موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢٩ يناير / كانون الثاني ٢٠١٣
هل يرحل المسيحيون العرب؟

وفيق غريزي :

بدأ الاهتمام بالبحث في المسيحية العربية بعد حشد للقراءات المتواصلة عن لبنان، حيث لعبت المسيحية دوراً مهماً في تاريخه الثري، والذي كان فاعلاً في تاريخ المشرق العربي في مختلف حقباته، بخاصة تلك التي انطلقت مع ظهور الإسلام، ولقد كان للمسيحية في لبنان دور عظيم في تاريخ الأمة العربية في القرون الأربعة الماضية، أي عصر النهضة والتنوير، بعد هبوط عميق ومديد.

ولقد أدرك وهيب عبده الشاعر في مرحلة مبكرة من هذا الإهتمام، وفي محاولة تحسس واستشراف الدور الفاعل الواعد والمنشود للمسيحيين العرب في هذه المحطة من التحديات العربية، ضرورة التمييز بين دور المسيحية ودور المسيحيين من أجل تعميق الفهم لتاريخهما، فهل كان للدين المسيحي تأثير على المجتمع العربي وحضارته؟ أم أنه كان هامشياً وذا تأثير غير جوهري؟ وإذا كان دور المسيحيين العرب جوهرياً فهل كان ذلك بسبب دينهم؟ أم بسبب إنتمائهم العربي في مرحلة صعود العرب ما قبل الإسلام؟

لقد لعب المسيحيون العرب دوراً إيجابياً في الدولة والمجتمعات العربية منذ البداية، وبخاصة في العلوم والمهن والمال والفلسفة والتواصل مع الإغريق والفرس والهند, وكذلك الدور الذي لعبوه في العصر الحديث، في إطلاق شرارة اليقظة على عظمة اللغة العربية وتراثها الثقافي، المؤسس للنهضة الحديثة التي لم تعط ثمارها الكاملة بعد.

ـ المسيحية المشرقية ـ

لم تقصر المسيحية المشرقية في رسالتها الإنسانية، حيث نقلت العقيدة المسيحية إلى أوروبا، وذلك عندما كان المسيحيون العرب منخرطين في الجيوش الرومانية وبخاصة الاقباط منهم، مثل الاباطرة فيليب العربي وكركلا، ولكن المسيحية، يقول المؤلف، في الغرب اختلفت نوعياً عندما أصبحت ركناً أساسياً من أركان الدولة البيزنطية في بداية القرن الرابع، ومن ثم اصبحت البابوية الحاكمة من الفاتيكان بعد ذلك، وغرقت في المال والاستبداد نتيجة ذلك، وحتى الثورة الفرنسية.

ولم يبخل المسيحيون العرب كذلك على اشقائهم العرب المسلمين عندما شاركوا وقادوا مجالات الحياة المهنية والعلمية والفكرية والأدبية، والتي كانت في البداية شبه احتكار لهم، وبخاصة في مجال الترجمة في دار المأمون للحكمة، وكذلك في الإدارة الحكومية المالية في العصور المتعاقبة.

لقد نجح العرب "بمكوناتهم الحضارية المنتشرة والشاملة ومنها الدينية المنوعة من مسلمين ومسيحيين، بأن يقدموا للانسانية حضارة لا تقل عن الحضارات الانسانية الأخرى، وكذلك في المستوى الراقي والثراء والانتشار الواسع، وفي دفع البشرية الى الأمام والى الأعلى". فقد كان العرب حتى الدعوة الاسلامية مسيحيين ويهوداً ووثنيين، ولم تتغير الأعداد والنسب الا ببطء شديد بعد الدعوة الإسلامية.

