موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٣١ يوليو / تموز ٢٠١٨
متلازمة ازدواجية الأخلاق

د.حسان ابوعرقوب :

عندما يتحدث (خالد) مع زوجته قبل الخروج ينبهها: انتبهي لحجابك ينبغي أن يسترَ أسفل الذقَن، واحكمي لفّه كي لا تتسرب منه شعرات إلى نظر المتربّصين. ربما عند الوهلة الأولى نظن هذا الشخص ملتزما دينيا وغيورا على زوجته، وذلك لأنه يهتم بأدقّ التفاصيل، مما يدلُّ على ورعه وتقواه، وخوفه من الله، وما أجملَ التقوى!

يجلس (خالد) في متجره يوميَا، ولا يرى بأسا في أن يبيع السلع منتهية الصلاحية بعد العبث بتواريخها، كما لا يرى مشكلة في مضاعفة الأثمان على الناس، كما أنه يحلف يوميًا مئات الأيمان الكاذبة ليروّج سلعته، فيقول: واللهِ هذا أمريكي، وهو يعلم أنه محليّ الصنع، وأنّ العلامات الموجودة على السلعة مزوّرة.

ما الشخصية الحقيقية لهذا الإنسان، أهي التي يُظهر فيها التزمُّت والالتزام، أم التي يُظهر فيها عدم مبالاته بكل تعاليم الدين من الناحية التجارية؟ هل هو ملتزم بأحكام الدين والأخلاق أو غير ملتزم؟

تمضي (فتون) يومها مدافعة عن حقوق الإنسان، ولا تكاد تسمع منها جملة إلا ويسبقها أو يليها كلمة حقوق الإنسان، كما أنها تدرّب على العهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. ولا تملُّ من انتقاد السياسات الحكومية ووصفها بأنها بعيدة عن مراعاة حقوق الإنسان التي تحفظ كرامته، ما أروعَ أن يكون للإنسان قضية ينذر حياته لأجلها! تعود فتون إلى منزلها، وتبدأ بإرسال الأوامر المتتالية إلى خادمتها غير العربية، فإذا تأخرت الخادمة في تنفيذ أمر من سلسة الأوامر المتلاحقة، انهالت (فتون) عليها بالشتائم وقبيح الكلام، ويصل الأمر إلى الضرب في بعض الأحيان، أو حرمان الخادمة من الطعام، أو حبسها في دورة المياه، أو تأخير دفع الأجرة والمماطلة في ذلك.

ما الشخصية الحقيقية لهذه الإنسانة، أهي حقا ليبرالية مدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان، أم أنها مجرد وظيفة ومصدر للرزق؟ لأنّ ما تفعله بالخادمة المسكينة يتناقض مع حقوق الحيوان.

النموذجان السابقان يتكرران في حياتنا كلّ يوم تقريبا، ويحار الإنسان في تحديد نمط الشخصية التي أمامه، ويتعجب من الأنماط السلوكية المزدوجة، التي من الصعب الجمع بينها.

يمكننا أن نفسِّر الظاهرة السابقة بمتلازمة ازدواجية الأخلاق، أو بفصام في الشخصية. فازدواجية الأخلاق تعني أن هذا الإنسان الذي يمارس الأخلاق المتناقضة لم يعد يستند إلى أصول ومبادئ، بل الذي يحدد له الخلق المتبع هو مصلحته أو هواه، أو ما يراه، بعيدًا عن المرجعية الواحدة التي يوهم الناس أنه يستند إليها. أو هو فصام في الشخصية، بحيث يعيش الإنسان في بيته بشخصية، ويعيش خارجه بشخصية أخرى لا تعرف عن الأولى شيئا، لكن بوعي وعن قصد. ويمكننا أن نصف هذا النمط من الناس بالتجار، حيث يتاجر أحدهم بالدين، بينما يتاجر الآخر بالليبرالية وحقوق الإنسان.

يذكرني ما سبق بثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ، ففي روايتيه (بين القصرين، وقصر الشوق) يقفز إلى الأذهان السيد أحمد عبد الجواد (سي السيّد)، التاجر ذو الشخصيتين: ففي المنزل هو الزوج الحازم، والأب الصارم، صاحب الهيبة والجبروت، والمحافظ على أداء الصلوات والعبادات. وخارج المنزل هو الصديق المرح، الذي يسهر كل ليلة مع أصدقائه الثلاثة، بين السُّكر، والرقص، والمومسات.

كثيرا ما يتكرر نموذج (سي السيد) حتى صار واقعًا مرًّا في المجتمع، التقطه قلم المبدع نجيب محفوظ، وحفره في ذاكرة القراء، ليقدم أدبًا روائيًا من الواقع الاجتماعي عن تناقضات الإنسان، وازدواجية أخلاقه.

ملاحظة: الأسماء الواردة في المقال (خالد) و(فتون) وهمية، ولكنّ الوقائع حقيقية بكل تفاصيلها.

(الدستور الأردنية)