موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
مع الكثير مما هو فاسد في هذا العالم، يشكل عيد الميلاد احتفالاً بالبراءة

بقلم: ديفيد جودسون، ترجمة: علاء الدين أبو زينة :

(مركز التنبؤات الاستراتيجية - ستراتفور) 25/12/2018

فرحة الأطفال، وتبادُل الهدايا مع الأحباء في يوم مقدس، وتجديد الإيمان -هذه العناصر في يوم عيد ليست هي العمل المعتاد لمركز التنبؤات الاستراتيجية (ستراتفور)- نحن عادة ما نكرس أنفسنا لدراسة عناصر القوة الجيوسياسية وليس الأشياء غير الملموسة في التجربة الإنسانية. ومع ذلك، نستطيع، في يوم واحد من أيام العام، أن ننحِّي جانباً انشغالاتنا المهنية لنحكي قصة عن عيد الميلاد. وهناك العديد من قصص عيد الميلاد في الحقيقة. وهو عيد له جذور عميقة ومتنوعة، والتي أصبحت، بحلول القرن الحادي والعشرين، عالمية حقاً -وجيوسياسية، إذا كان هذا يهم. ولذلك، سوف أشارك قصتي، مع إضافة القليل من السياق. وآمل أن ينغمس القراء معي في هذا الافتراق الصغير، والذي أعتقد أنه يتوافق مع الطريقة التي ينظر بها مركز “ستراتفور” إلى العالم وتعقيداته.

حدثت قصتي مع عيد الميلاد قبل عقد من الزمان في أنطاليا بتركيا. وتقع هذه المدينة، بشكل مناسب بما يكفي، على بعد بضعة أميال من ديمري، الاسم الحديث لمدينة ميرا الرومانية والبيزنطية القديمة. وكانت ميرا هي المكان حيث ولد القديس نيكولاس (نيقولا) الأصلي في العام 270 ميلادي.

كنت في زيارة للعائلة في أنطاليا، مسقط رأس زوجتي نرمين. وفي يوم عيد الميلاد، قمت بنزهة مع ابنة شقيق زوجتي البالغة من العمر خمس سنوات، واسمها أمينة. وكنا نسير متشابكي الأيدي ونتحدث عن عيد الميلاد بالنسبة لها، والذي يسميه الأتراك نويل. ويتم الاحتفال بنويل التركي ليلة رأس السنة الجديدة، وهو نسخة علمانية من تقليد عيد الميلاد في الغرب؛ حيث ينتظر الأطفال بابا نويل، أو أب عيد الميلاد، الذي ينزل من المدخنة أو يدخل من خلال نافذة ليترك الهدايا تحت شجرة صنوبر. وفي جميع أنحاء البلد، تتم زخرفة الشوارع بالأضواء كما هو الحال في أي شارع رئيسي في أميركا. وتكون “عيد ميلاد مجيد” هي التحية التي يبادرك بها عابر أو تتلقاها من صاحب متجر ودود.

“عمّ ديفيد”، قالت لي أمينة، ربما على سبيل التلميح، “بابا نائل سيحُضِر لي دراجة”. وهنا، يجب أن أشرح أن نائل هو اسم تركي شائع. وقد ابتكر الأتراك، كأمة، اسم بابا نويل ليكون نظيراً لاسم سانتا كلوز الغربي. ومع ذلك، أخذت أمينة هذا الابتكار خطوة أخرى إلى الأمام؛ صحَّح عقُلها ذو الخمس سنوات نطق الاسم إلى شيء أكثر منطقية وأكثر “تُركية”. وفكرتُ حينها، كما أفعل الآن، بأن اسم “بابا نائل” هذا يعمل على ما يرام. إنه مجرد قطعة إضافية من الزجاج، والتي تضيف إلى الفسيفساء الثقافية والتاريخية التي أصبح عليها الاحتفال العالمي بعيد الميلاد.

قد ينسب البعض الفضل في انتشار عيد الميلاد عالمياً إلى نجاح التسويق الحديث والتجارة المعولَمة. وقد قمت، بالطبع، بتسجيل مذكرة ذهنية للتأكد من أن نقوم، نرمين وأنا، بتحقيق وعد بابا نائل بخصوص الدراجة. لكني وجدتُ نفسي وأنا أفكر في ذات الوقت بأنه إذا كان أسقف ميرا -القديس نيقولا الأصلي- يطل علينا من الطريق أو يشاهدنا من علٍ، فإنه سيوافق بلا شك. لأن ما قامت به أمينة الصغيرة حين أعادت تشكيل اسم نويل كان رمزاً إضافياً يضاف إلى تراكيب الأسماء والتقاليد والشخصيات المستمرة منذ أكثر من ألفي عام الآن.

في المسيحية، يُحتفل في 25 كانون الأول (ديسمبر) بميلاد المسيح، عيسى. ومع ذلك، فإن الطقوس التي نحتفل بها بهذا التاريخ اليوم، تذهب إلى أبعد من ذلك. ومع العديد من التقلبات والانعطافات التي حدثت منذ ذلك الحين، فإن ما لدينا الآن هو روح العيد التي يحتضنها الناس في جميع أنحاء العالم ومن جميع الأديان عملياً، بما في ذلك ابنة شقيق زوجتي التركية في تركيا المسلمة. ولذلك، دعونا نعود قليلاً إلى ملخص تقريبي للتاريخ.