وكان اليهود والعرب الذين نزحوا من اليمن والحجاز مع المسيحيين في فجر الإسلام الى الهلال الخصيب ومصر، والذين كانوا أقل عدداً من المسيحيين فلم يسجل لهم التاريخ نشاطاً بارزاً في المجتمعات التي كانوا جزءاً منها. ويشير المؤلف الى ان في القرون القليلة الماضية ورغم تراجع نسب المسيحيين الاجمالية من المجموع العربي العام، خاصة في القرن العشرين الى ما دون العشرة بالمئة حتى الآن، وذلك في كل من الهلال الخصيب وفي وادي النيل، فقد كان أداؤهم عالياً، وخاصة في مجالات الثقافة واللغة العربية والأدب. وقد برز ذلك في لبنان وسوريا بشكل خاص، وفي مجالات الفكر والعمل السياسي القومي واليساري، وفي مجالات الاقتصاد والتواصل مع الحضارة الغربية، ومع تزامن الهجرة المسيحية من لبنان الى مصر والعالم الجديد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والحفاظ على التواصل بينهم وبين الوطن الأم تعاظمت مساحة عطائهم ثانية.

المظاهر الثقافية والاجتماعية

يتميز المسيحيون العرب الآن عن سائر المجتمع العربي المسلم بفروق قليلة ولكنها ظاهرة أحياناً، وتشكل الأسماء الشخصية إحدى دلالات التفاعل والانتشار بين الحضارات المختلفة، في مجالات الثقافة والأديان، وتشترك الأسماء بذلك مع نماذج الحياة والسلوك الاجتماعي، بما فيه اللباس والمساكن والعادات وحرية الاختلاط بين الجنسين ومدى ذلك، والترابط العشائري، وغيرها، ويرى المؤلف أنه من المؤشرات الراهنة والكبيرة لمحصلة هذا التفاعل انتشار الأسماء العربية في البلدان الإسلامية كافة، وانتشار الأسماء التوراتية اليهودية والمسيحية في الغرب، وتؤثر الأسماء ودلالاتها بشكل عريض وعميق في العلاقات بين المكونات المختلفة داخل المجتمع وخارجه، وفي القرون الأخيرة "نهض الغرب في المجالات الثقافية والاقتصادية والعسكرية، ونشأ عن ذلك تكثيف العلاقات من جديد بينه وبين العالم العربي بشكل غير متكافئ لصالح الغرب". وقد استعمل الغرب القوة العسكرية في احتلال كامل العالم العربي واستيطانه واستعماره في القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين والقرن الحالي. وتأثر المسيحيون العرب بذلك في مجالات متعددة، وراحوا يعتمدون الأسماء الشخصية الأوروبية لكل من الذكور والإناث، وكانت دوافع ذلك التوجه محاولة التماهي مع المجتمع الغربي، والتمايز عن سائر المجتمع، وإعلان رغبة التقرب من الغرب والتودد له وموالاته للحصول على المكاسب المتنوعة، ويشكل هذا مؤشراً لعمق الاختراق والتغلغل الغربي في المجتمع العربي.

ويقول المؤلف "أن ذلك خلق لدى أشقائهم العرب المسلمين كمية من عدم الارتياح والتشكيك بانتمائهم وولائهم للثقافة والهوية والعصبية العربية. فحتى الأسماء المسيحية العربية تم استبدالها كثيراً وخاصة في لبنان، بما يعادلها في اللغات الغربية وخاصة الفرنسية. فميخائيل أصبح ميشيل، وحنا أصبح جان، ومريم أصبحت ماري، ومن عباس وهاشم وعبد العزيز ومسعود التي استعملها الموارنة في الماضي، وقليلاً حتى الآن، إلى رينيه وألبير وروبير وانطوان ومارسيل ورينار إلخ". وذلك دون التعرض لأسماء النساء التي يبدو أن لها شرعية اجتماعية، لاختراق الحدود الثقافية عبر التاريخ وفي سائر الأمم والممالك.

