موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠
مقالات عن القيادة الراعوية في ظلّ جائحة كورونا: التطلّع نحو العُلى

المطران بشار وردة :

 

المُقدمة

 

قالَ يسوعُ هذهِ الأَشياء، ثُمَّ رَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ وقال: "يا أَبتِ" (يو 17: 1). بعد أن أتمَّ ربّنا يسوع تعليمهُ لرُسلهِ، حانت الساعة التي فيها يسيرُ دربَ الألم ويواجهُ الموت، فرفعَ عينيهِ إلى السماء مُصلياً إلى الله: "يا أبتِ". لم ينتظِر منه مُعجزةً أو أن يتجاوز هذه السّاعةَ فحياته ليست هي "الأمرُ الأهمُ"، بل وجّه الصلاةَ كلياً من أجلِ جماعةِ الرُسل والكنيسة (يو 17)، وفي ذلك، تعليمٌ رائعٌ عن القيادة الراعوية المُنتظرَة من الكنيسة في مواجهةِ الأزماتِ: "أن ترفعَ أنظارها إلى السماءِ، نحو الله ليُرشدها، وأن تُركّز إهتمامها على الأمر الأهم: جماعةُ الإيمان". فحتّى الآن كان الله الآب هو الذي يستجيبُ لصلاةِ ربّنا يسوع: "شُكراً لَكَ، يا أَبَتِ على أَنَّكَ استَجَبتَ لي وقَد عَلِمتُ أَنَّكَ تَستَجيبُ لي دائِماً أَبَداً ولكِنِّي قُلتُ هذا مِن أَجْلِ الجَمْعِ المُحيطِ بي لِكَي يُؤمِنوا أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يو 11: 41- 42)، وحانَ الوقت ليواصِل المسيرةَ ليكونَ علامةَ؛ آيةً لجماعةِ الرُسل فيُشعِرهُم بأنهم قادرون على مواجهةِ الأزمةِ والتغلّب على الصعوباتِ، فواجه الموتَ وأنظارهُ مرفوعةٌ نحو الله وإهتمامهُ مُشخصٌ حول الآخرين: أمّهُ والتلميذ الذي كان يُحبّهُ، فهو راعٍ وفيٌّ لهم، وفي يستمدُّ العزيمةَ لأنّه لم يتنكّر حضورهم معهُ في محنتهِ.

 

القيادة: التطلّع نحو العُلى

 

القيادة الراعوية المُبدعة تستشعِرُ حاجاتِ مؤمنيها وتُوقِظُ الرجاء فيها ليواصلوا المسيرة بحماسةٍ، فخدمتها تكمُنُ في قدرتها على "تقويتهم" ورفعِ معنوياتِهم. هذا الشكلُ من القيادة لا يبغي سلبَ المؤمنين حقّهم في ممارسةِ واجباتهِم ومسؤولياتهِم أو العمل عوضاً عنهم بل تُعطيهم الثقةَ بأنّهم قادرون على إتمام ِالمهامِ المُنتظرةِ منهم، فهي، أي القيادة، مسؤولةٌ عن طبيعةِ المشاعِر التي يختبرونها والطريقةِ التي فيها يُظهرونَ عواطِفهُم. والأهم من ذلك هو وعي القيادةِ عند الأزمات على ضرورةِ أن لا تُظهِرَ أي شكلٍ من الضعفِ أو الشك أو الخوف: "إِن أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني؟" (يو 18: 23)، بل، تُحفّزهم وتُغيّر مواقفهِم: "فالتَفَتَ الرَّبُّ ونظَرَ إِلى بُطرُس، فتذَكَّرَ بُطرُسُ كَلامَ الرَّبِّ إِذ قالَ له: "قبلَ أَن يَصيحَ الدِّيكُ اليَوم، تُنكِرُني ثَلاثَ مَرَّات". فخَرَجَ مِنَ الدَّارِ وبَكى بُكاءً مُرًّأ (لو 22: 61- 62).

