موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٢٧ مارس / آذار ٢٠٢٠
مفكر فلسطيني يكتب من ايطاليا: حرية في صحراء الغرب وفوضى كورونا
د. سامي باشا، رئيس مؤسسة الجامعة الأمريكية في صقلية - ايطاليا

د. سامي باشا، رئيس مؤسسة الجامعة الأمريكية في صقلية - ايطاليا

د. سامي الباشا :

 

قد لا يتقبل البعض صعوبة العيش دون حرية وفي أجواء خالية من الديمقراطية وفي إطار ثقافي/اجتماعي ملزم دون النظر الى حيثيات الوعي الموضعي وارتباطاته في الواقع الدولي. ففي عالم تسوده المخاطر وخصوصا في هذه الأزمنة التي بمر بها، أصبح كل شيء نسبي وقابل لإعادة النظر وتفنيده ونقده والإخلال بأساساته. فقد عهدنا الغرب دائما وعرفناه بكامل جبروته وفخره وتمتعه بقوة لامحدودة، والتي دائما استعرنا منها في أحاديثنا اليومية، فنسمع الصديق يقول لصديقه: "لنكن حضريين او منظمين مثل الغرب" وصديق آخر يلعن نسبهم وتاريخهم المليء بالحروب والاستعمار والاستغلال للدول الفقيرة. وننسى أنهم أصبحوا دون ارادتهم جزء من "القرية الصغيرة" التي نحن نعيش فيها، ويعانون مثل ما نعاني ومن قضايا مشابه لكنهم مختلفين عنا بقرارهم في الاستمرار وعدم النظر الى الخلف والتغني بالماضي، بل النظر الى المستقبل واستغلال كل الفرص المتاحة لبناء عالم الغد.

 

يعيش الغرب منذ فترة طويلة تحديات وأزمات كبيرة ومعقدة، لم تظهر جلية وخصوصا في إطار سياسة تسليط الضوء على أولويات دولية، لكنها لم تختبئ لفترة طويلة وبدأت تظهر مع "علامات الزمان" التي تشير الى زمن وعهد جديد توجب أن يتحقق آجلاً ام عاجلاً. لقد عشت لسنوات طويلة من حياتي في أوروبا واختبرت العيش في الولايات المتحدة الأمريكية كما أن جزء من هويتي وانتمائي هو عربي فلسطيني وترعرعت في بيت مسيحي ملتزم لا يعرف الا المحبة والعطاء والأمانة والشفافية. لقد صُقِلت هَويتي وشخصيتي بقيم واضحة المعالم اعتقدت لفترة في حياتي أنني سأجدها في "صحراء الغرب" وأعلنها دون خوف ولا تردد امام الملا. لكن ما دعاني لأكتب هذا المقال البسيط والمختصر هو قناعاتي أن ما أوصل الغرب الى هذا الوضع المزري هو ابتعادهم ورفضهم للقيم التي نشأوا عليها، بل أصبح اعلان هذه القيم تهمة وعار على صاحبها بل وصل بهم الحال التبري منها وإخراجها من النصوص القانونية والتشريعية. ووجدت نفسي استصعب الحديث عن ايماني وانتمائي المسيحي في بلد يدعي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وأصبح التعليم المسيحي هنا اختياري "Optional" وكان لي أن ابدأ بالبحث من جديد عن هويتي الإنسانية لأجدها شامخة في صميم القيم التي تعلمتها واكتسبتها من والدّي المؤمنين بالمسيح وبخلاصه وبكنيسته المقدسة. 

 

اليوم ومع فيروس كورونا والألم الذي تعانيه إيطاليا يمكنني وصف الغرب بأنه يعيش حالة من الفوضى وفقدان البوصلة وارتفاع مستوى الخوف والتساؤل والحيرة، ولم يتخيل أحد أنه من الممكن أن نفقد الحرية في أوروبا وبهذه السرعة وأصبح من المستحيل علينا التنقل بين المدن مما أرجعني الى خبرات التنقل ما بين المدن الفلسطينية بتصاريح خلال فترة الانتفاضة. ولو سمحت لنفسي بالتنبؤ فسأقول إننا ببداية لنهاية المشروع الأوروبي وبدء الثورات من أجل الحصول على الحقوق الكينونة الغربية. وخوفي الأكبر أن المرحلة القادمة هي مرحلة تغيير المعادلات الدولية وستكون مرحلة عصيبة على الجميع توجب علينا فيها عد الخطوات وقياس المسافات وتحليل الأبعاد كي نضمن أمان المرحلة وسلام النفوس.

 

إنه درس كبير للجميع توجب التعلم منه والتذكر بأننا ضعفاء امام ضعف اجسادنا، وكما كتب الرسول بولس: "الجسد ضعيف اما الروح فهي قوية". فلقد أصبح الإنسان هش وواهن امام فيروس صغير حل بيننا ليعطينا الهلاك بدل الحياة، ويبدوا أن توقف الذات اصبحت ملزمة للبدء من جديد للبحث عما نؤمن به وما يعيق انطلاقة حياتنا من جديد. أصبحت الدعوة مفتوحة للرجوع الى انسانيتنا الحقيقية وبساطة قلوبنا كي نتمكن من بناء المجتمع الإنساني الجديد الذي نصبوا اليه جميعاً.

 

رسالتي الى كل شاب وشابة تود ركوب السحاب للبحث عن ذواتهم في إطار رغبتهم ممارسة الحرية والديمقراطية في صحراء خيالهم، أقول لهم ابدأوا المغامرة من داخلكم وداخل نفوسكم وأرواحكم القوية وبما لديكم من قيم وخصوصا قيمة "العائلة"، ومن ثم استفيدوا من أي فرص لإغناء ما لديكم بالبحث عن حياة أفضل. إن خبرة الغرب كانت بالنسبة لي سبب بركة ونعمة، فقد اكتسبت الكثير من العلم والمهنية وتوسعت آفاقي لكني الآن أقدر مخزني الإيماني والثقافي بطريقة مختلفة تجعلني أقول أنني هو ما أنا عليه الآن، وما املك من حرية داخلية.