موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
يوحنا المعمدان يُحيي الأمل حيث تلاشى كل أمل

المطران بييرباتيستا :

الأحد الثالث من زمن المجيء يجعلنا مرة أخرى نلتقي شخصية يوحنا المعمدان.

على ضفاف نهر الأردن، تثير عظاته في الناس الرغبة في التوبة (لوقا 3، 10-14)، وتجعلهم يطرحون هذا السؤال: ماذا يجب أن نفعل لكي نحظى بحياة صالحة؟ ماذا يمكنني أنا أن أفعل، لحياتي؟

والّذين يطرحون هذا السؤال ينتمون إلى فئات متنوعة. ولدى كل شخص، ووفقا لوضعه، تتولد رغبة جديدة في الحياة؛ وستكون الإجابة مختلفة وتتناسب مع كل شخص.

كانت الأسئلة على فم الجموع (لوقا 3، 10) والعشّارين (لوقا 3، 12)، والجنود (لوقا 3، 14). ونرى الدهشة لدى الجميع عندما أدركوا أن الخلاص لهم أيضا. لا أحد مستثنى. ويُذكّرنا ذلك بما قاله النبي أشعيا في الاية التي سمعناها في المقطع الإنجيلي يوم الأحد الماضي: "كل إنسان سيرى خلاص الله" (لوقا 3 ، 6). وهذه هي بالضبط الكلمة التي نزلت على يوحنا، الذي كان يدعو بقوة إلى توبة ومغفرة الخطايا مقدّمتين للجميع.

وثمة قاسم مشترك في الردود التي قدمها المعمدان على هذه الأسئلة. وهذا القاسم هو احترام الغير: "لا تستوفوا أكثر مّما حُدّد لكم" (لوقا 13، 13) "لا تظلموا أحداً، ولا تفتروا الكذب على أحد، واقنعوا بوظائفكم" (لوقا 3، 14). باختصار، يَطلب منهم يوحنا تصويب المسارات التي تسير باتجاه الآخر، والقضاء على الظلم، وعدم فعل الشرّ وعدم استغلال الآخر من أجل مصالح خاصة؛ يَطلب منهم مشاركة الاخرين فيما لديهم، ومقاسمة الّذين هم أقلّ حظوة. يبدو هذا الأمر هو الأكثر وضوحا.

بعبارة أخرى، يقول المعمدان إن عملية الإرتداد لا تتم عن طريق الشعائر الطقسية، كما لا تكفي الذبائح ولا التقادم للهيكل ولا الحج. إنّ الحج الذي يجب القيام به هو الذهاب إلى الآخر، بدءا من تواجدنا.

عندما يحدث هذا، تبدأ في التحقّق الرؤيا النبوية، الّتي سبق ورآها أشعيا النبيّ، وبموجبها يخضع العالم لتحول كلي: كل ما كان يعيق اللقاء بين البشر فيما بينهم وبين الإنسان والربّ (إن كانت الجبال أو الوديان أو الطرق الملتوية) سوف ينتهي، وسيتحقّق اللقاء.

لأنه عندما يأتي الربّ، سيجد البشر أنفسهم إخوة، و سيولد نمط جديد من العلاقات.

في الجزء الثاني من المقطع الإنجيلي الّذي يُقرأ اليوم (لوقا 3و 15-18)، يذكر البشير لوقا ثمرة أخرى من وعظ يوحنّا: الترقب والإنتظار: "إذ كان الشعب ينتظر" لوقا 3و 15).

ولذلك، فإن مهمة يوحنّا ليس فقط مساعدة فئات مختلفة من الناس على العيش مع بعضهم البعض بسلام. هذا جيّد بالفعل، ولكن هناك المزيد: يوحنّا يُحيي الأمل حيث تلاشى كل أمل، او ربما تمّ إطفائه. في زمن لم يعد الناس ينتظرون فيه شيئا، واستسلموا لعيش الوقت الحاضر فقط، وهم يئنون تحت نير الظلم والإرهاق، فإنّ يوحنا يسمح لكلمة الربّ أن تعمل فيه، فصار قادرًا على إيقاظ الأمل في الآخر. وهو يذكرنا بأننا لم نُخلق لهذه الأرض وحسب، وأنّ الإنسان يعيش من اللقاء مع الله.

بالنسبة للكثيرين، كان يمكن لهذا الإنتظار أن يتوقف عند حدود شخصية يوحنا: كان الجميع، في الواقع، "أيتساءلون في قلوبهم عن يوحنّا لعلّه هو المسيح" (لوقا 3، 15). وبدلاً من ذلك، يثير ردّ يوحنّا في قلوب الناس أملا يتعدّى ذلك: عندما يأتي المسيح، سيفيض هذا الأمل، وسيتغلب على كل توقع محتمل. فيوحنّا، بالمقارنة مع المسيح، هو لاشيء، وهذا ما يُقِرُّ به يوحنّا (لوقا 3، 16).

وسيكون هذا صحيحًا تمامًا، أي أنّ المسيح سيكون أسمى من كل التوقعات. وكان من الصعب حتى على يوحنا التعرف عليه. عاش مأساة عدم القدرة على سدّ الفجوة بين ما كان ينتظره وبين يسوع الحقيقي ("فدعا اثنين من تلاميذه وأوفدهما إلى الربّ ليسأله: أأنت الآتي أم ننتظر آخر؟" (لوقا 7، 20 وراجع متّى 11، 3)

لهذا يجب أن نكون دائمًا يقظين: ليس فقط لأننا لا نعرف اليوم ولا الساعة، ولكن أيضًا -وربما بشكل أكبر- لأن ما سيتم منحه لنا سيتجاوز توقعاتنا بكثير. ومن المهمّ أن نحب هذه العطيّة وأن نتركها تتجاوز آمالنا، فتأخذنا إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث لم نفكر في الذهاب.

لأن الأمل، كي يستحق هذا الاسم، لا يمكن أن يكون إلا أملاً غير محدود، أملا بحجم الأبديّة.