موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٨ أغسطس / آب ٢٠١٩
مدعوّون إلى كرامة أعظم بكثير

المطران بيتسابالا :

(لوقا ١٢، ٣٢- ٤٨)

يمكننا قراءة المقطع الإنجيلي لهذا الأحد (لوقا ١٢، ٣٢- ٤٨) في ضوء مقطع الأحد الماضي (لوقا ١٢، ٢١-٣١)، حيث رأينا رجلاً غبيّاً، كان يظن أنّ بإمكانه العيش بمفرده بكل يُسر لأنه كدّس ثروات طائلة. كان هذا الرجل قد ملأ حياته بأشياء كثيرة أغلقت الأفق أمامه: كان يعتقد أنّ كل شيء يكتمل في هذه الحياة، دون الحاجة للانفتاح على ما ورائها.

يمكننا القول بأن قلبه كان موجوداً كلّه هنا على الأرض، حيث كانت الخيرات المادية هي الأمر الوحيد الّذي يمتلكه (لوقا ١٢، ٣٤).

لقد كانت خيراته كثيرة، ولكنها كانت خاصة بهذه الحياة فقط.

يبدأ المقطع الإنجيلي اليوم بالإعلان عن الغنى الحقيقي: "لا تخف أيها القطيع الصغير، فقد حسن لدى أبيكم أن ينعم عليكم بالملكوت" (لوقا ١٢، ٣٢). ما الذي يجعل هذا الثراء مختلفاً عن الثراء الّذي يجمعه الإنسان على الأرض؟

يقدم الإنجيلي لنا اختلافات ثلاث.

الاختلاف الأول هو أن هذا الثراء مُعطى وممنوح (لوقا ١٢، ٣٢). لا يتعين علينا الجد والكد من أجل اكتسابه، مثلما فعل الرجل الثري يوم الأحد الماضي. إن الثراء الذي يعطينا إيّاه أبونا السماوي هو مجاني، ويعتمد فقط على لطف الربّ وإحسانه، وعلى حقيقة أن الربّ "يحبّ" أن يعطينا الحياة، وأن يشارك الإنسان في وجوده. هذا هو مُخططه منذ الأزل.

الاختلاف الثاني هو أنّ هذا الثراء، على عكس ما يجمعه الإنسان بنفسه، لا يخشى الموت، فهو: "كنز في السماوات لا ينفد، حيث لا سارق يدنو ولا سوس يفسد" (لوقا ١٢، ٣٣).

ذلك لأن الثروة التي يمنحنا إياها الآب هي بنوّتنا له، وعلاقتنا به. وهي علاقة مضمونة لأنه، كما ذكرنا بالفعل مراراً، هي علاقة قد اجتازت الموت بالفعل ولم تظلّ رهينة له.

والاختلاف الثالث هو أن هذه الثروة، من قبيل المفارقة، ينالها الإنسان عندما يُقاسم الآخرين بما لديه: ""بيعوا أموالكم وتصدقوا بها واجعلوا لكم أكياسا لا تبلى".

قام الرجل الغني الوارد ذكره في الأسبوع الماضي ببناء مخازن لخزن غلاله. وقيل لنا اليوم أنه لاحتواء ثروة الملكوت، يجب أن تكون لدينا "أكياس لا تبلى"، وهذا يعني أنه لاحتواء الحياة الأبدية، يجب أن تكون لدينا أوعية مناسبة. لا يمكن وضع الحياة الأبدية في شيء مقدر له أن يفنى.

يصرّ المقطع الإنجيلي على اليقظة ("لتكن أوساطكم مشدودة، ولتكن سرجكم موقدة"، ٣٥). إنّ اليقظة المسيحية هي فن تمييز علامات الأزمنة. واليقظة تعني البحث عن علامات مخطّط الله، وعن ملكوته، في التاريخ البشري الذي نعيش فيه. إنها تتطلّب التحلّي بالصبر والثقة بالله والنظر إلى التاريخ، كإمكانية مُتاحة لإرادتنا كي تتصرف بشكل جيد. إنّ هذا الملكوت ليس خارجًا عن هذا التاريخ، لكنه هنا. ويجب أن تقودنا اليقظة إلى التعرف على العلامات الآن وهنا، وأن نلزم أنفسنا بإظهارها جليّا في حياتنا.

يتواصل إنجيل اليوم بمثل يمكننا قراءته هو أيضًا في ضوء مثل الأحد الماضي.

فكما أن الرجل الغني الوارد ذكره ملأ الفراغ بغلاته، كذلك الخادم المذكور في مثل اليوم يملأ الانتظار بشكل آخر من الثروة، هي القوة والتسلط (لوقا ١٢، ٤٥): إنّ القوة وسيلة أخرى يوهم بها الإنسان نفسه بإمكانية استبعاد الموت، وتجنب محدوديته البشرية.

وكما أن الإنسان يكتفي بالثروات الباطلة، فإن قلبه أيضاً يكتفي بالسيطرة على بعض مراكز القوة وإن كانت صغيرة. كان بإمكانه الحصول على ملكوت السماوات، بكامله، ولكنه، بدلاً من ذلك، يبدو مكتفياً بأن يتسلط على من هو أصغر منه بقليل، موهماً نفسه بالسعادة.

نحن، في واقع الأمر، مدعوّون إلى كرامة أعظم بكثير، كرامة تنجم عن كوننا خدمًا يحبنا السيد إلى حدّ جعل نفسه خادماً لنا (لوقا ١٢، ٣٧).

لذا فإن اليقظة، في الأساس، هي تذكر الكرامة الممنوحة لنا مجانًا، بينما ننتظر أن تصبح هذه الكرامة جوهر حياتنا وكأننا حصلنا عليها بقوتنا.

ونعيش هذه الكرامة عندما نفعل نحن أنفسنا مثل السيد الذي يعود لكي يخدُم وليس ليُخدم.