موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٢ فبراير / شباط ٢٠١٣
محبو الأعياد

المطران جورج خضر :

انطوت الأعياد في ما مضى من أيام وعدنا إلى الزمن الرتيب. والعيد في تعارف الشعوب والأديان يضرب الرَتب (بفتح الراء) والغاية منه ان يخرجك تخيلا من كرّ الزمان ليقيمك في الأبدية القائمة في الذكرى من حيث ان الذكرى ليست مجرد تخيل للماضي لكنها استحضار له أي تسميره على الآن بحيث تردم الهوة بين الآن وما سبقه من آونة. وكأنك تتضجر مما يبدو لك في الزمان تفاهة او جمودا وتدخل في الأوان وهو الموعد والموعد فيه وعد البركات وانكشاف البهاء الإلهي وكأن الموعد يكسر تكرار الآونة ليقيمك في سر الأبدي وخيار المقدس.
العيد اذًا ينقذك من الضجر، من جهنم عدم التجديد ليرفعك إلى الأعلى، الى حركة الجمال في "ملّة ابراهيم" التي جعلت نفسها في جمال الله النازل عليها. ملّة الكتاب الإلهي ارتبطت بتذكار أحداث ابتدأت بأبي التوحيد ابراهيم وشكّلت تاريخا مقدسا يؤطره التاريخ العام لكنه تاريخ رسمه الله في زمان الناس لكنه ليس من الناس.

رأى المؤمنون أنفسهم مرتبطين بحوادث جاء الله بها وعنت للناس خلاصا لهم اي نوعا من إلقائهم في قدسية الأبدية وهي أحداث فعلها الله بتوظيفه أنبياء كما تسميهم ديانات التوحيد او بتوظيفه قديسين وهم مختارو الله بقدسية سيرتهم ويعلمنا الله بهم أو يكتب أفعاله فيهم لنقرأه هو اذ ظننا اننا نقرأهم.

وأحس المؤمنون ان أحداث المسيح أو أحداث الأنبياء أو ما جرى للقديسين على كثافة روحية تنقل الينا الخلاص أو تذكرنا به وكأننا نتلفها ان لم نذكرها. ما جرى عظّم فينا حياتنا الروحية ونسعى إلى ان تبقى لنا هذه العظمة حركة في النفس كل سنة بحيث تمتلئ كل أيامها بالذكرى اي خارجة من وهنها ومشدودة إلى قوة الله المتجلّية في قديسيه. نريد ان نلتقط ما نحسبه دائما، الا نقبله متفلتا مع الزمان الذي هو في دوام العبور كما يعلّمنا هيراقليط. كيف نعلو روحيا ان قبلنا نسيان الأحداث الروحية العظيمة التي قام بها المخلّص أو آباؤه في الجسد منذ ابراهيم الخليل أو المتفرعون من قداسته بعد قيامته من بين الأموات؟

***
السؤال الذي يهم المؤمن هو هل يجمع الزمان إلى الزمان أم تجمع الأبدية القائمة في التاريخ إلى نفسها. طبعا كل شيء إلهي في سيرة السيد يلقى على كل تنهيدة إلهية في نفس الأبرار بعد صعوده إلى السماء لأن الروح القدس الذي بثّه على الصليب وبعد القيامة هو الذي ينشئ القديسين.

في الكنيسة نقلد بعضنا بعضا فنتشابه لكوننا استمددنا النعمة الواحدة وهكذا نؤلف سلك القداسة الواحد مهما تعددت الوجوه فنقترب من القديسين بتقليدهم ولو اختلفت تعابير القداسة بين هذا وذاك أو ظهر النسك وما وراء التعابير قداسة واحدة.

هكذا تختلف أعياد الشهداء في دلالتها عن أعياد من نسميهم الأبرار أي النساك وتختلف قداسة الراهب بتعبيرها عن قداسة المتزوج ولو كان مضمون النقاوة واحدا من هذا وذاك. ولكوننا نلتمس القداسة عند كل فئات الأبرار نستغني بكل تعابيرها لكي يضيء الله بها كل نفس.

هذا الغنى الروحي يبدو مختلفا في صورته لا مضمونه بين القديسين الرهبان والقديسين المتزوجين، بين القديسين من الملوك والقديسين من الفقراء. هذا الاختلاف في الغنى الروحي أو تعابيره يدفعنا إلى الاغتذاء من كل فئات القديسين ومن كل أحداث الخلاص في سيرة السيد. ولهذا ننتقي كل ما ورد في الإنجيل وحياة الأبرار لنجعل لأنفسنا ينابيع مختلفة للقداسة. إلى هذا اختلاف الأبرار في السيرة وكشفهم للقدوة الخاصة بكل واحد حتى يكتمل غنانا الروحي ويتكثف.

***
لكون القداسة تختلف مظاهرها وتاليا غناها بين الأبرار نحتاج إلى كل الأبرار لنقلدهم ونسمو بهم.

لذلك يزداد غنى الكنيسة كلّما اكتشفت قديسا جديدا له نوعية تعابيره أو جدته في التعبير عن القداسة. من هنا، اننا لا نستطيع ان نهمل دراسة قديس جديد وتطويبه حتى لا نبقى فقراء في الكلام عن القداسة. في حياة كل قديس تفاصيل سلوك وتفاصيل كلام احيانا ترفعنا ويجب الكلام فيها حتى تزداد ثروتنا الروحية.

إلى هذا نحتاج إلى الاطلاع على ما بدا عند هذا أو ذاك من الصالحين حتى لا نفتقر. ونحتاج إلى توزيع المعرفة على كل أيام السنة. لذا عندنا كل يوم عيد أو بضعة أعياد مجتمعة ليكشف فينا الأبرار عند ذكراهم ولا ينقص يوم من أيام السنة غنى في المضمون الروحي.
العيد أبدية نراها في الآن، في كل موعد لنا مع الزمن لكوننا نتوق إلى أبدية حاضرة، مكثفة. لذلك نقيم العيد ونبتهج. يحزننا الحزن الذي تجرّه الأيام. ولهذا نتوق إلى قطعة من السماء على الأرض نسميها العيد. الصابرون يفتشون عنه في كل الأوقات. لهذا كان دائما يدهشني أي لما كان يقص علينا قصص الذين تزوجوا في الحرب العالمية الأولى. كنت أتصور انه من العسير جدا ان يتزوج المرء في وضع زمني سياسي صعب.

في الأزمات يتوق المؤمن الى ان تنزل عليه نعمة تهبه الفهم والتصرف الحسن فيكون أحيانا سلوكه عيدا.

كيف نستنزل الأبدية إلى الزمن الذي نعيشه؟ كيف نجعل الأرض سماءً والمؤمنين كلهم رعية سماوية على رغم خطايانا؟ كيف تصبح الحياة كلها عيدا أي مكانا لله على هذه الأرض؟