موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ٢٣ ابريل / نيسان ٢٠١٨
نحو بيئة مدرسية خالية من التنمر

د. أمينه منصور الحطاب - الرأي :

البلطجة، التسلط، الترهيب، الاستئساد، الاستقواء، مرادفات مختلفة لظاهرة سلبية نشأت في الغرب وبدأت تغزو مدارسنا بفعل تأثير العولمة والغزو الإعلامي نطلق عليها التنمر المدرسي. وتعرف بأنها: أفعال سلبية متعمدة من جانب طالب أو أكثر لإلحاق الأذى بطالب آخر تتم بصورة متكررة وطوال الوقت، ويمكن أن تكون هذه الأفعال السلبية بالكلمات مثل: التهديد، التوبيخ، الإغاظة والشتائم، كما يمكن أن تكون بالتعرض الجسدي كالضرب والدفع والركل، أو حتى بدون استخدام الكلمات أو التعرض الجسدي مثل التكشير بالوجه أو الإشارات غير اللائقة بقصد وتعمد لعزله من المجموعة.

ووفقاً لرأي دان ألويس النرويجي (Dan Olweus)–الأب المؤسس لأبحاث التنمر في المدارس–لا يمكن الحديث عن التنمر إلا في حالة عدم التوازن في الطاقة أو القوة (علاقة قوة غير متماثلة)؛ أي في حالة وجود صعوبة الدفاع عن النفس، أما حينما ينشأ خلاف بين طالبين متساويين تقريبا من ناحية القوة الجسدية والطاقة النفسية فإن ذلك لا يسمى تنمرًا، وكذلك الحال بالنسبة لحالات الإثارة والمزاح بين الأصدقاء غير أن استمرار المزاح الثقيل المتكرر بالرغم من ظهور علامات الضيق والاعتراض عند الطالب الذي يتعرض له يدخل ضمن دائرة التنمر.

عند الحديث عن ظاهرة التنمر غالبا ما يتم التركيز على الطرف الضعيف أو المتنمر عليه الذي يقع عليه الفعل الإكراهي المؤلم ويمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على مساره الدراسي و صحته النفسية تصل في بعض الأحيان إلى درجة الانتحار. لكننا إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة من زاوية أخرى فسنجد ضحية أخرى لا يُلتَفت إليها غالبًا تتمثل في الطالب أو مجموعة الطلبة المتنمرين الذين يتخذون صورة العنف سلوكًا ثابتًا في تعاملاتهم؛ إنهم ضحايا سوء التنشئة الأسرية والاجتماعية، وكلا الضحيتان تحتاجان للعلاج والارشاد النفسي والسلوكي ، فالمعتدِي والمعتدَى عليه عضوان أساسيان في المجتمع، وإذا أهملنا الطالب المعتدِي ولم نقوّمه - تربويا وسلوكيا - سنعرض طلبة آخرين للوقوع في المشكلة ذاتها، ونكون بذلك قد ساهمنا في انتشار الظاهرة بصورة أكبر في المجتمع.

تعزو الدراسات أسباب ظهور التنّمر في المدارس إلى التغيّرات التي حدثت في المجتمعات الإنسانية والمرتبطة أساسا بظهور العنف والتمييز بكافة أنواعه، واختلال العلاقات الأسرية في المجتمع، وتأثير الاعلام على المراهقين في المراحل الأساسية والثانوية، وانتشار الفقر، وعدم قدرة أولياء أمر الطلبة المتُنمّرين على ضبط سلوكاتهم، وعموما يمكن تلخيص أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار ظاهرة التنمر في الآتي :

الأسباب السيكوسوسيولوجية

ينحدر المتنمرون في الغالب من الأوساط الفقيرة ومن العائلات التي تعيش في المناطق المحرومة وتعاني من مشاكل اقتصادية، في ظل وضع سوسيولوجي يتسم باتساع الهوة و الفوارق بين الطبقات الاجتماعية، ومن الناحية السيكولوجية عادةً ما يكون المتنمرون وخصوصا القادة منهم ، ذوي شخصيات قوية ومن الشخصيات السيكوباثية المضادة للمجتمع.

