رسائل إلى الحكام الإداريين والأساقفة يطلب منهم التعاون لبناء كنائس في مناطقهم، وأن يشجعوا السكان في مقاطعاتهم على اعتناق الدين الجديد.
ويبدو أن المسيحية قد دخلت البتراء خلال هذه الفترة المبكرة من العصر البيزنطي، رغم انتشار الوثنية جنباً إلى جنب معها، إذ أشار المؤرخ الكنسي يوسيبيوس القيصاري (275-339م) إلى وجود وثني في البتراء، كما لاحظ وجود كنائس في المدينة خلال القرن الرابع الميلادي. وتطرق المؤرخ ابيفانوس (310-403م) إلى ممارسات دينية في البتراء تمثل مزيجاً بين الممارسات الوثنية والمسيحية. أما المؤرخ سوزمين من القرن الرابع الميلادي أيضا فقد أشار إلى وجود معابد وثنية في البتراء مع نهاية القرن الرابع الميلادي، والتي استمرت تستخدم حتى القرن الخامس أيضاً.
الرقيم التي في جايا
وأشار برساوما، مؤسس الكنيسة السورية الشرقية، إلى البتراء خلال رحلته إلى منطقة جنوب الأردن، وذلك في المدة ما بين (420-423م) حيث وصل على حد زعم تقريره إلى مدينة كبيرة اسمها (الرقيم التي في جايا) وقد أغلقت المدينة أبوابها بوجهه، وهدد أن يشن حرباً على المدينة وأن يحرقها إذا لم يتم استقباله هو ورفقائه البالغ عددهم أربعين شخصاً، وحسب الرواية ولمدة أربعين عاماً، لم تسقط أمطار على منطقة البتراء، وعندما دخل المدينة تساقطت الأمطار من السماء، وتدمرت أسوار المدينة من الفيضانات، الأمر الذي أدى إلى اعتناق كهنة المدينة الوثنيين المسيحية.
كانت البتراء خلال العصر البيزنطي مكاناً لنفي الخارجين عن الكنيسة، وقد أشارت المصادر التاريخية والكنسية أنه خلال الفترة ما بين نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس كان يتم نفي بعض المجرمين إلى البتراء، وخاصة أولئك الخارجين والمنشقين عن الكنيسة، ومن الأشخاص الذين عوقبوا بالنفي إلى البتراء فالينوس، جون اسثيموس، والاسقف فلافيان.
أساقفة من البتراء
أشارت المصادر المسيحية إلى قيام أساقفة من البتراء بالمشاركة في المجامع الكنسية التي عقدت في سارديكيا (343م) الإسكندرية (362م) والقدس (536م) وغيرها من المجامع، كما وردنا أسماء بعض أساقفة البتراء خلال هذه الفترة مثل أثينوجينوس الذي كان أسقفا للبتراء مع نهاية القرن السادس للميلاد.
شهدت البتراء خلال العصر البيزنطي نهضة عمرانية دينية ومدنية، وتم تحويل بعض المباني النبطية المنحوتة بالصخر، والتي تنسجم مع الاتجاه العام للكنيسة، إلى كنائس مثل المحكمة والدير الذي تحول عام 446م خلال فترة جاسون، كما بُني دير على مقام النبي هارون بقي مستخدماً خلال الفترة الأموية المتأخرة وحتى فترة العصور الوسطى، وقد تمت إعادة استخدام بعض المساكن التي تعود لفترات سابقة.
وفي منتصف القرن الخامس أو نهايته تم البدء بتنفيذ مشروع معماري كنسي إلى الشمال من الشارع المعمد حيث بُنيت ثلاث كنائس بجانب بعضها في هذه المنطقة وهي كنيسة البتراء الرئيسية، وكنيسة التلة والكنيسة الزرقاء، ويبدو أن معظم الحجارة التي بُنيت بها هذه الكنائس وتاجيات أعمدتها قد أخذت من مناطق سكنية نبطية مجاورة لهذه المباني، وذلك بعد تعرض ذلك الجزء من البتراء إلى دمار شامل، نتيجة للهزات الأرضية. وقد عُثر في الكنيسة الكبيرة على أرشيف خاص مكتوب باليونانية على ورق البردي، يتحدث عن الزراعة والضرائب في تلك المنطقة خلال القرن السادس.