ويلاحظ المؤلف ارتباط استعمال الأسماء الغربية بأزمنة الضعف لدى العرب، وفقدانهم الثقة بالنفس، ورغبتهم التشبه بالغرب المتفوق، بينما يتراجع هذا الاستعمال في مراحل النهوض المعنوي والأحاسيس الوطنية والقومية مثل حقبة الرئيس جمال عبد الناصر، عندما شاع استعمال الأسماء العربية الخالصة، إلى جانب أسماء آبائهم الأوروبية التي تعود لحقبة سابقة.

الانتشار المسيحي

انحسر الوجود المسيحي في العالم العربي جغرافياً منذ بداية الإسلام وحتى الآن، فقد تلاشى كلياً في ليبيا حتى المحيط الأطلسي، باستثناء بقايا المستوطنين الأوروبيين الرمزية، وخاصة في الجزائر، وتلاشى كذلك في كامل الجزيرة العربية منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، باستثناء المقربين والمؤقتين العرب أو غيرهم, بسبب حصولهم على الجنسية والإقامة الدائمة. وأخيراً يقول المؤلف "تلاشيهم أيضاً في القرن الأفريقي باستثناء أريتريا. أما في السودان فقد هاجرت إليه أعداد قليلة من مصر وأقطار عربية أخرى، وقطنوا شماله بالإضافة إلى مسيحيي النوبة، بينما أوصل الاستعمار البريطاني المسيحية حديثاً إلى جنوب السودان غير العربي حالياً. وما زال جنوب السودان يشهد تنافساً شديداً بين الإسلام واللغة العربية الوافدة حديثاً من جهة، وبين المسيحية واللغة الإنكليزية الأكثر حداثة والمتوسعة من جهة أخرى، واللغات القبلية والأديان الوثنية المحلية والمتراجعة من جهة ثالثة". وبذلك سوف تتأثر النتائج النهائية كثيراً، حيث انفصل الجنوب عن الشمال عام 2011 وقبل حسم هوية الجنوب في كل من اللغة والدين والهوية الثقافية مستقبلاً. وتتكرر الهوية غير المحسومة نهائياً في كل من الدين واللغة في الصحراء الكبرى وجنوبها المباشر.

أما في المهجر، فقد جاء المسيحيون العرب الى العالم الجديد منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكانت غالبيتهم من لبنان وسوريا وفلسطين، وإلى حد أقل بكثير من مصر والعراق حتى حديثاً. وقد تركزت غالبيتهم في أميركا اللاتينية والكاريبي، تليها أميركا الشمالية وأستراليا. "ورغم أن غالبية العرب المهاجرين الى العالم الجديد كانت في البداية من المسيحيين العرب؛ فقد رافقهم بعد ذلك، وإن بأعداد أقل، المسلمون العرب، ومما عزّز مثل هذه الهجرات الحروب الممتدة التي تورّطت بها الدولة العثمانية. وقد انعكس ذلك مباشرة على رعاياها من الرجال الذين كانوا لزاماً عليهم أن يحاربوا في كل الجبهات. فدفع ذلك من استطاع منهم للهجرة، فضلاً عن إرهاقهم بالضرائب التي أفقرتهم، وقد وصلت أعداد المسيحيين العرب الآن في المهجر الى نحو 25 مليوناً، وهم ضعف المسيحيين العرب الذين بقوا في أوطانهم".

وفي مجال احتفاظ المسيحيين العرب المهاجرين الى الغرب بهويتهم وانتماءاتهم القروية أو الوطنية أو الطائفية أو القومية، فهنالك تباينات كبيرة. فمن الذين ذابوا وتزاوجوا وفقدوا كامل هوية جذورهم، الى درجات متدرجة من الاحتفاظ بالوعي في الأصول، والقليل من الاجتماعيات والعلاقات ونوعية الطعام، وإلى الذين حافظوا على كل مكوّنات الهوية الأصلية واعتمدوا مسيرة في حياتهم العملية تفانوا فيها في الدعوة للقضايا العربية، خصوصاً فلسطين والإسلام والثقافة العربية.

