موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٢٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
وعلى العشاء أيضًا لا يسمعون موسيقانا

رمزي الغزوي :

ما أعمق الحب وأخلده في أذن الزمان وفمه. فببساطة يمكن لقصة حب عابرة أن تحيي معها كمّاً هائلاً من القصص التي تغيب عن مخيال الكاتب والمخرج والناس، والتي تظل على غبار الهامش؟!. ويمكن لقصة حب سريعة، أن تنتشل باخرة شطرت نصفين في قعر المحيط. وتجعلنا نتخبط في بارد الماء، كركابها المستغيثين في برزخ للموت أو الحياة.

قبل أيام شاهدت من جديد فيلم التايتنك الشهير، الذي شاهدته قبل عقدين من الزمن، ولهذا تركت التحديق في الماء السريع عند مقدمة الباخرة، وتجاوزت عن ملاحقة الدلافين التي تسابقنا بعنفوان، ونزلت مباشرة إلى الذين لم يستحقوا من المخرج إلا لحظة عابرة وخاطفة.

نزلت بكامل قلبي إلى الذين كانوا يعيشون أصعب الظروف وأشقها، إلى الرجال الذين كانوا يُلقمون المراجل الحارقة بالفحم الحجري، كي تنطلق تايتنك بكل غرور وتيه. وكتبتُ على جدار بالفحم: كم قصة نحتاج، وكم فيلماً كي نبيّض حياة وأحلام هؤلاء المنسيين. تايتنك تشبهنا، وتشبه حياة البشر عموماً، حين يغور الكثيرون من البسطاء في سواد التغييب والتهميش والتطنيش، مع أنهم مرجل الحياة، ووقودها.

من بين 144 سيدة من الدرجة الأولى، غرقت أربع سيدات فقط، والبقية ظللن في قوارب قابلة لحمل المزيد من المستغيثين. لكن (الإتكيت) لم يسمح لبنات ماري أنطوانيت، أن يعدن إلى رجالهن الآيلين للغرق والتجمد. كم أوجعني المشهد هذا المشهد. فلماذا أيتها الباذخات؟!. هكذا ضربني السؤال وقصفني.

ولو أن مخرجاً فذاً ومعه كاتب ألمعي وجدا منتجاً لا يحسب حساب الملايين، لصنعا فيلماً لقصة بعض عرب حالمين، كانوا مقصيين على تايتنك، وغرقوا دون أن يذكروا، إلا بإشاراة بارقة. سيكون فيلماً حاشداً بالحياة، ونبضات الأمل، والتوق لمكان بعيد.

(إنهم على العشاء أيضا لا يسمعون موسيقانا). هذا العبارة الواخزة الحزينة التي قالها عازف الكمان المبدع لرفاقه في الجوقة الموسيقية، قبل غرق تايتنك بدقائق. حينما طلبوا منه أن يتوقف عن العزف، لأن الناس منشغلون بالموت والبحث عن بصيص نجاة. ولكنه ظل يعزف مندغماً بألحانه ويعيشها.

سيقول قائل: لقد بُني الفيلم على قصة عجوز خرفة، تجاوزت المائة عام، وعلى حكايتها العابرة مع شخص ليس له اسم، ولم يدرج في سجلات الباخرة، ولم يسمع به أحد. وسأقول: هنا تتجلى قوة الفن، الذي لا يُبنى إلا على مرايا الحلم، ولا ينبت إلا من بذار الخيال، وشطحات جنونه.

(الدستور الأردنية)