الجذور المبكرة

قبل وقت طويل من ظهور المسيحية في القرن الأول، كان العالم الوثني يحتفل بالانقلاب الشتوي، وهو أقصر يوم في السنة. وفي شمال أوروبا، كان يُطلق على ذلك العيد اسم “جول” Jul، الذي دخل الإنجليزية باسم يولي yule، المفردة التي أصبحت اليوم مرادفاً لعيد الميلاد.

لم يكن العالم الذي ولد فيه يسوع المسيح -ربما ليس في السنة الأولى من التقويم الغريغوري، وربما ليس في شهر كانون الأول (ديسمبر)- صديقاً للديانة التي أسسها والتي بشر بها تلاميذه. وبعد يسوع، تحولت الإمبراطورية الرومانية الوثنية في ذلك الوقت بسرعة كبيرة نسبياً إلى اضطهاد أصحاب هذه العقيدة سريعة الانتشار. وبدأت حملة القمع بشكل جديّ وصارم في العام 64 بعد الميلاد، تحت حكم الإمبراطور نيرون، واستمرت لأكثر من قرنين. وكان العقاب الأكثر شهرة للمسيحيين هو إطعامهم للوحوش -وهو عقاب كان في السابق مقصوراً على العبيد والمجرمين القُساة.

لكن الإمبراطورية شهدت في العام 312 بعد الميلاد تغيُّراً جذرياً. في ذلك العام، انتصر الإمبراطور قسطنطين في معركة جسر ميلفيان وسيطر على الجزء الغربي من الإمبراطورية. كما أنه اعتنق المسيحية وأضفى الشرعية رسمياً على هذا الدين في العام التالي. وجاء ذلك في الوقت المناسب بالنسبة للقديس نيقولا، الذي كان يعيش في ذلك الحين كراهب في بيت لحم في ما يعرف اليوم بالضفة الغربية. وبعد عودته إلى ميرا في الوطن، أصبح أسقف المدينة في العام 317 بعد الميلاد، ثم جلس في وقت لاحق في المجلس الأول في نيقية، الذي اختار النصوص المسيحية التي ستصبح الكتاب المقدس. وفي نهاية المطاف، أصبح نيقولا القديس الراعي والشفيع -ليس في نظر الأطفال بسبب الهدايا السرية التي يقدمها فحسب، وإنما أيضاً في نظر البحارة، والتجار، واللصوص التائبين، ورماة السهام، ومصنّعي الخمور، بل وحتى العاملين في الرهونات.

لكن الذي جلب القديس نيقولا إلى قصة عيد الميلاد أول الأمر كان انتشار المسيحية إلى الجزر البريطانية بداية من القرنين الثالث والرابع. وفي ذلك الحين، رأى الداخلون في الدين حديثاً في شخصية القديس نيقولا -والاحتفال به في شهر كانون الأول (ديسمبر)- بديلاً عن آلهة ما قبل المسيحية الذين ذكرهم بعض المؤرخين، والذين امتلكوا الكثير من نفس صفات الكرم التي يتصف بها. كما ساعد عيد “سول”، إله الشمس، الروماني التقليدي في منتصف كانون الأول (ديسمبر) في دفع هذا الاحتفال الجديد على الأرجح.

وحتى بعد ذلك، بقيت مناسبة عيد الميلاد في 25 كانون الأول (ديسمبر) ثانوية في تقويم طقوسي مكتظ بقديسين وأعيادٍ أكثر بروزاً. ومع ذلك، ازدادت أهمية هذا اليوم في العام 800 بعد الميلاد، عندما قام البابا ليو الثالث بتتويج الملك تشارلز الفرنسي، المعروف أكثر باسم شارلمان، في كاتدرائية القديس بطرس في روما ليكون أول إمبراطور روماني مقدس. وشكّل ذلك الحدث لحظة حاسمة لانتشار السلطة العلمانية للكنيسة الكاثوليكية في جميع أنحاء أوروبا. وبعد قرون من ذلك، أصبحت ذكراه يوماً مهماً في التقويم الغريغوري للكنيسة.

في القرون التالية، أصبح يوم الميلاد عيداً بارزاً بشكل خاص في إنجلترا، وأشر على بداية 12 يوماً أيقونية لعيد الميلاد -حدث هذا على الرغم من أن البلد كان قد تخلى رسمياً عن الكاثوليكية في أوائل العقد الثالث من القرن السادس عشر. ومع ذلك، شن التطهيريون (البيوريتان) في برلمان إنجلترا في أربعينيات القرن السابع عشر حملة صارمة ضد الاحتفال بجميع أيام القديسين التي ارتبطت مع الكاثوليكية، وخاصة عيد الميلاد، وشجبوها بوصفها ممارسة وثنية. وقد حذا التطهيريون في الأميركتين حذوهم، ولم يشككوا فقط في مدى ملاءمة تاريخ 25 كانون الأول (ديسمبر) في حد ذاته، وإنما نظروا بارتياب أيضاً إلى ممارسات الشرب والرقص والعبث التي ارتبطت به في ذلك الحين. وبعد ذلك، اختفى عيد الميلاد في إنجلترا وأميركا الشمالية.