نتيجة للقوى الطاردة في شمال إفريقيا والجاذبة في أوروبا الغربية، "تزايدت الهجرات الشرعية وغير الشرعية حتى قاربت العشرين مليوناً في الوقت الراهن. وقد بدأ الكثير من العلماء التنبؤ بالمستقبل يتحدثون عن القارة الأوروبية المسلمة قبل نهاية القرن الواحد والعشرين". وفي المشرق العربي أدى زرع إسرائيل بالقوة الغربية المتفوقة على القوى العربية المحلية، الى خلق توترات وانفجارات وثورات وحروب كبيرة. وكان نصيب الهجرة في هذه المرة أيضاً للمسيحيين العرب، الذين رأت إسرائيل فيهم عدواً لمشاريعها المستقبلية، واستطاعت أن تقنع الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا، بتسهيل هجرة هؤلاء إليها. وفي النصف الثاني من القرن الماضي، حصلت ثلاث هجرات كبيرة لهذه الأسباب، خصوصاً من لبنان أثناء الحرب الأهلية من 1975 الى 1990، ومن العراق بعد الغزو الأميركي منذ 2003. وقد كانت أعداد هؤلاء المهجرين قسراً بالملايين. "أما في مصر، فإن استمرار التوتر بين المسلمين والأقباط، على المستوى الشعبي، واستبعاد الدولة للأقباط، وعدم إدخالهم في المؤسسات الحكومية بشكل واضح، خصوصاً على مستوى النخب القيادية، زاد الضغط على الأقباط حتى ترك منهم حتى الآن أكثر من مليونين أو ثلاثة ملايين في العقود الستة الأخيرة".

المسيحيون في القرن العشرين

كان أداء المسيحيين، وعبر القرن اللاحق للحرب العالمية الأولى، خليطاً متنوعاً. ففي مصر سجّل المسيحيون نجاحاً في النصف الأول من القرن الماضي في تلاحم مع المسلمين تحت مظلة حزب الوفد، بقيادة سعد زغلول ومكرم عبيد، رغم المساعي البريطانية الحثيثة لخلق الفرقة بينهما، عبر إيقاظ الوعي بالهوية القبطية والفرعونية. وقد عكس ذلك الفشل البريطاني حسب رأي المؤلف عمق التشارك الاجتماعي بين الأقباط والمسلمين. أما بعد ثورة الأقباط الأحرار؛ فقد تراجع الأقباط في مصر وخرجوا من أي دور في الشأن العام، وما زالوا يعانون من ذلك حتى اليوم. وفي العراق بقي "المسيحيون مهمشين ومنبوذين في العهود كافة منذ العهد العثماني، وبعد الغزو الأميركي تعرّضوا كغيرهم للعنف رغم عدم مشاركتهم، فتراجعت أعدادهم بسبب الهجرة والهروب، ولا يبدو الأفق هناك واعداً حتى الآن، حيث لم يتبق إلا القليل منهم".

أما في لبنان، فكان أداء المسيحيين نشيطاً ومهماً على كل المستويات السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية. وقد نجح المسيحيون، بدعم من الفرنسيين في توسيع حدود المتصرفية، ولكن يقول المؤلف: "على الرغم من الممانعة البارزة من الأهالي لضم الأراضي (البقاع، الشمال، الجنوب وبيروت) في حينه. فقد نجح المسيحيون اللبنانيون في إقامة مجتمع متعدد وحر ومتنوع وديموقراطي، وإن ليس محصّناً من العبث الخارجي". وأصبح الداعون لهذه القيم من المسلمين لا يقلّون حماسة عن أشقائهم المسيحيين. ومن المعوّل على المجتمع اللبناني الشامل لنحو ثمانية عشر مذهباً أن يطوّروا، رغم الكثير من المعاناة والدماء، النموذج الأصلح لبناء مجتمع المواطنة والمساواة المدني، وإخراج الدين والطائفة من النظام السياسي، لإبقائه شأناً فردياً وروحياً، مع بعض الأشكال والشعائر والنشاطات الاجتماعية.