وتعتبر هذه الوثائق أكبر أرشيف يوناني يعثر عليه في المنطقة، وتعتبر هذه البرديات من المصادر الأساسية لدراسة التاريخ الاقتصادي لمنطقة البتراء وجوارها، خلال الفترة البيزنطية، وبالتحديد خلال القرن السادس؛ إذ تُلقي هذه الوثائق الضوء على بعض الأمور الإدارية، والشؤون الزراعية.
وقد عُثر على هذه الوثائق في كانون أول عام 1993 بإحدى الغرف المجاورة للكنيسة من قبل فريق من المركز الأمريكي للأبحاث الشرقية، وعُثر عليها بشكل لفائف بلغ عددها حوالي 140 بردية تعود لإحدى العائلات المهمة في البتراء، وقد كتبت الوثائق باليونانية وهي مشابهة من حيث المحتوى لغيرها من الوثائق القانونية المعاصرة والسابقة والتي عثر عليها في عدة مناطق من الشرق الأدنى القديم. أما التاريخ الذي تتحدث عنه الوثائق، فهي الفترة ما بين 528-582م، وتُشير هذه الوثائق إلى علاقات متميزة بين البتراء وغزة.
والوثائق بشكل عام عبارة عن عقود تجارية، ووثائق ضريبية واجتماعية، ووثائق مرتبطة باستغلال الأرض زراعياً، وأمور الميراث ومن مميزات هذه البرديات أنها تشير إلى أن البتراء كانت مركزاً إدارياً متميزاً في جنوب الأردن خلال العصر البيزنطي، حيث كان يتبع لها العديد من المناطق المحيطة، وكان في البتراء خلال هذه الفترة مكتب للضرائب فيه موظفون مختصون. وقد بينت الوثائق أهمية الكنيسة في حياة أهل البتراء؛ إذ كانت هي الجهة الرسمية المخولة بالبت في النزاعات بين الأفراد.
محتوى الوثائق
وتحتوي هذه الوثائق على العديد من أسماء المواقع الجغرافية الواقعة في محيط البتراء، والتي ما تزال مستخدمة حتى يومنا هذا، كما تورد لنا أسماء ينابيع بمحيط البتراء كالبصي، والرفيد، وعين عليس، والتي ما تزال تستخدم حتى يومنا هذا، كما تحتوي الوثائق على العديد من الأسماء المحلية العربية، رغم يونانية الثقافة خلال تلك الفترة ومن هذه الأسماء ما هو نبطي، إضافة إلى احتوائها على العديد من الألفاظ والمظاهر اللغوية العربية.
وتشير الحفريات التي أجريت في الكنيسة الرئيسة في البتراء إلى أنها قد تدمرت مع نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع للميلاد، ويبدو أن الكنيستين المجاورتين لهذه الكنيسة قد بنيتا بنفس الوقت وتعرضتا للدمار بنفس الفترة الزمنية.
ومن الأدلة على استمرار المسيحية في وادي موسى والبتراء خلال العصر العباسي، السراج الفخاري الذي عثر عليه في خربة النوافله والمزخرف بالصلبان.
وتشير المصادر التاريخية إلى وجود المسيحية في البتراء خلال الفترة ما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين،أشار لذلك المؤرخ الفرنسي فوشيه الشارتري، والرحالة الألماني ثيتمار الذي أشار إلى وجود كنيسة ورجلي دين يعيشان في منطقة جبل هارون خلال عام 1217م.
ورغم الانتشار الكبير للإسلام في جنوب الأردن خلال الفترة الإسلامية، فإن المسيحية قد استمرت خلال هذه الحقبة واستمر بناء الكنائس حيث استمر الوجود المسيحي في المنطقة حتى قدوم بيركهاردت عام 1812، والذي أشار إلى وجود بعض العائلات المسيحية في المنطقة والتي هجرت المنطقة على ما يبدو وتوجهت إلى الكرك وربما إلى مناطق أخرى داخل الأردن.
* أستاذ الآثار في جامعة الإمارات