إحياء عيد الميلاد

جلب القرن التاسع عشر انتعاشاً كبيراً لهذا العيد. في القارة الأوروبية، أدرج الألمان والاسكندنافيون أشجار الصنوبر المستمدة من الوثنية، وحيوان الرنّة وبعض الإكسسوارات والمحلقات الأخرى. وفي تلك الأثناء، أعاد الهولنديون الاحتفال بالقديس نيقولا، الذي سمّوه سينتركلاس -السلف المبكر لسانتا كلوز الحديث.

في العالم الناطق بالإنجليزية، يعود الفضل إلى المؤلف المولود في نيويورك، واشنطن إيرفنغ، الذي أعادت قصصه الخمس التي كتبها عن عيد الميلاد الحياة إلى المناسبة في العشرينيات من القرن التاسع عشر. وقدم إيرفينغ في قصصه القديس نيقولا صاحب الغليون المألوف الآن، وقدم تقليد الجوارب المعلقة بجوار المدخنة.

والآن، كان “بير نويل”، أو أب عيد الميلاد، قد برز في فرنسا، مرتبطاً بروح عيد الميلاد -وإنما ليس بإعطاء الهدايا. وببعض المساعدة من رواية تشارلز ديكنز “ترنيمة عيد الميلاد” في العام 1843، اندمج سانتا وأب عيد الميلاد بالعيد وبعودة الحياة إليه في بريطانيا العظمى.

ثم انضمت المزيد من الأصوات إلى الجوقة. فاكتشفت جادة ماديسون قيمة سانتا المَهيب ومانح الهدايا في أواخر القرن التاسع عشر. وفي العام 1932، أعطتنا “كوكا كولا”، كجزء من حملة إعلانية، سانتا كلوز الملتحي وصاحب الملابس الحمراء الذي أصبح رمزاً عالمياً الآن. وخلال القرن العشرين، انتشر هذا السانتا، ليس فقط في جميع أنحاء العالم المسيحي، وإنما أيضاً إلى اليابان والصين والهند والعديد من البلدان الإسلامية، بما في ذلك تركيا.

مع ذلك، لا تخلو هذه التوفيقية بين المعتقدات حول عيد الميلاد من الجدل، وليس الجميع راضين، بطبيعة الحال، عن الانتشار العالمي لهذه الرموز والطقوس. وفي الأسبوع الماضي فقط، على سبيل المثال، حظرت طاجيكستان تزيين الأشجار، وتقديم الهدايا وغيرها من الأنشطة التي تتصل بعيد الميلاد والتي أصبحت جزءاً من احتفالات رأس السنة الجديدة في الدولة العلمانية ذات الأغلبية المسلمة. ولا شك في أن عيد الميلاد مسيحي حتى النخاع. لكن روح العيد أصبحت شيئاً أكبر، بل وحتى شيئاً عالمياً. ويمكننا أن نعبّر عن هذا بعبارات جيوسياسية -التقاء الكثير جداً من العوامل، من صعود روما، إلى تتويج شارلمان، إلى دور التطهيريين في أميركا- لكن العيد الذي نراه اليوم يتسامى عن كل ذلك.

بالعودة إلى تركيا المعاصرة. لم يحدث اندماج الأعياد وإعادة تسمية عطلة العام الجديد لتصبح “نويل” إلا في أواخر الثمانينيات، وكان ذلك من بنات أفكار فيتالي هاكو، وهو يهودي تركي وصاحب أكبر متجر في البلاد. وما عليك سوى زيارة بيوغلو، حي تجارة التجزئة الرئيسي في إسطنبول اليوم، وسوف ترى صور بابا نويل، والأضواء الملونة وأشجار عيد الميلاد وهي تزين الشارع الرئيسي.

أو كما تسميه “بابا نائل” أمينة، هذه الصغيرة التي تشكل مساهمتها في هذا العيد الأكثر توفيقية بين الأعياد مجرد رافد صغير في نهر ثقافي ما يزال يجري منذ آلاف السنين.

إننا نحمل العديد من العقائد والمعتقدات والأصول القومية هنا في مركز “ستراتفور”، سواء في مقرنا الرئيسي في أوستن أو في الميدان في كل أنحاء العالم. وهذه الكونية والشمولية للعيد هي شيء أؤمن به، أنا وجميع زملائي هنا، كما أعتقد.

في عصرنا المضطرب، ومع الكثير مما هو فاسد في هذا العالم، يشكل عيد الميلاد احتفالاً بالبراءة. وفي هذا، يمكن للعالم كله أن يشارك. ولذلك، منا جميعاً، إلى “بابا نائل”، وإلى أسعد المواسم لقرائنا وعملائنا ومؤيدينا في هذا اليوم الخاص، في هذا الوقت الخاص من العام.

نقول: عيد ميلاد سعيد.