أما الأسباب الأسرية فتظهر في المجتمعات المعاصرة عند الأسر التي تميل لتلبية الاحتياجات المادية للأبناء من مسكن وملبس ومأكل وتعليم جيد وترفيه مقابل إهمال الدور الأهم وهو المتابعة التربوية وتقويم السلوك وتعديل الصفات السلبية والتربية الحسنة، وقد يحدث هذا نتيجة انشغال الأب أو الأم أو كلاهما عن تربية أبنائهما ومتابعتهم مع إلقاء المسؤولية على غيرهم من المدرسين أو المربيات في البيوت، و إلى جانب الإهمال يعتبر العنف الأسري من أهم أسباب التنمر.

إن الطفل الذي يتعرض للعنف في الأسرة يميل إلى ممارسة العنف والتنمّر على الطلبة الأضعف في المدرسة، وكذلك الأمر في الحماية الزائدة عن الحد التي تعيق نضج الأطفال وتًظهر عندهم أنواع من الفوبيا كفوبيا المدرسة، والأماكن المفتوحة لاعتمادهم الدائم على الوالدين، فالحماية الأبوية الزائدة تقلل من شأن الطفل وتضعف من ثقته بنفسه وتشعره بعدم الكفاءة.

إن الأسباب المرتبطة بالحياة المدرسية أدت إلى ارتفاع نسبة العنف إلى مستويات غير مسبوقة وصلت حد الاعتداء اللفظي والجسدي على المعلمين من قبل الطلبة وأولياء أمورهم، إذ يظهر تراجع في حدود الاحترام الواجب بين الطالب ومعلمه الأمر الذي أدى إلى تراجع هيبة المعلمين وتأثيرهم على الطلبة بل وشجع بعض الطلبة على التسلط والتنمر، إلى جانب ذلك يمكن أن يؤدي التدريس بالطرق التقليدية التي تعتمد مركزية المعلم كمصدر وحيد للمعرفة ومالك للسلطة المطلقة داخل الصف إلى دفع الطالب إلى اعتماد العنف و الإقصاء كمنهج لحل المشكلات مما يخلق بيئة مناسبة لنمو ظاهرة التنمر، هذا بالإضافة إلى غياب الأنشطة المنهجية اللاصفية داخل المدارس واختزال الحياة المدرسية في الأنشطة المنهجية التي تمارس داخل الصف في إطار البرامج الدراسية.

وتظهر الأسباب المرتبطة بالإعلام والثورة التقنية في الألعاب الإلكترونية التي عادة ما تعتمد على مفاهيم مغلوطة كالقوة الخارقة، وسحق الخصم، واستخدام كافة الأساليب لتحصيل أعلى النقاط والانتصار دون أي هدف تربوي، فنجد الطلبة المدمنين على هذا النوع من الألعاب يعتبرون الحياة اليومية بما فيها الحياة المدرسية امتدادًا لهذه الألعاب فيمارسون حياتهم في مدارسهم أو بين معارفهم والمحيطين بهم بنفس الكيفية، وهنا تكمن خطورة ترك الأبناء يدمنون ألعاب العنف، لذا ينبغي على الأسرة عدم السماح بتقوقع الأبناء على هذه الألعاب والسعي للحد من وجودها، كما ينبغي على الجهات المختصة أن تتدخل وتمنع انتشار تلك الألعاب المخيفة ولو بسلطة القانون لأنها تدمر الأجيال وتفتك بهم، و إلى جانب الألعاب الإلكترونية وبتحليل بسيط لما يعرض في التلفاز من أفلام – سواء كانت موجهة للكبار أو الصغار – نلاحظ تزايد مشاهد العنف والقتل الهمجي والاستهانة بالنفس البشرية بشكل كبير في الآونة الأخيرة، ولا يخفى على أحد خطورة هذا الأمر خصوصا إذا استحضرنا ميل الطفل إلى تصديق هذه الأمور وميله الفطري إلى التقليد.