 

الجميع يعي التحدّيات التي تواجه القيادة الراعوية وجسامةِ المسؤولية المُلقاةِ على عاتقها، لاسيما وقتَ الأزمات، ومن الطبيعي جداً أن يشعُرَ القائد بالتعبِ والإرهاق، لذا، فهو بحاجةٍ إلى دعمٍ معنوي ومُساعدةٍ كما حصلَ مع موسى عندما دخل َالشعبُ في معركةٍ مع العماليق، عندما تعِبَ فسندا هارون وحور يداه ثابتتينِ حتّى غروبِ الشمس، ليعرِف الشعبُ أن الغلبةَ كانت لهم عندما كانت الأنظارُ متوجهةً نحو الله (خر 17: 8- 13). حماسةُ المؤمنينَ ومعنوياتهِم مرتبطةٌ على نحوٍ وثيقٍ بتلِك التي للقائد، فهو الذي يُحفزهم للتحرُكِ نحو هذا الإتجاه أو ذاكَ، صحيح أنّ الرؤية والتخطيط الفاعِل له تأثيره في القيادة، ولكنّ، ليس كتأثير المشاعر والعواطفِ، ولذلك كلَّ ما يقوله القائد له تأثيرٌ متميّزٌ على الآخرين، بل أنَّ كلَّ سلوكياته وحتّى "حركات وجههِ وجسدهِ" تنقلُ رسائل خاصّة، وعليه التنبّه لها فلا يكون هو سببَ إحباطٍ لهم أو يُشعِرُهم بخيبةِ أملٍ.

 

سيقولُ أحدهم: لكنَّ القائد هو بشرٌ، إنساناً له مشاعرهُ وأحاسيسهُ، أيكونَ مُحرماً عليه ما هو حلالٌ على الآخرين؟

 

عندما نتأمل في قصّة هزيمةِ جيش داود بقيادة يوآب على تمردِ أبشالوم إبن داود، سنتعرّف على توبيخ يوآب لداود الملك – والأب الذي بكى وناحَ على أبشالوم: "قَدْ أَخْزَيْتَ الْيَوْمَ وُجُوهَ جَمِيعِ عَبِيدِكَ، مُنْقِذِي نَفْسِكَ الْيَوْمَ وَأَنْفُسِ بَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَأَنْفُسِ نِسَائِكَ وَأَنْفُسِ سَرَارِيِّكَ، بِمَحَبَّتِكَ لِمُبْغِضِيكَ وَبُغْضِكَ لِمُحِبِّيكَ. لأَنَّكَ أَظْهَرْتَ الْيَوْمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ رُؤَسَاءُ وَلاَ عَبِيدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ الْيَوْمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَبْشَالُومُ حَيّاً وَكُلُّنَا الْيَوْمَ مَوْتَى لَحَسُنَ حِينَئِذٍ الأَمْرُ فِي عَيْنَيْكَ. فَالآنَ قُمْ وَاخْرُجْ وَطَيِّبْ قُلُوبَ عَبِيدِكَ. لأَنِّي قَدْ أَقْسَمْتُ بِالرَّبِّ إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ لاَ يَبِيتُ أَحَدٌ مَعَكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَرَّ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ أَصَابَكَ مُنْذُ صِبَاكَ إِلَى الآنَ!" (2 صمو 19: 5- 8). لم يُنكِر يوآب على داود حقَّ البُكاء على أبشالوم، ولكنّ، لم يكن هو الوقتُ المناسب لذلك، خاصّة أمام أعينِ الناس، فبعد أن إنتصر جيشهُ كان على داود أن يقف ليشكُرَ جنودهِ لأمانتهم وشجاعتهم.

