موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٨
مجد يسوع لا يتعلّق بالسلطة وتوابعها، بل بالحب فقط

المطران بيير باتيستا :

للمرّة الثالثة يتحدّث يسوع إلى تلاميذه عن آلامه، وللمرّة الثالثة يَثبُت لنا ليس فقط عدم فهمهم، بل أيضاً بعدهم عما يعيشه يسوع.

المشهد، هذه المرّة (مرقس 10: 35-45)، يتبع مباشرة الإعلان الثالث عن الألام، وهو أكثر نشازا من المرّتين السابقتين: بينما كان يسوع يقترب من أورشليم، يبدو أن التلاميذ، على العكس، كانوا يبتعدون عنها.

دعونا نتوقّف عند بعض المقاطع.

المقطع الأوّل هو طلب إبني زبدى: "نريد أن تصنع لنا ما نسألك" (مرقس 10، 35). حتى لأول وهلة، يبدو هذا الطلب غير سارّ لنا. لماذا؟

هناك ثلاثة أسباب على الأقل: يرتبط الأول بفعل "نريد" هذا. وهو يُعبّر عن حياة وفكرة وشعور تتحرك بموازاة حياة يسوع، ولكن دون أن تلتقي به. إذا كان الابن هو من يفعل مشيئة الآب، وإذا كان التلاميذ هم أولئك الذين يتبنّون هذه الطاعة الواثقة ذاتها، فإن يعقوب ويوحنّا منغلقان في عالمهما وضائعان في أحلام جنون العظمة. إنّ لديهما إرادة شخصيّة، وهي ليست نفس إرادة ربّهما.

والسبب الثاني هو طريقة المثول أمام يسوع، أي لشكل العلاقة التي ينطوي عليها هذا الطلب، وللتوقعات التي لديهما: وهي التفكير في يسوع كشخص قادر على فعل كل شيء من أجلي، وبالتأكيد سوف يُلبّي كلّ احتياجاتي، وكل أحلامي. وفي الواقع ليس الأمر كذلك. يسوع لا يفعل هذا أبداً، لأنه يحبنا ويريد حملنا إلى الآب وانفتاحنا عليه. ولا يعطينا يسوع أي شيء لا يخدم هذا الهدف، أو يكون عائقاً أمامه، وذلك من أجل خلاصنا.

والسبب الثالث لكونه طلبا يستثني الآخرين: يعقوب ويوحنّا لا يفكران سوى في أنفسهم ، وبطريقة إقصائية. يفكران ويخططان كما لو أن الآخرين غير موجودين.

ولكن لماذا ييتجرآن على هذا الطلب؟

نجد الجواب في قول يسوع إنهما لا يعلمان ما يسألان. إنّ مشكلة التلاميذ هي بالضبط عدم العلم. والفعل "يَعْلَم" له أهمّية خاصّة في رواية الآلام: في بشارة يوحنّا، الفصل 13، نجد أن الآلام كلّها تعتمد على هذا الفعل: "كان يسوع يعلم بأن قد أتت ساعة انتقاله عن هذا العالم إلى أبيه..." (يوحنا 13، 1)؛ وبعد هذه الآية بقليل: "...وكان يسوع يعلم أنّ الآب جعل في يديه كل ّ شيء..." (يوحنّا13، 3). يسوع يعلم من هو، ويعلم من أين أتى، ويعلم إلى أين هو ذاهب. وبمعرفته هذه، هو يُحبّنا حتّى المنتهى، ويخلع ثيابه، ويأتزر بمنشفة ويغسل الأقدام.

تمّ ذلك بينما التلاميذ يجهلون أن المجد هو في الصليب.

لذا، من المهم أن نعرف التالي: أن نكون على بيّنة من دعوتنا الخاصّة، ومن الهبة الخاصّة التي حصلنا عليها. مع العلم أن هذا يكفي للحياة، وليس من الضروري إضافة أي شيء آخر. نحن نمتلك هذه الهبة في نفس اللحظة الّتي نُشارك الآخرين فيها، أي عندما نشمر عن سواعدنا ونضع أنفسنا في الخدمة، في اللحظة التي نبذل فيها حياتنا، مثل يسوع: هذه هي العظمة الحقيقية، وهذا ما يجب علينا أن نعرفه. وإلا سوف نفقد أنفسنا في أحلام العظمة العقيمة والمدمّرة.

في الواقع، بعد الفصح فقط سيعرف التلميذان كم كانا محبوبَين. وسيعرفان ذلك لأنّهما لم يكونا حاضرين حيث رغبا في أن يكونا: عن يمين وعن يسار الرب المصلوب. في مجد الصليب سيكون هناك لصان. ومن المثير للاهتمام أن هذا التعبير "عن يمين وعن يسار" يرد في مرقس في هاتين المناسبتين فقط، هنا وعلى الصليب. لقد تجنّبا هذه الميتة.

المقطع الثالث يتعلق بإجابة يسوع: بينما يسعى التلاميذ وراء رفعة وعظمة من صنع الخيال، يستخدم يسوع، على العكس من ذلك، صورا تدل على النزول والانخفاض والتواضع، كي يقول أنّ المجد الحقيقي لا نجده في الأعلى، بل في أقل مستوى ممكن، بالإنحناء عند أقدام الأخ في لفتة خدمة متواضعة.

يتم ارتقاء المجد من خلال خفض الذات وفقدانها، وهذا يتناقض تماماً مع ما نتوقّعه على الصعيد البشري.

وإذا كان أسلوب حياة الرسولين الأخوين إقصائيا ومدمراً، فإن أسلوب يسوع يخلق الشركة ويؤدي إلى اللقاء: هو أسلوب العيش من أجل الآخرين، وليس من أجل الذات. وهذا هو معنى الصليب.

يمكننا مقاربة هذا المقطع مع قصة تجارب يسوع في البرّية: في ذلك السياق، يخضَع يسوع للاختبار ويُدعى إلى الاختيار بين مجد العالم الزائل والمجد الذي أعطاه إيّاه الآب؛ وسوف يتعلّم يسوع أنذاك أن يطلب المجد الحقيقي من الآب، كما سيتكرّر كثيراً في الفصل السابع عشر من بشارة يوحنّا، حيث أن المجد الذي يطلبه يسوع لا يتعلّق بالسلطة وتوابعها، بل بالحب فقط.