إن أول خطوة لعلاج هذه المشكلة هو الاعتراف بوجودها، تليها مرحلة التشخيص للوقوف على حجم هذه الظاهرة في مدارسنا وتحديد المستويات الدراسية التي تنتشر فيها أكثر من غيرها، و معرفة الأسباب التي تؤدي إلى انتشار التنمر عندئذ يمكننا أن نعمل على إيجاد حلول لهذه المشكلة التي تنتشر بسبب التغييرات التي تحدث في المجتمع وتأثير الإعلام الذي غيّر كثيراً من سلوكيات الأطفال والمراهقين وامتد تأثيره ليشمل حتى سلوكيات البالغين.

تعتبر الأسرة البيئة الأولى التي تؤثر في سلوك الطفل والأهم في التصدي لمشكلة التنمر، ولكي يكون التدخل الأسري فعالا لابد من التروي وعدم العجلة في الحكم على سلوك الطفل ووصفه بالمتنمر قبل أن تتضح الرؤية وتتم دراسة المشكلة من جميع الجوانب بما في ذلك بحث الصعوبات التي قد يواجهها في المدرسة فيما يتعلق بالتحصيل الدراسي والتي يمكن أن تكون وراء سلوكه العدواني، و في حالة ثبوت تنمر الطفل يجب مناقشته بهدوء وتعقل والاستفسار عن الأسباب التي تجعله يسلك هذا المنحى تجاه أقرانه، وتوضيح مدى خطورة هذا السلوك و آثاره المدمرة على الآخرين، و في جميع الأحوال يجب تفادي وصف الطفل بالمعتدي أو المتنمر أو أي نعت قادح أمام زملائه، لأن ذلك يمكن أن يأتي بنتائج عكسية وخيمة، كما يجب على الآباء عدم اختلاق الأعذار للطفل والتبرير لأفعاله وبخاصة أمام المعلمين ،ومن جهة أخرى ينبغي التحكم فيما يشاهده الطفل في التلفاز وتذكيره بوجوب احترام مشاعر الآخرين، وعلى الوالدين التعامل مع الموضوع بجدية لأن الأطفال الذين يتنمرون على الآخرين عادة ما يواجهون مشاكل خطيرة في حياتهم المستقبلية، أما في حال كان الابن ضحية للتنمر فيجب على الوالدين إبلاغ الإدارة المدرسية بذلك، والشروع في تعليم الطفل مهارات تأكيد الذات وتقديرها من خلال تقدير مساهماته وإنجازاته، وإشراكه بنشاطات مدرسية اجتماعية تسمح له بالاندماج مع الآخرين وبناء ثقته بنفسه.

إن التعامل الأمثل مع التنمر المدرسي يتم من خلال تطوير برامج مدرسية واسعة بالتعاون بين الإدارة التربوية والطلبة والمعلمين وأولياء الأمور والمجتمع المحلي، بحيث يكون هدف هذا البرامج تغيير ثقافة المدرسة، والتأكيد على الاحترام المتبادل، والقضاء على التنمر ومنع ظهوره ومن المفيد جدا الاستفادة من برنامج ألويس الذي يهدف لمكافحة التنمر ومساعدة الأطفال على العيش بشكل أفضل وجعل بيئة المدرسة أكثر ايجابية، و لكي تكون البرامج فعالة لابد أن تشمل على الأمور التالية: توعية المعلمين والأهالي والطلبة بماهية سلوك التنمر وخطورته، إشراك مؤسسات المجتمع المدني في التصدي لهذه الظاهرة، إدراج مواضيع التربية على المواطنة والسلوك المدني في المناهج الدراسية ،تشديد المراقبة واليقظة التربوية للرصد المبكر لحالات التنمر، وضع برامج ارشادية للمتنمرين بالشراكة مع المختصين في علم النفس، إثارة النقاشات في الصف واستخدام استراتيجية التعلم من خلال الدراما للإحساس بشعور من يتعرض للتنمر(...)