 

فعلى القائد أن يتعلّم كيف يضبُط مشاعرهُ الخاصّة ويتحكّم فيها لئّلا تكون سبباً في الحطِ من معنويات الآخرين، وعندما نتحدّث عن القيادة الراعوية تكون المهمّةُ ضرورةَ قصوى. عليه أن يُميّز تلكّ المشاعر التي ستقوّي روابط الثقة مع المؤمنين وتجعلهم يطمئنون أنَّ يقود المسيرة عارفٌ إلى أين التوجه، فيتعاطفون معه، وتلكَ المشاعرُ التي تجعلهم يعطفونَ عليه، لكنّهم سيبحثون عن قائدٍ آخر ليعبُرَ بهم المحنةَ، فالقيادة ضرورةٌ، وأخطرُ اللحظاتِ في تأدية مسؤولياتِ القيادة الراعوية هي تلِك يكشِفُ فيها القائدُ عن شعورهِ بالإخفاقِ والفشل أمام مؤمنيهِ، والأجدرِ به أن تكون هذه المشاعِر مضمون صلاتهِ إلى الله الذي اختارهُ لهذه الخدمةِ: "وفي تِلكَ الأَيَّامِ ذَهَبَ إِلى الجَبَلِ لِيُصَلِّي، فأَحْيا اللَّيلَ كُلَّه في الصَّلاةِ لله" (لو 6: 12)، "أبَّا، يا أَبَتِ، إِنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير، فَاصرِفْ عنَّي هذِه الكَأس. ولكِن لا ما أَنا أَشاء، بل ما أنتَ تَشاء" (مر 14: 36).

 

ربّنا يسوعُ لم يُخفِ مشاعره أمام حُزنِ مريم ومرتا على أخيهما لعازر، فدمعت عيناهُ (يو 11: 35)، لكنّه كسبَ ثقةَ الناس في تلكَ الحادثة فالأمرُ لم يكن متعلقاً بشعورهِ الشخصي بالإخفاق أو العجز أو الضعف، على العكس، في تلكَ الساعةِ عَرِفَ مَن كان حولهُ أنه معهم في حزنهِم وألمهم، وقادهم إلى مَن يستطيع أن يُحيُّ فيهم الرجاء من جديد: "ورفَعَ يسوعُ عَينَيه وقال: "شُكراً لَكَ، يا أَبَتِ على أَنَّكَ استَجَبتَ لي وقَد عَلِمتُ أَنَّكَ تَستَجيبُ لي دائِماً أَبَدا" (يو 11: 40- 41). وعندما حانّت الساعة في بستانِ الزيتون سقطَ على وجههِ من هولِ الساعّة، ولكنّه بقيَّ المُتحكّم في الأحداث: "أُقعُدوا هُنا بَينما أُصَلِّي"... "أُمكُثوا هُنا واسهَروا"... "اِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبة"... "ناموا الآنَ واستَريحوا"... "قوموا نَنطَلِقْ" (مر 14: 32- 42).

 

هناك إذاً عباراتٍ على القيادة الراعوية تجنّب النُطقُ بها: "لا أعرف إلى أين التوجّه... التحدّيات أعظم من طاقاتنا وإمكانيّاتنا... نحن عاجزون عن مواجهةِ الأزمةِ... ليس في يدنا شيءٌ نفعلهُ... نحن نواجهُ مصيراً مجهولاً... إلخ". هذه مشاعرُ المؤمنون الذين يتبعونَ توجهايت قادتهِم وهم يتطلّعون نحوهم ليعرفوا الخطوات القادمة المطلوبة، فإذا وقفَ القائدُ وكشف عن جهلهِ التام وتخبّط مشاعرهِ، سيكون سبباً رئيساً في الإخفاق والفشل، وهذا الذي حصلَ مع موسى ومحنة الماء في البرية (عدد 20: 1-13). علينا أن نُميّز بين طلبِ المشورة والنصحية من الآخرين، وهذا تدبير حكيمٌ من القيادة وعليها الإصغاء إلى آراء الجميع، شرطَ أن يكون لها الكلمة الأخيرة، وبين الوقوف أمام المؤمنين عاجزين عن فعلِ شيءٍ.

 

علينا أن نتذكّر دوماً ما الذي علينا أن نفعلهُ في مواجهةِ المحنِ: أن نرفعَ عيوننا إلى السماء فمِن الله يأتي العون والحكمةُ، مُصلينَ مع المزّمّر 121: "أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي".